03-سبتمبر-2017

تصوير: ستيف بارسونز (AB)

هذا المقال نُشر عبر مجلة Theintercept للكاتب غلين غرينوالد.


إن المسيرة التي انطلقت في شوارع باريس في كانون الثاني/ يناير لعام 2015، تأييدًا لحرية التعبير، واحتجاجًا على مقتل عشرة من رسامي الكاريكاتير في مجلة شارلي إيبدو في باريس، سعت إلى ظهور معيار جديد وخطير جدًا من حرية التعبير. بعد هذه المسيرة لم يعد من الممكن الدفاع عن حق شخص ما في التعبير عن أفكاره مع الاحتفاظ بالحق في الانتقاد بحرية الأفكار ذاتها - وهو المبدأ الأساسي لحركة حرية التعبير (الدفاع عن حق الآخرين في التعبير حتى لو لم أتفق معهم أو مع أفكارهم). في أعقاب عمليات القتل التي طالت رسامي الكاريكاتير في شارلي إيبدو، بل صار على المرء الاستطراد بعيدًا جدًا في تفاعله مع الحادث: أصبح من الضرورات الأخلاقية احتضان وتمجيد تلك الأفكار التي تسببت في الهجوم وتمجيد أولئك الذين كانوا يعبرون عنها، حتى أنه وجب علينا من وجهة نظر البعض الإعلان عن أنفسنا بأننا هم كنوع من التأييد والمناصرة (#JeSuisCharlie) أو #أنا شارلي.

بعد مسيرة باريس كانون الثاني/ يناير 2015، لم يعد يكفي الدفاع عن شارلي إيبدو بل التضامن معها

ونتيجة لذلك، فإن انتقاد محتوى الرسوم الكاريكاتورية التي تصدره مجلة شارلي إيبدو أصبح أمرًا غير مقبولًا. أصبح من الشائع أن نطالب بأن لا يدافع المرء فقط عن حق رسامي الكاريكاتير في نشر آرائهم ورسومهم، بل أيضا نطالب بضرورة إظهار "التضامن" معهم، من خلال إعادة نشر هذه الرسوم بغض النظر عن مدى اعتراضنا على مضمونها، وبالتالي فإننا نتبنى ذلك الكلام وهذه الآراء بصورة ضمنية. هذا وقد وصفت أي نوع من المعارضة في الإفراط في تمجيد هؤلاء الرسامين الكاريكاتيريين، وإغداق الجوائز عليهم على أنها نوع من الفشل الأخلاقي، أو على الأقل عدم الالتزام الكافي بحقوق حرية التعبير، كما تبين بعد ذلك على نطاق واسع، فقد لحق ازدراء ونقد شديد بأولئك الكتاب الذين تحدثوا عن معارضتهم لمنح شارلي إيبدو جائزة القلم الأمريكية لحرية التعبير.

اقرأ/ي أيضًا: "شارلي إيبدو".. الاستعراض العنصري

وبالتالي، تم فرض خلط كبير جدًا بين الحق في التعبير عن الفكرة، ورأي أي شخص من تلك فكرة. من بين جميع المقالات التي كتبتها طيلة تلك السنوات القليلة الماضية، ربما كان الأكثر استقطابًا وتوليدًا لغضب الكثير من الأشخاص هي تلك المقالات التي كتبتها في أعقاب عمليات القتل التي استهدفت مجموعة من رسامي مجلة شارلي إيبدو: مقالًا واحدًا كنت قد رفضت من خلاله الطلبات التي تفرض على الشخص الاحتفاء بتلك الرسوم بل وإعادة نشرها، من خلال انتقاد تلك الرسوم التي نشرتها شارلي إيبدو وتوضيح نتائج تطبيق هذا المعيار الجديد والخطير وهو(التمجيد والاحتفاء بتلك الرسوم الكاريكاتورية المشينة وغير اللائقة من خلال إعادة نشرها) عالميًا؛ ثم سلسلة من المقالات التي تدافع عن كتاب أميركيين اعترضوا على منح جائزة القلم الأمريكية لحرية التعبير لمجلة شارلي إيبدو من منطلق أنه يمكن للمرء أن يدافع عن حرية التعبير بينما يرفض في الوقت نفسه الثناء والاحتفاء والتمجيد، لأولئك الذين تُعد حقوق خطابهم هي هجومًا على الآخرين.

