09-أبريل-2017

(Getty) أمام مكتبة الأخوين غريم في برلين

أثناء القراءة الأدبية التي شاركتُ فيها في "دار الآداب" في برلين، سألتنا إحدى الحاضرات ماذا فعلنا بمكتباتنا بعد أن خرجنا من بلادنا؟ السؤال فتح الباب لجرحٍ ٍ قديم لم أشفَ منه، فلقد تركت خلفي كتبي وإن لم تكن مكتبة كبيرة، لكنها كانت كتبًا اشتريت معظمها منذ سنوات المراهقة من مصروفي الشخصي، والقسم الآخر إهداءات من أحبة وأصدقاء فرقتهم الحرب في أماكن مختلفة. 

ابتلع البحر صورة والدي التي حملتها معي، رغم خفتها

لكنني تركت هذه الكتب خلفي كما فعلت مع أغراضي وعائلتي ومنزلي ومدينتي، فالقارب الصغير الذي نقلني مع آخرين إلى الجهة الأخرى من البحر لم يكن يتحمل أي وزن زائد سوى أوزاننا، لا أحد هنا يعرف أن البحر لا يحب الكتب والأغراض الشخصية حتى أنه ابتلع صورة والدي التي حملتها معي رغم خفَّتها.
*

حينما وصلت لبرلين سكنت لمدة ستة أشهر في غرفة صغيرة وبائسة في "هايم" (مخيم) مغلق. بدت الغرفة كالسجن، كالبيوت الفقيرة التي يهرب منها البشر في كل مكان. ولذا أردتُ أن أجعل الغرفة طافحة بشيء من الحميميَّة والدفء. ذهبت إلى المتجرِ الذي كان في البلدة الصغيرة التي أقمت بها في تلك الفترة واشتريت مجموعة كتب باللغة الألمانية. كتب لم أكن أفهم أي كلمة فيها، حتى العناوين كانت غامضة، وكأنها تريد قول شيء أكثر من كونها مجرد عناوين. لكن في المحصلة كانت كلها كتبًا أنيقة وجميلة، منحت غرفتي بعض الجمال والحميميَّة التي تفتقدهما.
اقرأ/ي أيضًا: حنان الشيخ.. الكتابة بين الضباب

في ليال طويلة من الوحدة، كانت نظرتي الحزينة تقع عليها فتمنحني السكينة التي كنتُ أحتاجها كيد صديق قديم.
*

تسأل والدتي أخي المقيم في حلب كل فترة عن بيتنا "منزل العائلة"، وتطلب منه أن يؤجره لأحدٍ ما، خشية أن يدخلهُ الشبِّيحة، أو ضباط لطالما دخلوا البيوت الفارغة من سكانها، وهو لا يفتأ يقول إنه في كل مرة يفكر فيها بتأجير المنزل يتذكر المكتبة والكتب التي فيها، فلا يطاوعه قلبه على فعل ذلك. 

لن يولي الغرباء مكتبات البيوت المهجورة الحب الكافي للاستمرار

اقرأ/ي أيضًا: القصّة القصيرة.. وعي اللحظة والتقاطُها

أجل الكتب تمنعُ المرء من تأجير منزله لغرباء، ربما لن يولوا هذه الكائنات الحب الكافي للاستمرار أكثر من أصحابها في المنازل المهجورة. 
*

أتجول هنا في برلين بين عدة مكتبات حفظتها عن ظهر قلب، ورغم أنني لا أقرأ باللغة الألمانية، لكن التجول بين الكتب يمنحُ المرء راحة ما، سكينة يفتقدها في ظل هذه الحياة الاستهلاكية السريعة. غالبًا ما أذهبُ إلى مكتبة "غريم الجامعية" لأدرس اللغة الألمانية، أو اقرأ كتبًا باللغة العربية، وكثيرًا ما أخرج دفتري لأكتب فيه وأنا جالسة بين مئات آلاف الكتب، التي أشعر وأنا بينها كما لو أنني في منزلي، كما لو كنتُ قطًا يجلس في المكان الوحيد الذي يعرفه. وغالبًا ما أنسى هناك خواتمي الكثيرة التي أضعها على الطاولة.

في كل مرة أنسى خواتمي وأحزن عليها، يقول صديقي: ذات يوم ستفقدين قلبكِ أيضًا في مكتبة، وليس فقط خواتمكِ.

 

اقرأ/ي أيضًا:

علوية صبح.. عزلة في منطقة الاشتباك

كتب إسماعيل ياسين.. ماذا قرأ الكوميديان؟