17-يوليو-2017

بوابة الديوان الهمايوني في قصر طوب قابي

ما بين كَتَبة السلطان وفقهاؤه سار تاريخنا. فلكل ديوان سلطان كاتبٌ، الكتابة وظيفته وحرفته، وهو المستشار الذي عليه توقفت مصائر أو قُضيت جرائر. وظيفة فيها المعلن والمخفي، لها مواصفات ودور، تباينت الآراء حولها، ذمَّها من ذمَّ ومدحها من مدح، لكنها في كل الأحوال لعبت دورًا مفصليًا، واستدعت لأداء هذا الدور مواصفات ومَلَكات، وعليهم توقفت أمور وارتهنت أمور.

ما بين كَتَبة السلطان وفقهاؤه سار تاريخنا. فلكل ديوان سلطان كاتبٌ، الكتابة وظيفته وحرفته

كانت أفواه الكُتَّاب في آذان سلاطينهم، فأسهموا وإن لم يعلنوا. يقول أحد أشهر كتاب الدواوين، واسمه عبد الحميد، وكان كاتبًا لديوان مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية: "حفظكم الله يا أهل الصناعة، بكم ينتظم الملك، وتستقيم الملوك أمورهم. وبتدبيركم وسياستكم يصلح الله سلطانهم ويجتمع فيئهم وتعمر بلادهم. ولا يستغني عنكم منهم أحد، ولا يوجـد كاف إلا منكم، فموقعكم منهم موقع أسماعهم التي يسمعون". ويبدو من كلام عبد الحميد الكاتب كيف أصبحت وظيفة الكاتب مصدرًا لدعم الحاكم واستقرار الحكم، أما الخبرات والمعارف اللازمة لهذا الدور معتبر الأهمية، فيحددها نفس النصّ الذي يخاطب الكُتَّاب: "تفقّهوا في الدين، وابدؤوا بعلم كتاب الله، وارووا الأشعار واعرفوا عنها غريبها ومعانيها، وأيام العرب والعجم، وأحاديثها، ولا تضيعوا النظر في الحساب، فإنه قوام كتاب الخراج".

اقرأ/ي أيضًا: هزيمتنا في الرواية المصرية

هذه المواصفات، على سطحيتها، فتحت الباب أمام "مفرخة" لتخريج صنّاع سياسات الدولة الإسلامية، غير أن تلك الوظيفة/المكانة لا تضمن سوى وجاهة مصدَّرة للخارج، فوظيفة الكتابة لم تمنح الكاتب الحرية المفترض ارتباطها بها، بل وجب عليه التماهي مع السلطة والتزام السمع والطاعة في شؤون الحكم، وهو ما يجعل ابن المقفع يتوجه إلى زملائه الكُتّاب بقوله: "فاعلم أنك إنما تعمل عمل السخرة". ووفقًا لهذه الرؤية، يصبح كاتب السلطان مرتهنًا للزبون الذي يبيعه بضاعته، بل ويتعدّى الامر ذلك ليصير أشبه بماريونيت أو دمية تنقاد لأهواء صاحبها: "تعلمهم وأنت تريهم أنك تتعلم منهم، وتؤدبهم وكأنهم يؤدبوك. تشكرهم ولا تكلفهم الشكر، بصيرًا بأهوائهم، مؤثرًا لمنافعهم، ذليلًا إن ظلموك، راضيًا إن أسخطوك. وإلا فالحذر منهم كل الحذر". وعلى ذلك، فنحن أمام حالة من الانبطاح والتسليم الكامل يمتهنها كاتب السلطان في وظيفته، طوعًا أو غصبًا، لأنه في النهاية لا يملك سوى خيارات محدودة في أرض غريبة، فإما أن يختار له مكانًا تحت قدم الحاكم وينتظر العطايا، وإما أن يتعفف وينأى بنفسه عن الزلل في مواضع السياسة وينتظر معيشة صعبة وأيامًا سوداء.