وقد شوه المعلقون بصورة تفتقر إلى الأمانة والصراحة النقد التي قمت به، وغيري من الكتاب ضد مضمون خطاب شارلي إيبدو وحولوه وكأنه نقد ومعارضة لحرية التعبير ذاتها. "عندما وصف غلين غرينوالد رسامي كاريكاتير شارلي إيبدو أنهم ماتوا من أجل العنصرية " وصفه كاهن الإلحاد الجديد المعادي للإسلام، سام هاريس، "أنه ليس فقط -أي غلين غرينوالد- أبله، ولكنه أيضًا يشارك في حرب عالمية من الأفكار ضد حرية التعبير - وهو بذلك مساند للجانب الخاطئ في هذه الحرب". وبطريقة مماثلة فإن هذه المفاهيم والمبادئ المحددة قد أربكت جيمي بالمر المحرر بصحيفة كويليت، الذي صرح، بعد مطالعته لسنوات من العمل الذي قام به كمحام وصحفي مدافعا عن حق حرية التعبير للجميع على حد سواء، قائلاً "من المنطقي أن نفترض أن تضامن غرينوالد مع رسامي شارلي إيبدو هو بالفعل أمرًا مفروغًا منه".

ما كان واضحًا دائمًا من خلال مقالاتي، وما حاولت توضيحه مرارًا وتكرارًا، هو أنه لا يمكن الاعتقاد أنه من حرية التعبير المطالبة بضرورة تأييد وتمجيد محتوى الرسوم الكاريكاتورية، التي قام بها رسامو شارلي إيبدو والاحتفاء بها. وأن الكلام عن حرية التعبير هنا هو محاولة للخلط والتلبيس.

في الواقع، فإن معظم القادة السياسيين الذين قادوا "موكب حرية التعبير" في باريس والذين يظهرون (في الصورة أعلاه) لهم سجلات طويلة من قمع حرية التعبير، وعدد قليل من هؤلاء "الصليبيين الجدد" المنادين بالدفاع عن حرية التعبير كانوا قد ألقوا كلمة عن أن حق حرية التعبير للمسلمين، قد اغتصب منهم في جميع أنحاء البُلدان الغربية تحت مسمى الحرب على الإرهاب. العامل الرئيسي الذي كان يقود تلك الاحتجاجات والفرح والتأييد والحب لما قام به رسامو شارلي إيبدو هو الإعجاب والموافقة على محتوى الرسوم الكاريكاتورية: على وجه التحديد، الشعور بالفرح والغبطة أن تلك الرسوم كانت موجهة لمهاجمة المسلمين والسخرية منهم، وهم – المسلمون- فئة من أكثر الفئات تهميشًا وضعفًا واحتقارًا في البلدان الغربية.

معظم القادة السياسيين الذين قادوا "موكب حرية التعبير" في باريس لهم سجلات طويلة من قمع حرية التعبير

البرهان على ذلك تم نشره بالأمس. حيث قامت صحيفة شارلي إيبدو بنشر صورة  كرتونية خطيرة تصور الضحايا الذين غرقوا نتيجة إعصار هارفي الذي ضرب هيوستن بالولايات المتحدة على أنهم "نازيون جدد"، مع لافتة رُفعت مكتوب عليها "الرب موجود": لأنه من المعروف والمنتشر بين الناس، أن السكان البيض في ولاية تكساس يحبون هتلر، وبالتالي فإنه من وجهة نظر الصحيفة فإنه من أشكال العدالة الإلهية أنهم يغرقون.

اقرأ/ي أيضًا: هذا مختلف عن شارلي إيبدو

وأدى ذلك إلى إحداث موجة جماعية غاضبة أدانت شارلي إيبدو، بما في ذلك العديد من الجهات التي كانت منذ عامين فقط، تدافع وتمجد المجلة نفسها لسخريتها المماثلة من المسلمين. كما أدى هجوم الأمس الذي قامت به شارلي إيبدو على أولئك الأشخاص البيض، أن يكتشف العديد من الناس مرة أخرى، وبصورة مفاجئة تلك المبدأ الذي يتضمن أن المرء يمكنه الدفاع عن حقوق شخص ما في حرية التعبير في حين إعرابه عن اشمئزازه ونقده لمضمون الخطاب نفسه في آنٍ واحد.

أما بالنسبة لجريمة ازدراء الأمريكيين البيض، فقد كانت السخرية الشديدة التي حملتها صحيفة شارلي إيبدو أمس أمرًا مألوفًا. فقد عبرت تيانا لوي في مجلة National Review عن رأيها قائلةً "إنه غلاف شرير وحقير"، إلا أنها أضافت "إن هؤلاء الخاسرين في مجلة شارلي إيبدو، لديهم حق إلهي لنشر هذه الأشياء". أما باول جوزيف واتسون، من موقع Infowars، والذي طالما عبر عن إعجابه بالرسوم الكاريكاتورية المعادية للمسلمين، والمدافع عن عن حق إعادة نشر هذا المحتوى، فقد صرح أمس أن المرء قد يكره أو يستنكر تلك الرسوم، إلا أنه لا يزال يدعم حق رسام الكاريكاتير في حرية التعبير عن رأيه عبر رسومه، وقال "إن غلاف مجلة شارلي إيبدو مقزز وغبي، إلا أنني أدعم حقهم تمامًا في نشر ما هو مقزز وغبي كما يحبون".

