08-مايو-2018

استثمرت الدوحة في الحصار من أجل "الركض" قدمًا (Getty)

عندما بدأت السعودية والإمارات وبعض الدول التابعة، حصارًا شاملًا ضد قطر في منتصف السنة الفائتة، لم تكن كثير من التكهنات لتقتنع أن من الممكن للدولة الصغيرة، جغرافيًا، أن تصمد كثيرًا. كانت حدود السعودية المغلقة تضيق الخناق على قطر، وكان مالها المبذول في كبريات شركات العلاقات العامة وعلى عتبات الإدارة الأمريكية، عاملًا في إنتاج خطاب عدائي للدوحة. تواطأ كثير من الأطراف في تبريء المملكة الوهابية من كل تهم الإرهاب الموجهة لها في المحاكم الأمريكية، على الأقل دبلوماسيًا، ومحاولة عكس التهمة إعلاميًا  ضد قطر. وصارت المملكة التي سمحت بعد نقاشات وضغوط طويلة للمرأة بالقيادة، نموذجًا مقبولًا من الإسلام، وتحولت الرياض بقدرة البروباغاندا الأمريكية المدفوع لها، والإسرائيلية المنتشية بحملات التطبيع المتزايدة، واحة للاعتدال.

تصاعد التواطؤ مع الانتهاكات السعودية الإماراتية، على الرغم من رفض عربي وغربي ملموس لحصار قطر، بينما استمرت حملات الإعدام بقطع الرأس في السعودية، ويستمر الاعتقال التعسفي والاعتقال بسبب التغريد على تويتر، وفرض القوانين الجديدة ضد الإعلام والحرية بمختلف أشكالها. في مقابل ذلك، كانت قطر تستثمر بالحصار من أجل قهر تحدياتها الجيو- استراتيجية، وتبحث عن خطوط جديدة للتصدير والاستيراد، وتفتتح مكتبة وطنية ضخمة تقدم مشروعًا علميًا نهضويًا، وتستقطب مزيدًا من الجامعات، وتخرج أفواجًا من الطلبة، معظمهم من النساء، من أفرع لجامعات مصنفة على اللوائح الأكاديمية الأولى في العالم. في هذا التقرير المترجم بتصرف عن صحيفة "الغارديان البريطانية"، نسلط الضوء على هذا التباين، ونقارن بين الجهد السعودي خلال الأزمة، الذي استثمر الحصار لتعزيز نفوذ وسلطة ولي العهد وصاحب السلطة الفعلية، محمد بن سلمان، وبين التطلع القطري، الذي تحقق جزء منه، في إنتاج إبداع سياسي دبلوماسي وثقافي واقتصادي على الرغم من الحصار. 


خاضت دولة قطر وهي أغنى شبه جزيرة على وجه الكوكب، خلال معظم أيام العام الماضي، غمار ما يسمى بـ قانون العواقب غير المقصودة. اشتعل فتيل الأزمة في حزيران/يونيو من العام الماضي حين صعدت جارات قطر الأقرب، وهي السعودية والبحرين والإمارات وكذلك مصر من شكواها بشأن دور الدولة الخليجية في المنطقة وفرضت حصارًا بريًا وجويًا كاملًا.

يبدو أن محاولة عزل  قطر كانت بمثابة عامل مساعد لتحدد رؤيتها لنفسها على المدى الطويل

تم تحويل اتجاه الطائرات وسفن الشحن المتجهة إلى قطر خلال الليل، وقطعت جميع الروابط الدبلوماسية التي تجمع قطر بدول الحصار، وأغلقت الحدود البرية الوحيدة المشتركة بين قطر والسعودية. حتى الجمال نالت نصيبها من هذه السياسة، حيث تم ترحيل 12 ألف حيوان مملوك لقطريين بالقوة.

أعلنت الدول أن الهدف من الحصار الذي صاحبه إنذار نهائي مدته عشرة أيام لتنفيذ 13 طلبًا، هو الاحتجاج على الدور الفردي الذي تتهم دول الحصار قطر بتأديته في "تمويل الإرهاب"، الاتهام السعودي الذي اقتنع به ترامب وأعاد تغريده بكامله، إلى حين تمت مواجهته من قبل مؤسسات واشنطن نفسها. على المستوى السياسي، بدا الأمر وكأنه محاولة لإذلال الدوحة وإجبارها على الخضوع. لكن عندما توالت الأحداث، تكشفت نتائج عكس تلك المتوقعة. 

