03-مارس-2020

لوحة موت سقراط لـ جاك لوي دافيد

في لوحة موت سقراط، يرسم جاك لوي دافيد سقراط بوجه مقبول لا يتفق مع سقراط التاريخي. تقول المصادر، مثلًا "كتاب حصاد الفكر اليوناني"، أن سقراط كان "قبيح الوجه، وغير متناسق الجسد، قصير، بدين، دميم، بارز العينين، كبير الأنف والفم".

في موسوعة "تاريخ الفلسفة"، يكتب كوبلستون: "في محاورة المأدبة لأفلاطون يصف ألقبيادس سقراط بأنه يُشبه الساطير"، أي إله الغابات الذي نصفه بشر ونصفه حصان. بالمجمل أغلب المصادر تصف سقراط بالقبيح.

على مر تاريخ الفن، ترسّخت عند الفنانين حالة لم يستطيعوا الخلاص منها، وهي ربط الخير بالجمال، والقبح بالشر

ما الذي يجعل جاك لوي دافيد يُحوّل سقراط لشخص مقبول الشكل بجسد رياضي متناسق جدًا؟!

اقرأ/ي أيضًا: الحياة الجيدة كما تصورها فلاسفة الإغريق

على مر تاريخ الفن. النحت والرسم وحتى الأدب. ترسّخت عند الفنانين حالة لم يستطيعوا الخلاص منها، وهي ربط الخير بالجمال، والقبح بالشر. ومن خلال النظر في تراث اليونان الفني من الممكن التأكد من هذا الأمر.

الآلهة الطيبة لم تكن إلا جميلة، لكن عدو الإله الشرير أو الآلهة الشريرة. كانت دائمًا ما تظهر بوجه قبيح. وفي الغالب كان الرسامون والنحاتون يُقدمون الإنسان جميل الملامح بهيئة ملاك، والقبيح بهيئة شيطان.

في العصور المتقدمة عن العصور اليونانية، فعل مايكل أنجلو ذلك الشيء أيضًا. في لوحة "الحساب الأخير" جعل النبي عيسى رجلًا بعضلات - ما فائدتها في الجنّة! - عضلات وبدن لا يتناسبان مع شخصية عيسى الحقيقي الذي لم يُخبرنا التاريخ أنه كان يمارس أي نوع بدني من الرياضة. وفي اللوحة كان كل شخص من أهل الجنة جميلًا، أو باحتمال أقل عادي الشكل، وكل شخص من أهل الجحيم قبيحًا، بل حتى ملائكة الجحيم كانوا قبيحين ومُخيفين جدًا.

هذه المعادلة (جميل = خير، قبيح = شر) كان للغة والفن دورًا كبير في ترسيخها. ومن الممكن ملاحظة أن هذا التأثير قد أصاب أكثر العقول التي حاولت تكسير نمطيات العقل الثابتة وزعزعتها.

في كتاب "اُفول الأصنام"، يتحدث نيتشه عن سقراط ويصفه: "على أية حال لن يكون هذا مُناقضًا للحكم الشهير الذي نطق به فرّاس ووجده أصدقاء سقراط جارحًا... بأنه قبيح وبأنه ينطوي على أقبح العيوب وأسوأ الشهوات، وقد اكتفى سقراط بأن أجاب: لشد ما تعرفني جيدًا".

من خلال النص السابق لنيتشه، من الواضح أنه تأثر بشكل قوي بما أسّسته اللغة والفن فيما يخص ربط القبح بالانحطاط والشر.

يُصوّر القبيح في اللغة على أنه عكس الجمال، ويظهر في اللغة الشعبية وفي تعابيره الشائعة دليلًا على الأشياء أو الأشكال الكريهة والمُنفّرة

