17-نوفمبر-2017

حسن بلاسم محرر كتاب "العراق بعد 100سنة"

في سلسلة مختارات جديدة من الخيال التكهني، يكتب المؤلفون العراقيون حاضر بلادهم المضطربة وهم يتصورون كيف يمكن أن تبدو في عام 2103. هنا ترجمة بتصرف لمقال جاسون هيلير، وهو روائي أمريكي.


اكتسب الخيال التكهني/العلمي من شتى أنحاء العالم زخمًا كبيرًا في الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة. وقد نشرت داريّ "غروف أتلانتيك وفينيت" روايات الخيال العلمي القادمة من شمال العالم (أوروبا والولايات المتحدة) مثل "جوهر الشمس وأماتكا، لجوهانا سينيسالو وكارين تيدبيك" على التوالي في الولايات المتحدة. 

"العراق بعد 100 عام" تطرح نفسها بأنّها أولى مختارات الخيال العلميّ التي ولدت في العراق

في الوقت ذاته الذي أصبح فيه ليو سيكسين الصيني الأصل أول مؤلف آسيوي يفوز بجائزة "هوجو" المرموقة لأفضل رواية، وذلك بفضل رواية الخيال العلمي المذهلة "مشكلة ثلاثية الأبعاد"، والتي جلبتها دار النشر "كتب تور" إلى الولايات المتحدة في عام 2014. وقد وسّعت هذه الكتب آفاق الخيال العلمي، والتنبؤ، والرعب، أي الأنواع الشعوريّة التي تحتاج منذ زمن إلى عدد وافر من الأصوات المتنوعة من ناحية العرق، والدين، والجنس، والحياة الجنسيّة، والثقافة. ومع ذلك، كانت معركة انتشار هذا النوع من الكتابة معركة شاقّة، نتيجة العقبات المعتادة للترجمة والاقتصاد والاختلافات الثقافيّة.

اقرأ/ي أيضًا: ضياء جبيلي.. عراق مشطور

العراق هو واحد من العديد من البلدان التي لا تزال ممثلةً تمثيلًا ناقصًا في الولايات المتحدة عندما يتعلق الأمر بالخيال التكهني. على الرغم من أن دار "تور للنشر" تعمل على تصحيح ذلك مع نشرها لمجموعة "العراق بعد 100 عام" محرّرةً من قبل الكاتب والمخرج العراقي حسن بلاسم.

"العراق بعد 100 عام" تطرح نفسها بأنّها "أولى مختارات الخيال العلميّ التي ولدت في العراق"، وتتألّف المجموعة من 10 قصص قصيرة كتبها عراقيون جميعهم كان يسترشد بفرضية بسيطة ولكن خصبة مفادها: "ما قد يبدو العراق عليه بعد قرن من الآن؟"، ويظهر الكتاب حاليًا في الولايات المتحدة للمرّة الأولى منذ نشرهِ الأوّل في عام 2016. بلاسم، وهو مواطن من بغداد، بدأ تجميعه من فنلندا بعد أن أمضى سنوات كلاجئ سياسي بسبب أعماله النقديّة لنظام صدام حسين.

بلاسم ورا بيج، مؤسس مجلة الصحافة، الناشر الأصلي لمجموعة "العراق بعد 100 عام" في إنجلترا، يصوّران فسيفساء من الحكايات التي تحيل العراق الحالي والماضي إلى غدٍ غير مؤكّد. وفي تعليق لـ را بيج على المجموعة، صرح الأخير قائلًا: "يقولون إن أفضل خيال علمي هو الذي يروي لنا عن السياق الذي ولد فيه أكثر من المستقبل الذي يحاول التنبؤ به".

كما أشار بلاسم ورا بيج إلى النقص النسبي في الابتكار التكنولوجي في العراق طوال القرن الماضي، باعتباره عنصرًا مهمًا يأمل في موازنته من خلال هذه المجموعة. وبغداد هي المكان الذي اختُرع فيه الجبر، الفاصلة العشرية، والطريقة الأولى لحساب نصف قطر الأرض في العصور القديمة، والعراق بالتالي، وفقًا لبلاسم، هو الوريث الشرعيّ لتقاليد الخيال العلميّ.

وبناءً على ما ذُكر، فإن القصص في "العراق بعد 100 عام" تموج بالطاقة التكهنيّة التي كتبها مؤلِّفون تتفاوت أعمارهم وأساليبهم. والحكايات التي تجري أحداثها في مدن بغداد والبصرة والموصل والنجف والرمادي والسليمانية؛ كلها وضعت في عام 2103، أي بعد قرن من الغزو الأمريكي.