ويبدو أن هذا العزل  كان بمثابة عامل مساعد لتحدد قطر رؤيتها لنفسها على المدى الطويل. إحدى المفارقات الداخلية الموجودة في الدولة التي يعتبر مواطنوها الأغنى على وجه الأرض هو أنه منذ اكتشافها واستغلالها للاحتياطات الضخمة من الغاز الطبيعي، كانت هناك حاجة ماسة لتشجيع الاختراع للسير قدمًا. كان هدف آل ثاني المعلن هو خلق اقتصاد معرفي متنوع يدوم بعد احتياطيات الغاز. وكما وضحت الشيخة هند، الشقيقة الصغرى لأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، الأسبوع الماضي في مقابلة نادرة عقدت في الدوحة، فإن المال وحافز المشاريع الكبرى مثل كأس العالم 2022، لا يحل سوى بعض من مشاكل النقص في المهارات. "حقيقة أننا مجتمع غني ربما لا يحتاج فيه أحد للعمل، ليست سرًا. لكن أن تعرف أنك تستطيع المساهمة في تطوير بلدك، والسماح له بأن يصبح بارزًا أكثر، هو أمر يشعر الجميع بالفخر. وقد ساعد الحصار في هذا الأمر. نحن نرى الآن أن هناك فرصة كبيرة لتحقيق الاكتفاء الذاتي" هكذا علقت الشيخة هند.

اقرأ/ي أيضًا: العفو الدولية.. الرياض وأبوظبي تعبثان بحياة آلاف الناس

وقد كان والدا الشيخة هند أول من عبر عن طموحات قطر لبناء دولة حديثة. ففي الوقت الذي طوّر فيه والدها الشيخ حمد آل ثاني الشراكة مع إيران التي تمكنه من استغلال مزيد من حقول الغاز الطبيعي، أنشأت والدتها، الشيخة موزة، مؤسسة قطر بمليارات الدولارات بهدف تغيير طريقة التعليم، خاصة بالنسبة للنساء. وكانت الشيخة هند، البالغة من العمر 34 سنة والأم لخمسة أطفال واحدة من المستفيدين الأوائل من "المدينة التعليمية"، وشغلت في السنوات الثلاث الماضية منصب الرئيس التنفيذي لمؤسسة قطر.

يمكنك أن ترى من شرفة مكاتبها، أبنية الزجاج والرخام التي تدل على هذا الطموح، في الحرم الجامعي المستقبلي الذي يجمع عشرات "الجامعات الشريكة" تشع بضوئها نحو الخارج. لقد أُقنعت كل واحدة منها على القدوم هنا بسبب مهاراتها وخبرتها الخاصة في بناء القدرات التي يحتاجها القطريون: جورجتاون لبرنامجها في الحكومة، وجامعة تكساس أي اند إم للهندسة، إلى آخره.

وكانت المكتبة الوطنية القطرية الرائعة الإضافة الأحدث التي انشئت في المدينة التعليمية والتي صممت من طرف المهندس المعماري الهولندي ريم كولهاس: وهي عبارة عن مبنى ترحيبي ضخم ترتفع فيه رفوف الكتب حول منطقة رئيسية تضم مسرحًا مفتوحًا ومقهى، مثل الشرفات المطلة على سفوح التلال المميزة بإضاءة خفيفة. لم تكن هناك تقاليد خاصة بالمكتبات في الخليج، لذلك تمحورت فكرة كولهاس حول خلق مساحة معقولة. وقد حصل 51 ألف قطري على العضوية وحقق الركن الخاص بالأطفال نجاحًا خاصًا. في الأشهر القليلة التي تلت الافتتاح، أعيرت كل الكتب الموجودة في رفوف المكتبة والبالغ عددها 150 ألف كتاب مرة واحدة على الأقل.

كانت المكتبة الوطنية القطرية الرائعة الإضافة الأحدث التي انشئت في المدينة التعليمية

إلى جانب شرفات الكتب الفضية، تضم المكتبة تحت سطح الأرض، في مكان يشبه سراديب مصنوعة من الرخام الفارسي، مجموعة من المخطوطات النادرة وفنون الخط التي تهتم بالعالم العربي. جمعت هذه المجموعة بنفس الروح المولعة بالتعليم  التي ملأت بها متحف الفن الإسلامي الذي صممه المهندس المعماري الصيني الشهير آيو مينغ باي، بهدف جعل الدوحة العاصمة الفكرية الحديثة للعالم العربي.

جُرب هذا المبدأ لأول مرة قبل 22 سنة عندما أنشأ ومول الأمير الوالد حينها قناة الجزيرة العربية. إن الضوء الصحفي المزعج الذي تسلطه القناة على السياسة الداخلية للدول العربية الأخرى هو من أسس مركز العداء والحصار القائمين حاليًا. حيث كان إغلاق القناة أحد المطالب الـ 13 النهائية التي اشترطتها الدول المحاصرة.

