21-أغسطس-2016

(Getty) كيم إكلين

كيم إكلين روائية ومترجمة ومحررة كندية، من مواليد 1955، تحمل شهادة الدكتوراه في الأدب الإنجليزي. صدرت لها عدة روايات منها "المفقود"، و"في ظل الحياة المرئية" و"شتاء الفيل". رشحت لعدد من الجوائز الكندية والعالمية منها جائزة Scotiabank Giller Prize الأهم في كندا. الحوار أدناه جاء على هامش إصدارها لرواية "المفقود" التي تتحدث عن القمع في كمبوديا، الذي يصدر قريبًا عن "دار ممدوح عدوان".


  • هل أقمت في كمبوديا فترة من الوقت سواء قبل أو في أثناء تأليف هذا الكتاب؟ كم استغرق منك البحث وقتًا؟ ما سبب استخدامك لعبارة "أخبر الآخرين" الواردة في الكتاب والمقتبسة عن "فان ناث"، أحد الناجين من سجن تول سلينج؟

سافرت إلى كمبوديا لمدة قصيرة بصحبة فريق بحث طبي يعمل على برامج تلقيح الأطفال. تأثرت في أثناء زيارتي بالنصب التذكارية المتنوعة لهؤلاء الذين فقدوا في أثناء عهد الخمير الحمر، منذ ثلاثين عامًا تقريبًا. من متاحف كبيرة، مثل متحف "تول سلينج" في العاصمة بنوم بنه، إلى لافتات صغيرة مكتوبة بخط اليد مسمَّرة على الأشجار في الريف، عبّر الناس عن إرادة قوية لـ"لن ننسى". التقيت امرأة في السوق روت لي قصة فقدانها كامل أفراد عائلتها، وعندما أجبت: "هل يمكنني المساعدة؟ ماذا في وسعي أن أفعل؟". أجابت: "لا شيء. فقط أردتك أن تعرفي".

كيم إكلين: أمل الأفراد بالحرية والعدالة يوجد في الغالب مستقلًا عن أي نظام سياسي بعينه

قال فان ناث: "أخبر الآخرين"، وتجربتي في كمبوديا كانت أن الكثير من الناس أرادوا أن تروى الحقيقة. يبدو لي أن أمل الأفراد بالحرية والعدالة يوجد في الغالب مستقلًا عن أي نظام سياسي بعينه. في ظل نظام قمعي، سيقاوم الناس خفية إذا استطاعوا إلى ذلك سبيلًا. في ظل نظام أقل قمعًا، سيتحدَّثون. المحاكمات الحالية في كمبوديا هي نتيجة للضغط العالمي وأيضًا نتيجة للرغبة العلنية في هذه المحاكمات من قبل الكمبوديين مثل الفنان فان ناث، أو يوك تشانج، الذي يواصل جمع المعلومات لصالح "مركز التوثيق الكمبودي".

اقرأ/ي أيضًا: إيزابيل الليندي: الحياة بلا تخطيط

بالتأكيد، "المفقود" عمل أدبي، كل بلد فيه قصص عن الظلم وعن "مفقودين" بما في ذلك كندا، حيث نشهد حاليًا المدارس الهندية الداخلية ولجنة تقصِّي الحقائق والمصالحة. العمل لحماية الحرية مستمر. 

  • لا بدَّ من أن التعمُّق في القصص خلف الخمير الحمر كان صعبًا. هل آلمك التفكير فيها أحيانًا أو أحسست أنها كانت تستنزفك للغاية؟

روى لي كثير من الناس الذين تحدثت معهم عن "المفقود" قصصًا شخصية عنهم أو عن نضالات عائلاتهم مع أنظمة قمعية. "متى" تتذكَّر و"كيف" سؤالان يحضران مرارًا وتكرارًا. هناك حكاية قديمة للأخوين جريم تدعى "العظام المغنية"، وفيها تُنبش عظام رجل قتيل بعد سنوات طويلة، وعندما تهب فيها الريح تغني قصتها. في قصصنا القديمة نرى ضرورة الإيمان بظهور الحقيقة. حتى لو كانت مؤلمة. 