مع تنامي واتساع السلطة، جرى نوع من النمو لهذه الفئة، وعظم الاحتياج إلى أعداد من الكُتَّاب لاستيعاب تضخم شبكات المُلك. وهنا انفصلت الأجهزة الديوانية التي يمثلها الكُتاب من جهة، عن الأجهزة الشرعية الممثلة في العلماء والفقهاء من جهة أخرى؛ فصرنا أمام جهازين، أحدهما إداري يضم الكُتاب والآخر شرعيًا يضم العلماء. وبالأحرى، صار هناك نظامان معرفيان، طريقان تعارضا إلى درجة الصراع. على المدى التاريخي، تشكّلت طبقة كُتاب الدواوين من غير العرب، وكان خطابها مختلفًا عن الخطاب الديني، وظلت كذلك لأجيال طويلة. أول من أرسى قواعد فنية لهذه الوظيفة هو كاتب ديوان هشام بن عبد الملك، واسمه سالم، وعبد الحميد، كاتب ديوان مروان بن محمد، ثم ابن المقفع. هؤلاء الثلاثة قدّموا قواعد كتابة فنية متخصصة، وأرسوا أيضًا قواعد تعزيز الطاعة للحاكم في جميع أحواله، طمعًا في المصالح الشخصية، فعملوا على غسل أدمغة الحاكم والمحكوم، سواء بسواء، من خلال السعي لغرس قيم الجبر والتسليم بطبيعة السلطة، والتبرير لشرعيتها ما دامت متغلّبة وقائمة.

إن الكاتب هو قبل كل شيء مزوٍّر يستعمل الكتابات التي لا يمكن لغيره فكّ رموزها، وينتقل من كتابة إلى أخرى ويؤثر على الأحداث بواسطة المكتوب وبواسطة الحيلة. هذا ما يورده الجاحظ في رسالته عن الكُتاب، والتي لا يتورّع فيها عن ذمّهم، إذ يرى فيهم تابعين وفي وظيفتهم دورًا أشبه بالخدَم؛ يقول: "ما أعلم أهل صناعة ما ملئًا لقلوب العامة منهم. هذا وليس صناعتهم بفاشية في الكُتاب، ولا بموجودة في العوام، فأغزرهم علمًا أمهنهم، وأقربهم من الخليفة أهونهم". هناك حذر دائم يحيط بالعلاقة ما بين الكاتب والسلطان أو الحاكم، والخطاب الذي يمليه لا يمثّله بالضرورة، والقراءة الخلفية لهذا الخطاب تكشف عن الدور غير المباشر والحاسم الذي لعبه ليس بصفته ناصحًا للسلطان فحسب، ولكن من خلال مشاركته في مشروع السلطة أو صياغته له، فالكاتب المثالي " شامي الطاعة، عراقي الخط، حجازي الفقه،  فارسي الكتابة"، كما يقول عبد الملك بن مروان. وباختصار، يمكن القول إن القاعدة كانت "قل لي من هو كاتبك الديواني (أي مستشارك) أقل لك على الأرجح كيف يسير حكمك".

مع تطور وتغوّل وظيفة كاتب السلطان، حمل صاحبها تاريخيًا أوصافًا أشارت إلى سبل إعداده وربما مكانته ودوره الاجتماعي والثقافي والسياسي. هو المولى العام، الرئيس، الصدر الفاضل، الكاتب البارع، المنشئ، اللغوي. في عام 1744 كتب أحمد رسمي مؤلفًا بعنوان "حديقة الرؤساء"، ذكر فيه 640 اسمًا لرؤساء الكُتّاب أو كتبة الدواوين إبان الدولة العثمانية، مرتبين زمنيًا. نقطة الارتكاز لدى هؤلاء كانت معرفة القوانين، وعلينا معرفة أنه في بداية الدولة العثمانية اتصف الحكم بسمت عسكري واضح، بسبب ما عُرف بنظام "الدوشرمة"، الذي قام على إعداد العبيد والأسرى من الفتيان، وكان هؤلاء خط الإمداد بالعناصر الموهوبة للوصول إلى المناصب العليا.

