11-يونيو-2018

أنتوني بوردين

رحل الإعلامي أنتوني بوردين عن عالمنا في 8 حزيران/يونيو 2018. التقرير المترجم الآتي يقدّم بانوراما عن تجربة بوردين، التي لم تقتصر على تقديم برامج تلفزيونية حول الأطعمة، بل نفذت إلى رصد الحياة الإنسانية.


أحضر أنتوني بوردين المأكولات من جميع أنحاء العالم إلى المشاهدين الذين ربما لم يفكروا في غير ذلك. إلا أن برنامجه التلفزيوني كان دائمًا يدور حول أكثر من مجرد المأكولات بكثير.

عاد بوردين إلى الشرق الأوسط عدة مرات على مدار مسيرته التلفزيونية - من خلال برنامج "أماكن غير معروفة"

أشار الكثير من المعلقين بعد إعلان وفاة أنتوني بوردين يوم الجمعة إلى قدرته على رواية قصص أشمل عن تاريخ بلد ما وثقافته من خلال عدسة طعامها. وفي أغلب الأحيان، أشاد الناس في البلدان التي تناولها في أفلامه بالمعرفة والمعلومات التي نقلها عن ثقافتهم إلى بقية العالم.

اقرأ/ي أيضًا: دورة مجانية عبر الإنترنت في صحافة البيانات

حقق أنتوني بوردين تأثيرًا خاصًا في الشرق الأوسط - فقد صنع أفلامًا لا تُنسى في إيران ولبنان وإسرائيل والأراضي الفلسطينية. وأشار الناس في الشرق الأوسط يوم الجمعة إلى الكيفية التي تمكن من خلالها رواية قصص تجاوزت الصورة السطحية التي رسمتها دورة الأخبار اليومية.

عاد أنتوني بوردين إلى الشرق الأوسط عدة مرات على مدار مسيرته التلفزيونية - من خلال برنامج "أماكن غير معروفة" الذي عُرض على شبكة "CNN"، وبرنامجه السابق "بلا حجز مع أنتوني بوردين" الذي عرض على قناة "ترافل" التلفزيونية. إلا أن العاصمة اللبنانية بيروت تبدو وكأنها تركت أثرًا خاصًا لديه، فكتب ذات مرة أنه يفكر في أن يطلق اسم المدينة على ابنته حديثة الولادة.

بيروت

وقع أنتوني بوردين في حب بيروت بعد عودته من تصوير إحدى حلقات برنامجه السابق "بلا حجز مع أنتوني بوردين" في عام 2006. إذ لم يمضِ سوى 24 ساعة على تواجده هو وطاقمه في المدينة حتى أصبحوا عالقين في بدايات النزاع اللبناني الإسرائيلي. وقد تم إنقاذهم واقتيادهم الى قبرص، قبل أن يعودوا إلى بلادهم.

عاد أنتوني بوردين لزيارة بيروت مرة أخرى خلال تصويره برنامج "أماكن غير معروفة" في عام 2015، وقد ذكر في ملاحظاته الميدانية، أنه تذكر رحلته الأولى إلى المدينة أثناء الحرب وكيف ألهمته للقيام بالبرامج التلفزيونية من منظور مختلف.

"في يوم من الأيام كنت أقوم بتصوير برنامج عن الطعام والشراب. وفي اليوم التالي كنت أشاهد المطار، الذي هبطت فيه منذ بضعة أيام يتعرض للتفجير في الجهة المقابلة من نافذة الفندق".

"لقد خرجت من تلك التجربة يغمرني شعور بالمرارة الشديدة والارتباك - وعقدت العزم على عمل برامج تلفزيونية بطريقة مختلفة عن ذي قبل. لم أكن أعرف كيف سأفعل ذلك أو ما إذا كانت الشبكة المنتجة للبرنامج في ذلك الوقت ستسمح لي بفعل ذلك، ولكني كنت على يقين أن أيام التُرهات السعيدة - التي انطوت على الموجز المُبهج الذي يرفع من المعنويات في نهاية كل حلقة، ودمج مشاهد الطعام المنعكسة على كل فعل في البرنامج - قد انتهت هناك".

