09-يناير-2016

جدارية في ماناغوا في نيكاراغوا

إذا كنا نؤمن بالثقافة التي تكون في خدمة التنمية الشاملة في المجتمعات العربية المعاصرة، فإننا كذلك في حاجة إلى ثقافة نقدية بناءة حتى نتمكن من المساهمة الفعالة في هذا المسار التنموي. ومن مظاهر الثقافة النقدية الانفتاح على كل الاجتهادات والإنتاجات الفكرية والعلمية التي أبدعها الإنسان عبر العصور، في مجالات الفن والعلم والفلسفة والتكنولوجيا. فالقرية التي نعيش فيها تزداد صغرًا مع التطور الهائل الذي تصنعه يد الإنسان كل لحظة، وسنذوب في الزحام إذا أغلقنا كل النوافذ خوفًا مما يجري حولنا.

برز تيار لاهوت التحرير كطريق ثالث بين دين الكنيسة المنحاز للإقطاع والاستغلال، وبين الأيديولوجيات العلمانية الحديثة

من هذا المنطلق نتحدث عن أحد التيارات الفكرية والاجتماعية التي شهد عصرنا الحالي ميلادها، أقصد تيار لاهوت التحرير الذي ظهر في أمريكا اللاتينية، وما لبث أن انتشر في مختلف بقاع العالم، بما في ذلك العالم العربي والإسلامي. 

لقد كان ظهور هذا التيار بمثابة الإعلان عن رؤية جديدة لحركة التاريخ، تزعمها عدد من رجال الدين المسيحيين. مشروع تحريري كبير يهدف إلى النضال من أجل تحقيق الديمقراطية والتقدم والعدالة الاجتماعية والاقتصادية، كمطالب ملحة أمام هيمنة النظام الرأسمالي وتفاقم أزماته التي تفرز المزيد من تقنيات وفنون استغلال الإنسان للإنسان، الشيء الذي يقتضي الرجوع إلى الأفكار الإنسانية الأولى التي دعت إليها الديانات الكبرى، باعتبارها أفكارًا تدافع عن الفقراء والمضطهدين والمستضعفين في الأرض.

لقد برز تيار لاهوت التحرير كطريق ثالث بين دين الكنيسة المنحاز للإقطاع والاستغلال وبين الأيديولوجيات العلمانية الحديثة. من بين ممثلي هذا التيار في أفريقيا والعالم العربي الإسلامي نجد: فرانز فانون ونيكروما وجمال الدين الأفغاني وعلي شريعتي وعبد الرحمن الكواكبي... ولعل من أهم منظري لاهوت التحرير الذين لا يزالون يساهمون بكتاباتهم في تطويره وإغنائه المفكر المصري الدكتور حسن حنفي، الذي ألف العديد من الكتب والدراسات في الموضوع خاصة في مشروعه الضخم "من العقيدة والثورة"، بالإضافة إلى مقالاته وحواراته في المجلات والدوريات العربية والعلمية.

ينطلق حسن حنفي من التمييز بين اللاهوت القديم واللاهوت الجديد، فإذا كان الأول يهتم بقضايا ذات الله وصفاته، فإن اللاهوت الجديد أصبح يهتم بقضايا الناس الاجتماعية والاقتصادية مثل التخلف والبطالة ومشاكل الزراعة والتصنيع والبيئة وطرق التنمية والتعليم. 

هكذا ظهرت أشكال جديدة من اللاهوت: لاهوت التقدم، لاهوت الحضارة، لاهوت العمل، وبعبارة أخرى: لاهوت التنمية، الذي يهدف إلى المساهمة الفعلية من أجل ازدهار المجتمعات خاصة في البلدان التي تحتاج إلى جهود كبيرة، وذلك بتعبئة الجماهير المتدينة والتأكيد على أن وظيفتهم الدينية هي إعمار الأرض وزراعتها. فلا يعقل أن نتفرج على المجاعة في أفريقيا ونحن نحصل بوفرة على الإمكانيات المادية والروحية لإشاعة روح التنمية والتشجيع على الإنتاج الزراعي والحيواني.

أصبح العرب جزءًا من العولمة، وبالتالي فإن مشاكلهم تحولت إلى مشاكل عالمية

إن المشاكل التي تعاني منها مجتمعاتنا هي احتلال الأرض وتغلغل الاستعمار وانعدام الحريات الأساسية والتوزيع غير العادل للثروات والتفاوت الطبقي، الأمر الذي يستدعي التجنيد -في نظر حسن حنفي- للدفع بالجماهير من أجل الخروج من هذا المأزق التاريخي وبناء مجتمعات معاصرة تساهم في النهضة وتحقق العدالة، لأن الغاية الأولى والأخيرة هي تكريم الإنسان عبر دفعه للتصالح مع العصر الذي يعيش فيه وذلك، بإعمار الأرض وإبداع الفكر المتسامح والرأي المنفتح والمستنير فيزول العنف والعدوان وحرب الإنسان ضد الإنسان.

لا بد من إحلال الرؤية الإنسانية العقلانية للعالم والإنسان بدلًا من الرؤية اللاهوتية المغلقة، وهذا يقتضي إعطاء قيمة للإنسان واعتباره غاية ومصدرًا للمعرفة يفتح آفاقًا جديدة لمعنى السعي البشري لإنتاج التاريخ. هذا هو الشرط الأساس لتحرير العقل من القيود التي كبلته على مر العصور، وبالتالي فتحه على التأويل الحر لذاته وللعالم.

لقد أصبح العرب، كما يقول الدكتور فتحي المسكيني، جزءًا من العولمة، وبالتالي فإن مشاكلهم تحولت إلى مشاكل عالمية، وهذا ما يسوغ التعامل مع أدوات التفكير الغربي من أجل فهم واقع هذه المجتمعات وسكانها، كما أن هذه التحولات هي التي تجعلنا على بينة من نهاية العصر الهووي على جميع الأصعدة.

وإذا كانت الفلسفة هي نمط نادر من إنتاج الحقيقة، وإعداد للعقول الحرة والتزام مدني بقيم المعرفة، فإنها ستكون بالفعل كما صرح نيتشه فنًا للبحث عن أنوار جديدة، أي أنوار حقيقية وليست مستعارة أو استهلاكية دعوية، أنوار تنهض على العقل الحر، لكن شريطة أن تكون الحرية مشتركة بين هذه العقول.

اقرأ/ي أيضًا:

المهدي المنتظر.. بين الواقع والأسطرة

جنود السماء