عبّر ابن خلدون أن وجود ساسة أذكياء يمكن أن يمنع التدهور النهائي

حملت الحكومة العليا اسم "الديوان الهمايوني"، وتشكّلت من الصدر الأعظم ووزراء القبة وممثلي العسكر ، المعروفين باسم"السيفية"، وقبودان البحر ثم ممثلي الجهاز الديني، الذين يشار لهم بـ "العلمية"، ثم الكُتَّاب أو "القلمية"، وهكذا تنفصل الأجهزة بعضها عن بعض. دخل أبناء الشعوب التي كانت تحتلها الدولة العثمانية مع ترهل الدولة وانحلالها نهاية القرن السادس عشر، فأُلحق العرب بإدارة الدولة، وإن ظلّ الطابع الحرفي مسيطرًا على وظيفة الكاتب أو أهل القلم، فكان لابد من معرفة الخط والكتابة والمحاسبة التركية وفنون ملحقة بالصنعة كفنون الإنشاء. صار إعداد المتدربين المعروفين باسم "الشاغرد" يشمل المعارف الإسلامية التقليدية، الفقة والأدب والتاريخ واللغة والخط والإنشاء والحساب، وكان من العلماء مَن ينضم إلى الكُتاب تبعًا لرغبة الحاكم، مع أن جهاز العلماء كان يتفوق من حيث النفوذ، لاستنادهم إلى شريعة إلهية وتراث فقهي ولأنهم كانوا يبسطون نفوذهم فعلًا على كل أجهزة الدولة، بما في ذلك المؤسسة العسكرية والشارع الذي يضم الجهاز الديني الآلاف من أبنائه.

اقرأ/ي أيضًا: برج بابل "اللّغات" العربية

وعلى الرغم من تباين الخطين المعروفين لكل من الكُتاب والعلماء، فإن وقوف كتبة السلطان على رأس متشاري الديوان كان ملفتًا حين تساووا بالعسكريين  والفتردار ولعلاقتهم المباشرة بالحكم، بحيث كان لرئيس الكتاب الفرصة لتجاوز كل هؤلاء ومدّ النفوذ وزيادة مناطق الاختصاص ووضع المسؤولين عن العلاقات الخارجية والترجمة والسفراء والمتصلين بالمفوضين الأجانب تحت إشرافه، بحيث أمكن له الكلام باسم السلطنة في القرن السابع عشر. وتضخّم الدور أكثر مع القرن التالي، لدرجة أن احتل بعضهم منصب رئيس الوزراء أو الصدر الأعظم، بسبب ما قاموا به من أدوار في المنعطفات التاريخية مما غيّر جذريًا من وظيفة "كاتب السلطان" من مجرد خبير في شأن محاسبي وإداري إلى "صانع سياسة" وموجِّه للدولة.

الانتشار الكبير لكتاب السلطان في عصور الخلافة العثمانية جاء بمثل هذه التغيّرات، فنجد بينهم المتسلقين والمنافقين وذووي النفوذ الهائل وأصحاب الرؤية والكفاءة، فكان منهم من استشعر مبكرًا آفات الدولة ونبّه لها، وفي فترات كان الكتاب هم الأكثر تنبهًا لأزمة الدولة المتداعية ومكّنهم تنظيمهم الدقيق وتسربهم إلى ثنايا الدولة ودواوينها إلى ملامسة مشكلات دقيقة متعلقة بالقوة العسكرية وخزينة الدولة. وعلى ذلك، أثبت الكتاب فاعلية أكبر من من فئة العلماء في مواجهة الفساد، الذي وصل إلى الأنظمة الشرعية والقضائية والمدرسية، ومع ذلك انتقد العلماءُ الكُتابَ الذين شكّل بعضهم أجراس إنذار للحكم، قبل أن تغرق السفينة كلها. وكما عبّر ابن خلدون، فإن وجود ساسة أذكياء يمكن أن يمنع التدهور النهائي، رجال السياسة الأذكياء من عاقلي الذات بإمكانهم منع انحطاط الدولة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

لماذا يُترجم الكتاب الواحد 16 ترجمة مختلفة؟

الشعر روح الرفض في زمن الاستبداد