لم يكن نيتشه المتأثر الوحيد بتزوير اللغة والفن للقباحة وربطها بالشر أو الانحطاط. كان عالم الجريمة الإيطالي تشيزري لمبروزو (1835 - 1909) صاحب نظرية "الرجل المُجرم" يعتقد أن للمجرمين صفات شكلية تجمع بين القبح والانحطاط، تمامًا كما جاء في وصف نيتشه لسقراط "من بين علماء الإجرام يقولون لنا إن المجرم المميز سمج، قبيح الخلقة قبيح الإحساس". هل تأثر نيتشه بلمبروز، أم لمبروزو تأثر بنيتشه؟! لكن هذا الطرح العلمي - الخاص بلمبروزو - سيكون مهزوزًا، ببساطة لأن مؤسس نظرية "الرجل المجرم" كان يُجري تجاربه على "المُجرمين" الذين تم "تثبيت" تهمة الإجرام عليهم - أجريت أبحاثه على 383 جمجمة لمجرمين موتى وعلى 5907 مجرم حي - فكانوا كلّهم فقراء، محتسي خمور، مجانين أو أولاد مجانين، يعيشون في بيئة سيئة، وبالنتيجة الإجمالية هم مجرمون وأشرار بعيوب خلقية بسبب عوامل وراثية بالأساس، وهو استنتاج - في وقته - ينفي وجود رجل مُجرم جميل الشكل ومن عائلة مُحترمة.

إن السؤال الذي اُحب طرحه ومناقشته، هو: لماذا تعامل نيتشه ولمبروزو كعقلين مهمين في تاريخ البشرية بهذه البساطة في ربط القبيح بالشر؟

اقرأ/ي أيضًا: مذكرات إيما ريس.. سيرة الإنسان نتاج رحلته مع الألم

إنني أُفضل أن أعود بكم نحو البدايات حتى نفهم الأمر من جذوره. وبالنسبة للفكر الأوروبي فلا بداية أفضل من الإلياذة أو الأوديسة.

في بدايات الإلياذة من الممكن أن نلاحظ الصراع على التفاحة الذهبية التي رمتها إيريس بين الربّات بهدف إثارة العداء بعد أن كتبت على التفاحة "للأجمل". تخاصمت هيرا وأثينا وأفروديت على من هي الأجمل بينهن، كان القرار أن يحكم في قضيتهن أي عابر سبيل يمرّ في الطريق، وكان پاريس.

عرضت هيرا على پاريس مقابل الحكم لها بالتفاحة "الثروة التي لا تفنى، والسلطان الذي لا يبيد.. سأجعلك ملك هذه الديار التي ترى"، أما أثينا - ربة الحكمة - فقد عرضت عليه بأن تجعله "أهدى الناس، أعلم الناس، وأحكم الناس".

أمام السلطة والحكمة، لم تطرح أفروديت لپاريس غير الجمال "هأنذا يا پاريس.. التفاحة للأجمل".

برغم كل صراخ أيونونيه الذي كان يأتي من البحر "لا يا پاريس لا.. أعطها لأثينا" إلا أن سحر الجمال تغلّب على السلطة والحكمة. وهكذا يبدو أن من الصعب جدًا عدم الاستسلام للجمال. وستؤسس فكرة الاستسلام للجمال فكرة مضادة وهي النفور من القبح.

من النص السابق للإلياذة، أستطيع أن أحدّد إحدى الشخصيات لتركيز الفكرة عليها. وهي "إيريس" ربّة النزاع والعداوة والتي يصفها هوميروس "على رأسها الفاحم الأسود تتلوى خصل ثعبانية ذات فحيح وصلصلة وعلى صدغيها الأبرصين يخشخش عقربان لكل منهما ذنبان يقطر الموت الأسود منهما". إنها إلهة قبيحة في الشكل والأفعال.

في نظر مؤرخي الفلسفة، انطلقت شرارة علم الجمال من أفكار سقراط، ففي محاورته مع هيبياس وجه الفيلسوف السؤال المهم: "ما هو الجمال؟"

يُصوّر القبيح في اللغة على أنه عكس الجمال، ويظهر في اللغة الشعبية وفي تعابيره الشائعة دليلًا على الأشياء أو الأشكال الكريهة والمُنفّرة. فلم يكن لهوميروس - بصفته شاعر - سوى جمع كل الصفات السيئة الشكلية والأخلاقية وربطها بالربّة إيريس. وماذا يملك الشاعر غير اللغة والخيال في عالم كان متعلقًا بأهداب الشعر!