 التمجيد والتهليل التي نالته مجلة شارلي إيبدو، والذي أصبح التزامًا أخلاقيًا في 2015، ليس له علاقةً من قريب ولا بعيد بحرية التعبير

وقد صرح الممثل اليميني جيمس وودز قائلًا "أعتقد أننا ساندنا شارلي إيبدو بما فيه الكفاية" – في إشارة إلى وسم #أنا شارلي أو "Je Suis Charlie" -، واصفًا رسامي الكاريكاتير "بالخونة الفرنسيين" من خلال وسم قام بإضافته. أما بيرون يورك من مجلة National Review، عرض صورة الغلاف الجديد، وقال بصراحة "اليوم، لسنا كلنا شارلي إيبدو". بينما انتشرت تغريدة لجاسون هاورتون، الصحفي المحافظ في موقع Independent Journal Review – والذي هاجم وسائل الإعلام من قبل لعدم نشر الرسوم الكاريكاتورية التي نشرتها شارلي إيبدو كاملةً – قال فيها إنه لا ينبغي على المرء، وبغض النظر عن أي شيء، أن نشر رسوم شارلي إيبدو الكاريكاتورية التي يعتقد أنها بغيضة، إذ قال "كنت على وشك الانفجار غضبًا من تلك الرسوم البغيضة التي حملها غلاف مجلة شارلي إيبدو. إلا أنني أدركت أن هذا هو هدفهم. تبًا لهم. لن أقوم بنشر هذه الرسوم".

اقرأ/ي أيضًا: حقوق الإنسان الغريقة في المتوسط

يكاد يكون التمجيد والتهليل التي نالته مجلة شارلي إيبدو، والذي أصبح التزامًا أخلاقيًا في 2015، ليس له علاقة من قريب ولا بعيد بحرية التعبير، بل يرتبط ارتباطًا وثيقًا بحب كل ما تقدمه المجلة من رسوم كاريكاتورية ومحتوى معادي للإسلام. يجب على المرء ألا يدافع فقط عن حق مجلة شارلي إيبدو في حرية التعبير وفق هذه القاعدة الجديدة، بل يجب أن ندافع أيضًا عن احترام وتبجيل أعمالها الذي يبدو أنه اختفى سريعًا، بعدما توقفت عن استهداف المسلمين، وبدأت في استهداف الأمريكيين البيض.

توم بلوك: "أنا غاضب حقًا اليوم مما فعلته مجلة شارلي إيبدو، والتي اعتادت فعله على الدوام، إلا أنهم هذه المرة قد أساءوا لفئة أنتمي لها".

إن ما حدث هنا يجعل الأمور أكثر وضوحًا، فقد كانت مجلة شارلي إيبدو مجلةً مرحةً، وناقدة بشكل مبهج، وجريئة، تستحق الجوائز والتقدير عندما كانت تنشر المواد التي تستهزئ بالمسلمين. إلا أنه عندما بدأ رساموها الكاريكاتوريون في نشر نفس نوعية الرسوم، لكنها تستهدف الأمريكيين البيض هذه المرة، أصبحت المجلة "دنيئةً"، و"شريرةً"، و"حقيرةً"، و"خاسرة"، و"خائنةً". وكما قال المؤلف روبرت رايت ذاك الصباح، "أعتقد أن منظمة PEN لن تمنح مجلة شارلي إيبدو جائزة هذه المرة". وكانت حملات الوسوم الداعمة لمجلة شارلي إيبدو التي اجتاحت موقع تويتر خلال عام 2015 أكثر صدقًا لو كانت كما يلي، #أنا شارلي (*فيما يتعلق بالرسوم المسيئة للمسلمين فقط).

بغض النظر عن مدى صحة الأمر، فإن ترك حوادث مثل هذه حتى تنتهي وتتلاشى، من شأنه أن يرسخ مبادئ مشوهة للدفاع عن حرية التعبير، والتي تدفع الفرد للاحتفال بالأفكار التي تتعرض للهجوم، ويحترم فقط تلك التي تعبر عنه. ولكن كان ينبغي ألا يكون من الصعب بمكان إدراك العناصر الأساسية للتفرقة بين الدفاع عن حق التعبير عن الأفكار، والاحتفال بهذه الأفكار. الآن وبعد أن استهدفت مجلة شارلي إيبدو الأمريكيين البيض برسومها، و أهانت الغربيين البيض، يبدو أنه تم اكتشاف حكمة هذا المبدأ.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حرية الرأي وفزع الجماهير

أوروبا واليمين.. عصر الظّلام المُقبل