لكن ردًّا على سؤالك: بعد الحرب العالمية الثانية، كتب الفيلسوف والموسيقي "تيودور أدورنو" مقولته الشهيرة: "إن مواصلة كتابة الشعر بعد أوشويتز لهو عمل بربري". بعد سنوات طويلة لطَّف قوله قائلًا إن: "المعاناة المستمرة لها الحقُّ في التعبير عنها كما للمعذَّب الحقُّ في الصراخ". 

بدأ الكتَّاب التفاعل مع أحداث الحرب العالمية الثانية سريعاً جداً بعد نهاية الحرب، ومنهم "بول تسيلان" في قصيدته "متتالية الموت"، لكن في الكثير من الأحيان يستغرق نشر وترجمة هذه الكتابات سنوات. أظن قطعًا أن الشهادة الفنية على الوحشية تمنح الجناة تنبيهًا لا مبرر له. لكن أحيانًا تمر سنوات قبل أن يكون للناس القدرة على سماع القصص وهذا أمر في وسعي تفهمه.

هناك بعض الذكريات المكتوبة بشكل جميل ومدمر عن سنوات الخمير الحمر من كمبوديا، وأيضًا عروض رائعة ورقصات وموسيقى. لدينا قصص من الصين في ظل حكم ماو يسميها الصينيون "أدب النُّدبة" وذكريات وأدب من الأرجنتين وتشيلي تسمى "testimonio." أي "الشهادات". لدينا في كندا العديد من اللجان التي تجمع القصص عن مجموعات عانت هنا، لا سيما في أثناء فترات الحروب.

قصة كل مجموعة مميزة بحد ذاتها. لكن يصلها جميعًا خيط مشترك هو الإيمان بأن الناس يؤكدون أنفسهم عبر رواية القصص. القصص تعلم وتبهج. هي تسمح لكل من المتحدث والمستمع أن يصبح أكثر وعيًا، أن يعرف التاريخ، ويتأمل في مسائل أخلاقية وذات مغزى. نعم، عرض هذه القصص مؤلم.

  • اللغة دومًا مهمة في رواياتك. هل تعلمت لغة الخمير لتتفهمي شخصياتك وأجواء الكتاب بشكل أفضل؟

كان التحدي في هذا الكتاب إيجاد لغة يمكنها أن تروي قصص الإبادة الجماعية وتعكس بشكل دقيق ثقافة الخمير. كتبت الكثير الكثير من المسودات، وكان لدي مستشارون جيدون جدًا على الصعيدين الثقافي واللغوي في كمبوديا. أحسست في أثناء الكتابة بعجز في اللغة إلى أن قالت لي مترجمة رائعة ومرشدة هي ليندا جابوريو: "خذيني إلى مركز الظلمة، أرِيني ما هي". بعد ذلك، أعدت قراءة الشهادة عن هؤلاء الذين عانوا في الحرب أو الإبادة، ولاحظت أن أسلوب القص مشذب للغاية. يقول الناس: "عُذِّبتُ"، "اغتُصبت"، "رُميت في مقبرة جماعية واستطعت الخروج". هناك القليل من التزويق، ما من استعارات، وصف قليل خلف الرواية البسيطة للحدث. أردت أن يعكس أسلوبي هذا النوع من اللغة: مقتصد، أساسي. من هنا تبدأ اللغة، في كل اتصال مباشر بين شخصين. ثم لاحظت أن بعض أعظم قصائد الحب أيضًا فيها هذه الخاصية الأساسية المقتصدة. أقدم قصائد الحب المكتوبة في العالم، أغاني إنانا عن الحب من الحضارة السومرية: "حبيبي، عيناك جميلتان، وجهك حلو"، أو تلك التي من سفر نشيد الأنشاد: "أوه، ليقبلني بقبلات فمه"، وأيضًا كلمات الحب في الموسيقى المعاصرة أغنية "هي تحبك" للبيتلز، تستعمل لغة مباشرة وغير مزخرفة. يبدو أن أعمق تجاربنا والأكثر قوة تنتمي إلى مكان لا يمكن للغة الوصول إليه إلا بصعوبة. وعندما يكون الأمر هكذا، أظن أن الإيقاعات التي تضم كلمات الفرد معًا تصبح شديدة الأهمية. 