اقرأ/ي أيضًا: "جماهير التوتاليتارية" بين غوستاف لوبون وحنة آرندت

في الإلياذة، جعل هوميروس الآلهة تبدو بشكل شخصيات تحمل مزايا إنسانية، فهي تحب وتكره وتخدع وتراوغ وتتبع شهواتها. إنني أفهم معنى أن تتصارع الآلهة للسيطرة على العالم هو أن سطوتها أو صورتها بدأت بالتخلخل على أرض الواقع - أي في الفكر البشري - وصار ممكن تصويرها وهي تُهزم.

أمام هذه الصور الهوميروسية - الشعبية، لم يكن لسقراط إلا الصراخ برفض النظرة السطحية التي تجعل الآلهة قبيحة تتبع شهواتها وقابلة للهزيمة وتشبيه أفعالهم بأفعال البشر. لذا رفض الشعر وسفّه الشعراء.

كان سقراط يعلّم الرسام براسيوس والنحات كليتون في "المأدبة" أن عليهما أن ينقلان "بالإيماءات المحسوسة الجمال الحقيقي للنفس". وبطبيعة الحال لم يكن الجمال الحقيقي سوى الجمال المرتبط بالكمال الأخلاقي.

في نظر مؤرخي الفلسفة، انطلقت شرارة علم الجمال من أفكار سقراط، ففي محاورته مع هيبياس وجه الفيلسوف السؤال المهم: "ما هو الجمال؟" أجاب هيبياس إنه صفة تُطلق على الذهب أو النساء أو الخيل. يعترض كالعادة عقل الفيلسوف سقراط على هذه الإجابة، لأن التفكير الفلسفي يبحث عن "ماهية" الأشياء وحقيقتها، يُجيب سقراط "إنني لا أسألك ما هي الأشياء التي تُعد جميلة وإنما أسألك ما هو الجمال".

وحسب هذا الفهم السقراطي، سيكون الجمال قيمة أولى وعليا مُرتبطة بالخير والحق تمامًا، وسيتبنى أفلاطون تلميذ سقراط هذه الأفكار عن الجمال وعن كراهية الشعراء أيضًا، لأنه يراهم مفسدون للجيل، باعتبار أنه من الممكن للشاعر أن يصوّر الآلهة بطرق قبيحة تهدم المثل الأعلى للشباب "الأمر خطير جدًا بل أخطر مما يتصور معظم الناس، فعليه يتوقف تحول الإنسان إلى الخير أو الشر، ومن واجبنا أن نقاوم إغراء الشعراء مثلما نقاوم إغراء المال أو الحياة أو الشهرة". كما يُعبّر في نهاية محاورة الجمهورية.

جميع الفلاسفة الذين ربطوا الجمال بالخير، كانوا لا يختلفون من حيث المبدأ عن هوميروس الذي ربط القبح بأفعال الشر

وبشكل أكثر وضوحًا للمعنى يقول أفلاطون بوجود "جمال أول، وحضوره هو الذي يجعل الأشياء التي نسميها جميلة، جميلة. على أي نحو كانت الصلة التي تقوم بين الأشياء الجميلة وذاك الجمال الأول".

اقرأ/ي أيضًا: الضحك والثورة.. حين تصبح السخرية أداة نقد

في هذا التوضيح المبسط حول فكرة الجمال السقراطي الأفلاطوني، أين يقع القبح؟

حسنًا، إنه يقع - بحسب الفيلسوفين - في الجهة المعاكسة لكل صفات الجمال والأخلاق والحق، حيث كان الفكر يحاول أن يؤسس لثلاثية "الجمال، الخير، الحق"، لكن - بحسب والتر ستيس - فإن الخطأ الذي وقع فيه الفلاسفة هو أنهم "ظنوا أن الجمال والقبح يرتبط الواحد منهما بالآخر في ميدان الاستاطيقا، بنفس العلاقة التي يرتبط فيها الخير والشر في مجال الأخلاق".

هذا يعني أن جميع الفلاسفة الذين ربطوا الجمال بالخير، كانوا لا يختلفون من حيث المبدأ عن هوميروس الذي ربط القبح بأفعال الشر، سوى أنهم نزهوا الآلهة من القبح وأحالوه للشياطين أو البشر.