وأضاف: "تجربتنا في بيروت لم تعطني أوهامًا بأنني مراسلًا صحافيًا. لقد رأيت فحسب أن هناك حقائق تتخطى الطعام والمأكولات التي أقدمها في الأطباق، وهذه الحقائق بلا شك هي ما حددت ما سنقدمه أو لن نقدمه على العشاء. ولذا فقد بدا تجاهل تلك الحقائق أمرًا وحشيًا".

وقع بوردين في حب بيروت بعد عودته من تصوير إحدى حلقات برنامجه السابق "بلا حجز مع أنتوني بوردين" في عام 2006

"ومع ذلك فقد وقعت بالفعل في حب بيروت. لست أنا فقط بل كل شخص في طاقم العمل. بمجرد أن وصلنا إلى المدينة، كان هناك رد فعل لا أستطيع وصفه إلا وكأنه يشعرك بالجاذبية مثل فرمونات الحب: فقد كانت رائحة المكان جيدة، مثل مكان كنا سنقع في حبه".

اقرأ/ي أيضًا: الحسابات الآلية عبر تويتر.. سلاح دول الحصار لاختراع رأي عام ضد قطر

وصف رامساي شورت، الذي عمل كمساعد لبوردين وظهر في عروضه الثلاث التي قدمها في بيروت، أنتوني بوردين بأنه كان هادئ الأعصاب، عندما انتشرت الأخبار بأن إسرائيل قد قصفت مدرج مطار بيروت. لم يكن ذلك بداية الحرب، لكنه كان أول تصعيد كبير تحول من مجرد مناوشة إلى مواجهة كاملة.

وقال شورت لشبكة "CNN" التلفزيونية: "لم يكن الأمر مفزعًا بشكل مثيرٍ للدهشة. استطاع أنتوني بوردين التأقلم مع الوضع والتعامل معه، واختصر ما تبقى من البرنامج في انتظار قوات المارينز الأمريكية لإخراجه من هناك."

تحدث شورت أيضًا عن المودة التي ربطت أنتوني بوردين باللبنانيين، وكيف أن هذا كان شعورًا متبادلًا. "لقد احتضنه اللبنانيون، واحتضنوه من جديد، وكان ذلك شعورًا أثر فيه إلى حدٍ كبيرٍ في ذلك الوقت. وعندما شاهد ما حدث أثناء القصف الإسرائيلي، شعر بالذهول ووجد أن ذلك مؤلم للغاية، وكان هذا كافياً ليعود إلى لبنان، ليس مرةً واحدةً فقط بل مرتين".

جزءٌ مما أثار إعجاب شورت بشأن أنتوني بوردين هو قدرته على إظهار الأماكن، بحيث يمكن لأي شخص أن يعتمد عليها. "لقد جاء ورأى هذا البلد المزدهر كمثالٍ لِما يمكن أن يكون عليه لولا حجم معاناته من الفوضى والحرب والاضطراب. لقد فُتن بهذا البلد إلى أبعد حدٍ".

وقال شورت إنه يعتقد أن الناس ارتبطت ببوردين لأنه كان صادقًا وغير متكلفٍ، وكان دائمًا يقصد ما يقول. ويضيف "لا يوجد جدالٌ بشأن ذلك. هذا أمرٌ يستهوي قلوب الناس حقًا".

"تشعر وكأنك على علاقة بهذا الشخص، وكأنه صديقك المفضل. فطنته وما يتميز به من روح دعابة وقدرته فجأةً، حتى في وضعٍ حرجٍ، على قول شيء واحدٍ قادرٍ على تلطيف الأجواء ونشر حالة من الطمأنينة في الغرفة. جميع الناس يحبون شخصًا يمكنه أن يجعلهم يضحكون".