كيم إكلين: أعمق تجاربنا والأكثر قوة تنتمي إلى مكان لا يمكن للغة الوصول إليه إلا بصعوبة

  • النصف الأول من الكتاب يقرأ تقريبًا كرسالة حب إلى "سيري". معظم الناس لا يمكنهم سوى أن يحلموا بهذا الحب الذي تقاسمه آن وسيري. هل تؤمنين حقًا بمثل هذا الحب الرومانسي المتعاظم، أو بأننا نرنوا إلى نكون مع شخص واحد فقط؟

أظن أننا نلتقي الكثير من الناس طوال أيام حياتنا الذين نشعر أنه "مقدر لنا أن نكون معًا"، إذا كنا صريحين. بطريقة ما، كان مقدر لي أن ألتقي المرأة في سوق بنوم بنه التي شاركتني تجربتها، لكن ذلك اللقاء لم يحدث إلا بسبب الكثير من الناس ممن ألهمونا طوال أيام حياة كل منا، أن تتحدَّث هي بصراحة، وأن أصغي أنا بدوري. في لحظة المصادفة المقتضبة تلك، يمكن للمرء أن يقول إنه كان لقاء روحين.

اقرأ/ي أيضًا: الأدب الأفريقي ومسألة اللغة

عندما يدعو سيري آن بـ "قدره"، هو يتحدَّث في سياق رومانسي. لكن ربما كانت كلماته أكثر تنبُّؤًا مما يعرف في لحظة الوقوع في الحب الجميلة. آن وسيري عاشقان قبل أن يعرف أي منهما أن مصيرهما المشترك سينتهي لتكون آن الشخص الوحيد في العالم الذي يعلم، ويروي أخيرًا، قصة سيري. بدونها كان ليقتل وينسى. دونه لم تكن لتعرف الحب الذي لا ينشد أن يتبدل. إذًا القدر والذكرى تجاوزا الزمن وأصبحا مترابطين.

  • فقدت الكثير من الشخصيات أحباء في الحرب (أو في ظل ظروف مشابهة لظروف الحرب)، الأبرز من بينها آن، سيري، وسوخا، وتأذوا بسبب ذلك عميق الأذى. كيف تظنين أنه يمكن للفرد تجاوز التفجع الداخلي عميق الجذور كما كان تفجعهم؟

هذا سؤال كبير. أعتقد أن الجواب مرتبط بشكل منفصل بكل شخص على حدة. ينضم سيري إلى حركة المعارضة، ينضم أخوه سوخا إلى الجيش. تبحث آن عن حقيقة وضعها الخاص واضطرت إلى مواجهة الأسئلة الكونية التي نجدها في مسرحية "أنتيغون". كيف نعيش بين مصالح الدولة والفرد المتناقضة والمتضاربة غالباً؟ هل للدولة الحق في أن تنكر رغبة الفرد الإنسانية في تسمية وتكريم موتاه؟

للتحدث عن تجاوز الصدمة، سوف ألجأ إلى "جين آميري"، الناجي من أوشويتز ومؤلف كتاب "عند حدود العقل". كتب آميري: "أيًا كان من خضع للتعذيب لم يعد في وسعه أن يشعر بالانتماء إلى العالم". يكتب أن الثقة لا يمكن استعادتها، والمعذب يظل معذبًا. لم "يتجاوز" أي من شخصيات قصتي الصدمة أو الخسارة أو الألم أو الخيانة. لهذا السبب، الرواية هي عن اللغة والذكرى. عن أن استعمالنا للغة هو خيار أخلاقي. هل نستعمل لغة البروباغندا التي تمحو إنسانية الآخر؟ هل نستعمل لغة المقاومة رغبة في مواصلة كشف الحقيقة؟ كما يكتب كامو في كتابه "الإنسان المتمرد": "لغة التمرد تكشف جزءًا من الإنسان يجب دومًا أن يكون محميًا". هل نستعمل الذكرى لتسمية الموتى، لتذكر قصصهم، للعمل على إرساء العدالة؟

كيم إكلين: يجب على الناس أن يجدوا الشجاعة للتحدث ومقاومة حكوماتهم إذا كانت الحريات مشوهة أو مورثة