"العراق بعد 100 عام فسيفساء من الحكايات التي تحيل العراق الحالي إلى غدٍ غير مؤكّد

في قصّة "العامل" للروائي ضياء جبيلي (ترجمة أندرو ليبر)، ظلّت البصرة محكومةً بخلافة ثيوقراطيي الاستبداد الذين أشرفت البلاد في عهدهم على موجة من المجاعة والإتجار بالبشر، وحتى أكل لحومهم. ويستخدم الكاتب التاريخ لتحريف الحاضر، حيث يبتكر الدكتاتور قاعدة النسبيّة الأخلاقيّة الضارّة، في حين يناضل المواطن للبقاء والنجاة وسط أنقاض التكنولوجيا المفقودة.

اقرأ/ي أيضًا: مرتضى كزار.. الرواية ضرب من التأريخ

بيانيًا ومأساويًا، تتقاطع قصّة "العامل" مع قصة أخرى في المجموعة هي "المسجد يومًا بيوم" لمرتضى كزار (ترجمة كاثرين هولز). في قصة مرتضى كزار ذَات الطابع الحلمي الغزير، يصبح تعدين المواد الأكثر تناقضًا وهلاميّة رمزًا لاستغلال الموارد والهندسة الاجتماعيّة.

العراق بعد 100 عام

المؤلفة زهراء الحبوبي ومترجمها إمري بينيت يعطيان الحياة الحضريّة صورة أقلّ رعبًا، إن لم يكن أقلّ إثارة للتفكير. حيث في "متلازمة بغداد" مهندس معماري يعيش في وسط مدينة بغداد، وهو الراوي غير الموثوق به للقصّة التي تدور حول واقعة تسببت في ظهور طفرة جينيّة بدأت بالعراق نتيجة للحرب الكيميائيّة قبل قرن من الزمان.

بينما يظهر نوع مختلف من الوباء في قصّة "سجن هنا والآن" لجلال حسن (مترجمة من قبل ماكس فايس)، حيث يحاول مراهقون تفادي القمع في مستقبل غريب لمدينة النجف عن طريق أخذ جرعة ذكريات في شكل حبوب، بينما تتخذ رقابة الدولة منحى الميكانيكا الحيوية.

بلاسم نفسه يساهم في قصّة "العراق بعد 100 عام" تحت عنوان "حدائق بابل" (يترجمها جوناثان رايت) وتنطوي القصّة على جرعة من الواقع الافتراضي، وتصميم الألعاب، وسياسات الشركات في عراق متقدّم من الناحية التكنولوجيّة، حيث أعيدت تسميته بما بات يعرف ببلاد ما بين النهرين الاتحاديّة التي بُنيت عجائبها على أرضيّة مهزوزة.

إن هذه القصص المبهرة والمثيرة للقلق، ليست مجرد انعكاسات للاضطرابات، بل هي أيضًا توقٌ للسلام وربط بالعظمة العراقيّة المنصرمة.

هذه الديناميكيّة تُعطي قصة "عملية دانيال" قوة الرنين. في رؤية الكاتب خالد كاكي لعام 2103، نشأت مدينة صينيّة على الأراضي العراقيّة، وفي عقدة أورويليّة كلاسيكيّة، يظهر زعيم كاريزميّ يتسم بالوحشيّة في هذه القصّة "غاو دونغ المحبوب" وقد اثبت نفسه كنائب عن الله في منح وقبض الثروة والعطايا. أعظم سلاح لغاو دونغ، مثل الأخ الأكبر في رواية 1984، هو هيمنته على اللغة. حيث يجب على جميع المواطنين أن يتكلموا اللغة الصينيّة، بينما تحظر اللغات القديمة في المنطقة، من السريانيّة والعربيّة والكرديّة والتركمانيّة. في الوقت الذي تعمل وزارة حكوميّة تُسمى "ميموري أوفيس"، أو مكتب الذاكرة، على "حماية حاضر الدولة من تهديد الماضي". راشد بن سليمان، أو RBS89، كما أعادت الحكومة تسميته، يعمل جنبًا إلى جنب مع الروبوتات الحوّامة كشخصيّة ثانويّة في جهاز ذاكرة المكتب؛ مهمتهُ هي استخراج الحواسيب أو الأقراص المدمجة أو أي وسيلة أخرى لتخزين المعلومات قد تنبه السكّان إلى السيادة العراقيّة السابقة. ويبقى الحال كذلك حتى تقع يده على أغنيّة شعبيّة قديمة تتسبب في تحوّل جذري في الطريقة التي يرى بها نفسه وعالمه.