إيران

عندما زار أنتوني بوردين إيران في عام 2014، قال إنه عاد حاملًا صورةً مربكة عن هذا البلاد، لأن ما شهده وعاشه هناك كان على خلافٍ مع ما علمه عن البلد من خلال الصورة التي رسمتها الحكومة الأمريكية لإيران.

كتب أنتوني بوردين يقول: "ما رأيناه، وما عُدنا به من انطباعات، عن هذا البلد، هو قصة مربكة للغاية، لأن إيران التي تراها من الداخل، حينما تسير في شوارع طهران، وحينما تقابل الإيرانيين، هي مكانٌ يختلف اختلافًا كاملًا عن إيران التي تقرأ عنها من خلال ما ترسمه وسائل الإعلام. لم يسبق لي في أي مكان آخر زرته، أن شعرت بذلك التباين والهوة السحيقة بين ما يراه المرء ويشعر به عندما يخالط الناس وما يراه المرء ويسمعه من الحكومة".

ثم يواصل أنتوني بوردين: "لقد قلت إن إيران هي المكان الأكثر دفئًا، والأكثر موالاةً للأميركيين سبق لي أن أعددت فيه برامجي التصويرية، وتلك هي الحقيقة، في طهران، على الرغم من وقوفك أمام جداريات ضخمة مكتوب عليها "الموت لأمريكا!"، لاحظنا كيف كانت تتم معاملتنا عادة، بشكل أفضل من قبل الغرباء، أقصد من خلال الابتسامات، وعروض المساعدة، ومحاولات غريبة للدخول معنا في محادثات بلغة إنجليزية محدودة، وسيل التحيات والتعبيرات العامة حسنة النية، أكثر من أي مكان في أوروبا الغربية".

اقرأ/ي أيضًا: المطبع فرحات مهنّي.. الجزائريون الأمازيغ ينبذون صديق إسرائيل الانفصالي

ويضيف: "هذا ليس عالمًا من الأسود والأبيض، مثلما يرغب الكثير من الناس تصويره، وما أصفه ليس بأي حال من الأحوال اعتذارًا عن أي شيء، ما أقوله هو فقط أن المقطع القصير والمحدود عن إيران الذي نقدمه في هذه الحلقة من برنامج "الأجزاء المجهولة" (Parts Unknown) ليس سوى جزءًا واحدًا من قصة أعمق ومتعددة الزوايا وقديمة جدًا ومعقدة للغاية. ومثل أي شيء قديم وجميل كما هو الحال بالنسبة للإمبراطورية الفارسية، أعتقد أن الأمر يستحق فعلًا النظر إلى أبعد من ذلك، لكنه أيضًا المكان الذي يمكن أن يملأ قلبك دفئًا في يومٍ ما ثم يكسره في اليوم التالي".

وقد أشاد الإيرانيون، بمن فيهم البعض ممن يعيشون في مناطق أخرى من العالم، عن طريق تويتر، بما قام به أنتوني بوردين، من خلال تصوير بلدهم من زاوية مختلف عما تنشره تقارير وسائل الإعلام الغربية المعتادة وما يروج له الخطاب الحكومي.

فلسطين 

كانت رحلة أنتوني بوردين إلى القدس والضفة الغربية وقطاع غزة في عام 2013 هي أكثر رحلاته إثارة للجدل. وكان يعرف ذلك.

افتتح تلك الحلقة من البرنامج، بعبارة إبراء ذمة قال فيها "بنهاية هذه الساعة، لا شك سيعتبرُني الكثير من المشاهدين بأنني متعاطف مع "الإرهابيين"، وأداة صهيونية، ويهودي كارهٌ للذات، ومدافعًا عن الإمبريالية الأمريكية، ومستشرقٌ، واشتراكيٌ، وفاشيٌ، وعميل في وكالة المخابرات المركزية، وحتى أسوأ من ذلك كله".

