28-نوفمبر-2017

يعرف شهود المذابح عن الموت أكثر من غيرهم (ماريو تاما/ Getty)

ما علاقة الأرقام بالمذابح؟ في كل مذبحة رقم وسردية، وبعد أن أصبحت السردية واقعًا، أرهف السمع إلى الشهود العيان، فهم يعرفون أكثر. رأوا الموت يجني ثمار انتظاره رغم أنه لا ينتظر. في حادثة حافلة الرحلة إلى دير الأنبا "صمويل المعترف"، التي وقعت قرب المنيا، تحكي إحدى الجدات كيف تلقى حفيدها رصاصة في فمه فمات على الفور. أمه نصف حية تحت تأثير المخدر والإصابة.

كل مذبحة هي رقم وسردية، وبعد أن تُصبح السردية واقعًا، فإن إرهاف السمع للشهود واجب، فهم يعرفون أكثر عن الموت

المفارقة أن القديس نفسه، أي الأنبا صمويل، في تاريخه المحكي أصيب في إحدى عينيه من ضربة سياط أخطأت جسده. لا شيء يثير الاهتمام في الموت. حافلتان تمت مهاجمتهما في هذا الحادث، إحداهما لخادم الدير وبعض الشمامسة، والأخرى للأطفال. كانت حافلةً كاملة كل من فيها أطفال وبعض الأمهات والجدات. أصغر الأطفال كانت موريسكا، عمرها سنتين، وعدد الشهداء كاملًا 28.

اقرأ/ي أيضًا: بعد هجوم حافلة أقباط المنيا.. ما لا تعرفه عن "داعش الصعيد"

*

 

تقول ميّ مظفر في مجموعتها الأثيرة إلى نفسي "ألم يبق منهم أحد"، التي كتبت فيها عن العراق العزيز من الداخل، الملح والناس والسينما والموسيقى والحياة الطبيعية، قبل أن يتصدر العراق شاشات الأخبار بوصفه وجبةً دسمة للأحاديث عن المجازر والمذابح والحرب والمهجّرين والمغتربين والموت المجاني. قالت ميّ: "لا يوجد مدينة مثل بغداد، يتداخل فيها الأسطور بالواقعي. قليلةٌ هي المدن التي تحتل مكانة في الخياة والذاكرة الجمعية كما هي بغداد. مدينة حاضرة غائبة، لا تُعمر إلا من أجل أن تخرب".

من كل ما يعلق برأسي عن ذبح العراق، هناك مذبحة حلبجة ومذبحة كنيسة سيدة النجاة وليلة سقوط بغداد نفسها، التي صادفت رحيل جدتي العزيزة. إنها الذاكرة الانتقائية الأنانية في اختيار المذبحة وأرقامها. بابٌ سيفتحه عليك المزايدون في سوق المذابح الكبير، ليسألوك سؤالًا خسيسًا من نوع: والباقون الذين قضوا في السجون والصحاري، وصرعى حصار الموت، والكيماوي؟ يمنعك شعرك الأبيض ومقاطعتك للجدل البيزنطي وسفسطة المثقفين، وشيء من أدب الحوار، أن تجيب على مثل هذه الأسئلة.

*

 

أوّل كتابٍ وقع في يدي وأنا مراهقة، كان توثيقًا متميزًا لحياة الناس في الحرب الأهلية بلبنان. ظل الكتاب معي حتى أهديته لصديقة ولم أره مرة اُخرى. وقتها كانت التدريبات على أشدها في المدارس بالكويت على الإخلاء السريع للملاجئ الأرضية بعد ورود أنباءٍ عن تهديدا بضرب الكويت بالكيماوي. كان أبي وقتها يوقظني من نوبات فزع تصيبني وأنا نائمة.

كنتُ أهوى تتبع خيوط المذابح في كل مكان، ربما شغفًا باستحضار الموت، وربما خوفًا من انتظاره

بعدها اهتممت بكتاب آخر عن مذبحة دير ياسين. شهادات الناجين وصور الراحلين. أصبحت قرون استشعاري تتبع خيوط المذابح في كل مكان. هل هو شغف باستحضار الموت أم خوف من انتظاره؟ لا أدري!

اقرأ/ي أيضًا: الموت يعمر الأرض

كنت صغيرة أيضًا وأنا أتابع أسعد طه بمعطفه الثقيل يخوض غمار توثيق حرب البوسنة. قرأت عن المذابح هناك. التفاصيل مرعبة: كما عن الرجال الذين علقوا في دلو بئر وظلوا أسفله حتى اختنقوا وماتوا، وعن المقابر الجماعية التي يدخل الناجون فيها لقراءة الفاتحة على أي قبر كان، فمعظم القبور تحوي بقايا العظام والقصص.

*

 

لكن، لماذا أتجنّب المذابح في مصر؟ أُطفئ التلفاز وأخرج لأتمشى مع الصغيرة. أرفض مشاهدة الصور. أذكر أنه ذات مساء حين رأيت بعض الصور المسربة لجثث الضحايا في كنيسة العباسية، وإحداها كانت لطفلة صغيرة وأمها إلى جوارها، تراقبها وهي تفارق الحياة. أذكر أن هذه الصورة جعلتني أمتنع عن إرسال ابنتي إلى حضانتها ذلك اليوم!

في الليلة التي سبقت جمعة مجزرة مسجد الروضة ببئر العبد شمال سيناء، انتابني ألم غريب/مألوف. كل المسكنات لم تنفع معه. جسدي مستسلم تمامًا له، فهو الم بغرابته، أعرفه جيدًا، ذلك الذي يسبق الأخبار السيئة.

أتجنب المذابح في مصر. لكن عقلي حين يرفض التعاطي مع الحقائق وىلامها، فإنها تتسلل خفية إلى جسدي لتحتله

أخبرني طبيبي أن العقل حين يرفض التعاطي مع الحقائق بآلامها، تتسلل خفية إلى الجسد لتحتله. أسميها "كمياء العذاب"، تهدأ فقط حين ألتحم مع الأخبار بشكل مُباشر. وهذا ما حدث مع مجزرة الروضة، حيث الناس دفنوا ذويهم من الضحايا في قبور جماعية، وصلوا الجنازة جامعة على أكثر من 300 شهيد.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هجوم مسجد الروضة بسيناء.. أكبر المجازر الإرهابية في مصر تتحدى الغياب الأمني

عندما يتعلق الأمر بالضحايا