مصطفى النجار: إنّ فشل الكتّاب العرب في إنتاج خيال مستقبليّ كان وما زال لغزًا

"عملية دانيال" تُعزز واحداً من أشدّ الخطوط خلودًا في "العراق بعد 100 عام"، حيث هُناك حركة مقاومة تحت الأرض تُكافح داخل دكتاتوريّة غاو دونغ، وأحد شعاراتها هو "التاريخ رهينة، لكنه سوف يعضُّ من خلال الكمامة الملفوفة حول فمه، يعضُّ ​​من خلالها ويجعلُ صوته مسموعًا". إنّها احدى طرق تقديم القصّة (ترجمة آدم طالب) بأسلوب شعري خلال عمله، RBS89 يكتشف "أقراص التألق مع شريط مغزول في الداخل" كما لو كان صيّاد كنوز في نسخة مستقبليّة من "ألف ليلة وليلة". تظهر هذه السمة الأسطوريّة كذلك في طريقة غاو دونغ المفضّلة للإعدام، والتي يطلق عليها "الأرشفة"، وهي عملية يتم فيها حرق مرتكبيّ الجرم اللغويّ، ومن ثُمَّ تحويلهم إلى الماس تتكرر بلوراته بصوت مسموع مع ذكرياتهم إلى الأبد، مما يساهم في رفع الحكاية إلى مستوى أرفع وأسمى من مجرد التحذير.

اقرأ/ي أيضًا: حسن بلاسم.. معاينة الإنسان القابع في دواخلنا

"العراق بعد 100 عام" تؤكّد قضيّة خارجة عن منطقة أميركا العمياء فيما يتعلق بالخيال الدولي التكهني، ألا وهي قضيّة النقص النسبي في الخيال العلمي المكتوب في العراق وأماكن أخرى في العالم العربي. حيث أشار الناقد المصطفى نجّار في مقال بعنوان "الخيال العربي يواجه المستقبل" المنشور عام 2014: "إنّ فشل الكتّاب العرب في إنتاج خيال علمي مستقبلي كان وما زال لغزًا". ولفت إلى أنّ "الفكر العربي والمشهد السياسيّ العربيّ الراهن ينطوي للأسف على الكثير من القمع والرقابة، ويهيئ بالتالي بيئة مثاليّة للكتابة عن المستقبل، وهو عالم من المحرمات والتابوهات السياسيّة والدينيّة الباطلة من الماضي والحاضر".

في الواقع، إنّ بعض المؤلّفين الذين نشروا في "العراق بعد 100 عام" مثل حسن، الذي يعيش الآن في لوس أنجلوس ويعمل سائق سيارة أجرة عندما يتوقف عن الكتابة، قضى وقتًا في السجون العراقيّة نتيجة لكتاباته. وظلّ آخرون، مثل الجبيلي، الذي قطع رحلة تعليمه القصيرة بسبب العقوبات الاقتصاديّة التي فرضتها الأمم المتحدة في التسعينيات؛ في العراق، وهو يعيش ويكتب الروايات معرضًا نفسه للرقابة أو ما هو أسوأ.

أحد المؤلّفين العراقيين في مجال الخيال التكهني، والذي لم يغادر بلده الأصلي هو أحمد سعداوي الذي لا تظهر كتاباته في "العراق بعد 100 عام"، ولكنّ رواية "فرانكشتاين في بغداد" (2013) ستنشر في الولايات المتّحدة للمرّة الأولى في كانون الثاني/يناير. الرواية الفائزة بالبوكر العربية (مترجمة من قبل رايت) رواية مُبهرة ومذهلة. هادي العتاك هو الزاحف الذي يجوب شوارع بغداد خلال الاحتلال الأمريكي، معتمدًا على كلّ ما يُمكن أن يجدهُ. حيث يُجبره ضميره على القيام بمشروع مجنون: جمع أجزاء الجسم من ضحايا الحرب والإرهاب والعنف الطائفي، ثم خياطتها معًا في تمثال بغيض من اللحم. ينشأ عنصر التكهن في الكتاب عندما يختفي وحش هادي، قبيل اندلاع سلسلة من عمليات القتل الغريبة في جميع أنحاء المدينة.