في وصفه للمنطقة قال أنتوني بوردين: "إنها بالتأكيد البقعة الأرضية الأكثر إثارة للجدل في العالم، وليس هناك أمل -مطلقًا- في الحديث عن ذلك من دون إغضاب شخصٍ ما، إن لم يكن الجميع".

ومع ذلك، شق أنتوني بوردين طريقه قدمًا لاكتشاف لغز طويل الأمد، عن مصدر الفلافل، من أين يأتي هذا الطبق الشعبي، ومَنْ هم الذين يعدون أفضل طبق الحمص. وبينما كانت تتمحور مهمته الطهوية على الجواب عن تلك الأسئلة، بدت الحلقة وكأنها تمتد إلى استكشافٍ رصينٍ للصراع الإسرائيلي الفلسطيني.

وقال "كلنا يجلب معه أشياءً عندما نسافرسواءً كانت أفكارنا المسبقة، نظام معتقداتنا الشخصي، الثقل الكامل لتجربة حياتنا" ويضف "سوف يؤثر ذلك لا شك في الطريقة التي سننظر بها إلى موقع زيارتنا، لكن مهما كان رأينا، ومهما كانت الأمتعة التي نحملها معنا إلى ذلك المكان، يجب علينا أن نرى ذلك."

تلقى أنتوني بوردين الكثير من الثناء والإشادة بسبب ما كرسه من اهتمام للفلسطينيين في تلك الحلقة من البرنامج، وكذلك كلمات تأييده للشعب الفلسطيني.

نشرت ديانا بوتو، وهي محامية فلسطينية كندية متخصصة في الدفاع عن حقوق إنسان، شاركت في عملية السلام، تغريدة نقلت فيها إحدى مقولات بوردين يوم الجمعة بعد الأنباء عن وفاته، قال فيها بوردين: "لقد شهد العالم العديد من الأشياء الفظيعة التي عانى منها الشعب الفلسطيني، لكن أكثرها خزيًا، هو ما تعرضوا له من سرقة لأبسط الأمور الإنسانية الأساسية". وكان ذلك جزءًا من خطاب قدمه أنتوني بوردين بمناسبة حصوله على جائزة مجلس الشؤون العامة الإسلامية في عام 2014.

وقالت بوتو لشبكة "CNN" "إنها تقدر الطريقة التي نظر بها أنتوني بوردين للفلسطينيين كشعبٍ، ولم مُجرد أرقامٍ في صراع".

لم يعشق بوردين الطعام فحسب، بل أحب كل ما كان يحيط به؛ المحبة، والثقافة الإنسانية والتقاليد

وقالت بوتو لشبكة تلفزيون "CNN": "كان أمرًا ممتعًا للغاية عندما جاء أنتوني بوردين إلى هنا. وكان للأمر دلالته العميقة عندما تم بث المقطع وتحدث فيه عن الفلسطينيين، وحرص على ذكر قضية تجريدهم من آدميتهم، وأن الفلسطينيين حُرموا من إنسانيتهم".

اقرأ/ي أيضًا: الشارع الأردني يفضح حسابات السعودية الآلية بتويتر.. "الشعب القطري شقيقنا"

"لقد رأى الفلسطينيين بشرًا، أجل إنه لأمر محزنٌ أن نقول اليوم وفي هذا العصر، أن شخصًا ما نظر إلينا كبشر، لكنه فعل، وكان تلك رسالة قوية للغاية بالنسبة لي".

"لم يعشق أنتوني بوردين الطعام فحسب، بل أحب كل ما كان يحيط بالطعام؛ المحبة، والثقافة الإنسانية، والتقاليد، لقد كانت التجربة قوية، لأنه قدم فيها حبه وشغفه للطعام، مقرونًا بقصة الحرمان الفلسطيني".

 

اقرأ/ي أيضًا:

متلازمات عنصرية الدراما العربية.. تنميط وإساءة للسودانيين

ماذا حدث بين ترامب وكيم كارداشيان في البيت الأبيض؟