  • هل كان من الصعب إبقاء تركيز القصة على آن ووجهة نظرها، وليس التعمق كثيرًا في سياسات الحقبة الزمنية؟

بعد نظام بول بوت (1975-1979) وانسحاب الفيتناميين، كانت سلطة الأمم المتحدة الانتقالية مفوضة لمراقبة حكومة كمبوديا ومحاولة خلق الظروف الملائمة لإجراء انتخابات ديمقراطية عام 1993. كان العمل شديد التعقيد. كان هناك مجاعة ومرض، أعداد هائلة من اللاجئين كانوا يعيشون على الحدود. قتل أغلب المتعلمين في البلاد، والفنانين، والرهبان البوذيين. دمرت الطرقات والجسور، الزراعة في حالة من الفوضى. كانت البلاد (ولا تزال) مزروعة بالألغام على نحو كبير.

كان هناك الكثير من الفصائل السياسية المختلفة استعملت العنف والقوة للوصول إلى السلطة. جيل أو أكثر من الشبان ممن أُبعدوا عن عائلاتهم وتم تلقينهم على يد الخمير الحمر، وأعداد كبيرة من الشبان لم يعرفوا شيئًا سوى الحرب.

اقرأ/ي أيضًا: إيلوثيريا رابعة

ما أردت أن أرويه هي قصة الشغب المعقد الذي يصاحب التبدل في الأنظمة السياسية: كيف يتطلب الدفاع عن الحرية والحقوق الفردية يقظة مستمرة (ومعارضة عندما تنحرف الأمور)، كيف تخلق الحكومات المتكتمة الظروف لتعطيل حقوق الإنسان. هذه ظروف نراها حول العالم، بما في ذلك الغرب. عندما يواجه مواطنون أبرياء من أمم ديمقراطية خطر تسليمهم إلى حكوماتهم وتعذيبهم، كما حصل للكندي "ماهر عرار"، عندما يمكن أن تمارس القوى العسكرية التي تمثل أممًا ديمقراطية التعذيب في سجون مخفية، كما شهدنا جميعًا في سجن أبو غريب، حينها لا يمكننا أن نكون واثقين من هذا: حقوق الأفراد مسؤولية الجميع، ويجب على الناس في جميع أرجاء الكوكب أن يجدوا الشجاعة للتحدث ومقاومة حكوماتهم إذا كانت الحريات مشوهة أو مورثة. لكن "المفقود" هي رواية، قصة آن. أردت أن تروى هذه القضايا من خلال قصة فرد وأن أجعل السياسات التفصيلية مضمنة في تلك القصة.

  • يدور هذا الكتاب وروايتاك السابقتان، شتاء الفيل وابنة داجمار، حول شخصيات أنثوية قوية. هل ترين أي تشابهات فيما بينها؟

أحب هذه الشخصيات الأنثوية القوية. عندما أتحدث مع القراء أشعر بشهية كبيرة عند النساء لاستكشاف قوتهن وارتباطهن العاطفي على حد سواء، أمور لا تزال الثقافة السائدة تنحو إلى عدم احترامها. أحب رواية القصص عن نساء يتصرفن وفق عواطفهن.

كيم إكلين: أحب رواية القصص عن نساء يتصرفن وفق عواطفهن

  • هل يمكنك أن تخبرينا على ماذا تعملين الآن؟

أعمل حاليًا على كتابين جديدين، واحد أدبي والثاني غير أدبي، يقدمان معًا بحثي حول "أدب الشهادة". أظن أن "إيلي ويسيل" المؤلف والناجي من الهولوكوست هو من كتب: "إذا كان الإغريق قد ابتكروا المأساة، والرومان الرسالة، والتنويريون السوناتا، فإن جيلنا ابتكر أدبًا جديدًا، وهو أدب الشهادات". هذه عبارة تبناها كتاب أمريكا الجنوبية مثل التشيلي آريل دورفمان. وهكذا، في هذا الكتاب غير الأدبي، أبحث في أمثلة أثرت فيَّ من أدب الشهادة -في لجان تقصي الحقائق، في المسرحيات والروايات- وأفكر في معانيها.

اقرأ/ي أيضًا:

إيلان بابيه يفضح "فكرة إسرائيل"

ضياء جبيلي.. ديانات وقوميات في شخص واحد