مثل أفضل نماذج الخيال العلمي والتكهن والرعب، "فرانكنشتاين في بغداد" خليط من الأنواع الثلاثة في صورة هائلة متمثّلة بعملية خلق هادي، يخيط نسيج المنطق، في هذا التشويه، تظهر الحقائق الخفيّة. في نهاية المطاف يتجاوز "الشسمه" فظائعه ليصبح معبود الجماهير، في إشارة موازية للشعبيّة المتفشيّة التي أدّت إلى ظهور أنواع من الدكتاتوريين، الأمر الذي لا يقتصر بأي حال من الأحوال على العراق.

إن هوية المخلوق، التي يشار إليها أيضا باسم "كريمينال x" و"الذي لا اسم له"، هي أكثر من مجرّد بيضة عيد الفصح لأولئك الذين قرأوا "فرانكنشتاين" لماري شيلي، حيث لم يعط مخلوق الطبيب المشهور اسمًا معينًا في حين صار يطلق عليه كل الأسماء من "الشيطان" إلى "البائس" إلى "ذلك الشيء".

يصور أحمد سعداوي خليط المخلوق كقوّة ولعنة، مما يوحي بفكرة أن الهويّة الجماعيّة يمكن أن تزيد أو تقمع الفرد

ويستخدم سعداوي هذا الاسم لاستحضار التجريد من الإنسانية الذي يأتي مع الشموليّة والحرب. حيث غالبًا ما ينظر إلى السكّان ككل على أنّهم كتلة واحدة، مجهوليّ الهويّة بدلًا من النظر إليهم كأفراد ذوي هويات متمايزة. وفي مرحلة ما، يتم استدعاء فريق من المنجّمين من قبل السلطات للمساعدة في اصطياد المخلوق باستخدام الوسائل السحرية، على أمل معاضدة أساليبهم الأكثر حداثة. واحد من المنجمين يقترح أن يتم حصر المخلوق بـ"من ليس لديه أي هويّة"، أو، "من ليس لديه أي هيئة". كما هو الحال مع RBS89 في "عملية دانيال" من "العراق بعد 100 عام" يتم اختزال الموضوع بكائن أقل من الإنسان من خلال التسميّة وحدها.

اقرأ/ي أيضًا: مع حسين الموزاني في أكثر من عراق

يصور سعداوي خليط المخلوق كقوّة ولعنة، مما يوحي بفكرة أن الهويّة الجماعيّة يمكن أن تزيد أو تقمع الفرد، وأنّ أولئك الذين في السلطة غالبّا ما يُمارسون مثل هذا التمييز لصالحهم السياسيّ. يبدأ المنجّمون في التلاعب بالبطاقات من أجل تحديد مكان وجود المخلوق، صراع الخرافات والعلوم، والطبيعة الخارقة التي يستخدمها السعداوي لتسليط الضوء على الصراع الداخلي في العراق بين الماضي والحاضر والمستقبل. إنّ استجابة المخلوق لمثل هذه الجهود المجرّدة تستدعي إلى الذهن الفطنة المذهلة في قصة شيلي حيث: "إنّ البطاقات لا تهم، المهم هي الأيدي التي تناولتها".

يقول بلاسم في مقدمة "العراق بعد 100 عام": "الكتابة عن المستقبل يمكن أن تكون رائعة ومثيرة". ووفقًا لبلاسم فالخيال العلمي هو "فرصة لفهم أنفسنا، وآمالنا، ومخاوفنا من خلال كسر أغلال الوقت، كما لو كنت تحلم بمصير الإنسان!". إنّ علامة تعجّبه المُضافة إلى آخر الجملة تقول الكثير، على الرغم من قاتمة قصص الكتاب، تقف أيضًا على نقيض قيم مثل المثابرة والرحمة، ناهيك عن متعة خالصة من إطلاق العنان للخيال والكلمة المكتوبة. وقال سعداوي عن "فرانكشتاين في بغداد": "عنصر الخيال يضيف لمسة من الفرح للعمل، ويحدُّ من القسوة". ومن الملفت أنُّه في بلد مدمر كالعراق، لا تبدو الرؤى التي ظهرت في أعمال مثل "العراق بعد 100 عام" و"فرانكشتاين في بغداد" ليست قاتمة ومظلمة فحسب، بل وتحمل الأمل أيضًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

سنان أنطون: تركت العراق لكنه لم يتركني

محمد خضيّر.. ما فات وما لم يفت من السيرة