الحساب الأخير لـ مايكل أنجلو على حائط مذبح كنيسة سيستين بالفاتيكان

وبرأيي كانت هذه الفكرة الفلسفية السقراطية الأفلاطونية - المُستمدة كما يبدو من الديانة الأورفية - قفزة للخلف، لأنها أعادت للآلهة صفاتها المقدسة بعد أن كانت شبه بشرية زمن هوميروس الذي أوضحت أشعاره نظرة استقلالية نوعًا ما للإنسان، وأيضًا ثبّتت خطأ استعمال اللغة العادية الذي يربط بين الجمال والخير والقبح والشر، والذي ربما لم نتخلص منه حتى الآن.

إنني أتساءل، لماذا لم يأخذ سقراط أو أفلاطون مقولة الشاعر بندراوس - شاعر الأوليمپ - "إن الجمال الذي يُضفي مصداقية على الأساطير لدى العامة، يُلبس الزيف ثوب الحقيقة" على محمل الجد؟ فكما من الممكن للجمال أن يكون خير، كذلك من الممكن له ببساطة أيضًا أن يُزيّف أي شيء.

إن المشكلة في فكر الفيلسوفين هو أنهما تعاملا أو وافقا على تأسيس اللغة للثنائيات، أي الشيء وافتراض نقيضه، وهذا يحدث بسبب سوء استعمال اللغة العادية، فليس الليل هو عكس للنهار إنما هو استمرارية حركة، وليس الأبيض عكس للأسود فللونين قيم لونية مختلفة تمامًا. إنني أفترض عدم وجود شيء نقيض شيء بالمعنى الواسع الذي تستخدمه اللغة، لأن هذا يعني وجود عالم كامل من الخير والأشياء الجميلة، مقابل عالم كامل من الشر والأشياء القبيحة، وهذا أمر محال. وهو أيضًا يعني وجود ثبات ونهايات وفريقين وبالتالي ميتافيزيقيا.

ليس الليل هو عكس للنهار إنما هو استمرارية حركة، وليس الأبيض عكس للأسود فللونين قيم لونية مختلفة تمامًا

حاول أرسطو الإفلات من ثنائية (جميل = خير، قبيح = شر) ومن الوقوع في فخ اللغة من خلال تطويره لفكرة المحاكاة الأفلاطونية، يتحدث الفيلسوف عن فكرة تحدد الجميل بدقة المحاكاة للأشياء بغض النظر عن كونها في الواقع جميلة أو قبيحة. فما يهم هو دقة المحاكاة والمتعة والمعرفة "فالكائنات التي تقتحمها العين حين تراها في الطبيعة، تلذ لها أن تراها مصورة إذا أُحكم تصويرها، وبسبب آخر هو أن التعليم لذيذ ليس للفلاسفة وحدهم، بل وأيضًا لسائر الناس... ونحن نُسر برؤية الصور لأننا نفيد من مشاهدتها علمًا ونستنبط ما تدل عليه، فإن لم نكن رأينا موضوعها من قبل فإنها تسرّنا لا بوصفها محاكاة ولكن لإتقان صناعتها أو لألوانها أو ما شاكل ذلك".

اقرأ/ي أيضًا: أولوية النُّصب التذكاري

لم يكن هذا سوى تقدم في الفكر وفكاك من ربط الجميل بالخير والقبيح بالشر، لكن مع الأسف لم يستمر هذا التقدم طويلًا، فقد عادت النظرة الأخلاقية والمُثل تربط الجميل بالحق والخير، والقبيح بالشيطان والشر من جديد، بالذات بعد ظهور المسيحية.

ماذا لو تخلصنا من سوء استعمال اللغة في خلقها للثنائيات المتعاكسة وتأثيرها على الفن؟ ربما كان نيتشه - محطم الأصنام - لم يقع في فخ اللغة اللعين هذا، وحينها سيعرف أن لا ربط في كلام الفرّاس الذي قال عن سقراط أنه قبيح ويحمل بداخله أسوأ العيوب.

 

اقرأ/ي أيضًا:

لطالما أنقذتنا الطرائف: المزاح في زمن ستالين

أدب المهجر وبناء الهوية العربية الأمريكية