اقرأ/ي أيضًا: قطع العلاقات مع قطر.. كل شيء عن مؤامرة أبوظبي

بالنسبة للأشخاص الذين ينتقدون قطر، فقد أصبحت قناة الجزيرة رمزًا لاستهدافه. لكن في الدوحة تعتبر القناة رمزًا للاستقلال والسيادة. وكما تقول الشيخة هند: "تخيل أن تقول دولة أخرى لبريطانيا أن تغلق مجموعة قنوات البي بي سي- سيكون الأمر صادمًا". وقد ضربت مثالًا قويًا للأثر الذي يتركه الإعلام المتحرر من القيود. "أعتقد أننا عندما نتحدث عن التصور الذي نريد لمنطقتنا أن تكون عليه مستقبلًا ، فإننا نرى أن الجزيرة تشكل جزءً مهمًا منه..." وتضيف "ربما لا يرضى الكثير من الناس عن الأمور التي تكشفت أمامهم ولكن إذا كنت ترغب في بناء مجتمع مدني وأن تسمح  للناس بالتفكير بأنفسهم و يكونوا أكثر تأثيرًا، يجب أن تكون كل القصص واضحة". تتجذر الجهود الواضحة لإدماج روح صحافة الاستقصاء بعمق أكبر في المجتمع القطري في حرم المدينة التعليمية في جامعة نورث وسترن - وهي فرع من مدرسة ميدل للصحافة.

وقد توقع العميد إيفريت إي دينيس، المراقب البارز للدور الذي تلعبه السلطة الرابعة في توسيع المجتمع المدني في الشرق كما في الولايات المتحدة، خوض معركة حول الرقابة عندما جاء إلى الدوحة. لكنه في المقابل وكما يقول "لم يكن هناك قط أي تدخل فيما ندرسه ولا في الكيفية التي ندرس بها، نناقش بحرية مطلقة القضايا الاجتماعية التي من الممكن أن تكون جزءًا من محادثة داخل حرم جامعي أمريكي".

المكاسب التي جنتها حرية الصحافة بدأت تحظى بالتقدير في قطر وتتم ملامسة أثرها  العلمي إيجابيًا

في البدء، لم يجد رغبة في تحدي السلطة لدى الطلاب، الذين يأتون من الدول المجاورة، ولكن سرعان ما اختلف هذا الأمر. وأشار إلى أن المكاسب التي جنتها حرية الصحافة بدأت تحظى بالتقدير في قطر.

حظي الطرفان بتجربة تعليمية، بحسب ما يراه. على سبيل المثال أنشأت الجامعة أول نظام للاعتماد الصحفي، وتمخضت ضغوط خريجي هذا البرنامج عن إنشاء مكتب حكومي للمعلومات يعمل بشكل جيد. روح البحث النقدي هذه على حد زعمه حثت العائلة المالكة وحكومتها على مواجهة المخاوف الدولية خصوصًا فيما يخص التعامل مع العمالة المهاجرة في المشروعات الرئيسية لكأس العالم. استجابوا لهذه المخاوف عبر فرض حد أدنى للأجر وسياسة جديدة لبرامج الإسكان والرعاية الصحية لاقت ترحيبًا جمًا من قبل المنظمة الدولية للعمل التابعة للأمم المتحدة.

في نظر العميد، فإن الحصار قد سارع تقدم هذه الشفافية. في الوقت الذي أصبح من غير القانوني أن يطرح أي مواطن سؤالًا أو ينتقد فكرة الحصار في كل من المملكة العربية السعودية، والبحرين والإمارات العربية المتحدة، تزيل قطر القيود المفروضة على التأشيرات ونجحت في تقديم نفسها كأرض تسود فيها حرية الحديث بشكل أكبر. وفي الوقت الذي تهنئ فيه المملكة العربية السعودية نفسها على اتخاذ قرار السماح للنساء بالقيادة أخيرًا، تشير الشيخة هند أن غالبية من الطالبات الجامعيات تخرجن في المدينة التعليمية من جميع الأقسام، بما في ذلك الهندسة.

في هذا السياق، أتساءل عما إذا كانت العائلة الحاكمة في قطر تشعر بالامتنان في سرها للحصار الذي خلق فجوة الثقافية بينها وبين جيرانها. هل يعتبرونه فرصة أكثر مما يعتبرونه أزمة؟

في الوقت الذي تهنئ فيه السعودية نفسها بالسماح للنساء بالقيادة أخيرًا، فإن غالبية خريجي الجامعات في  قطر من النساء 

تقول الشيخة هند: "لن أكذب عليك وأقول لك أنه لا مشكلة لدينا مع الحصار. لقد كان لدينا هنا طلاب تأثروا به بشدة، لقد تفرقت عائلات بأكملها". تأمل الشيخة هند بجانب كل القطريين الآخرين الذين تحدثت معهم، أن يكون هناك حل لهذا النزاع قريبًا. وتضيف: "إذا كان هناك شيء آخر يقال في هذا المقام فهو إن سعينا الدائم لتحقيق الاكتفاء الذاتي بدأ الآن فقط." هدفنا لم يتغير تقول الشيخة هند، "لكننا الآن نركض في اتجاهه بدل أن نسير". من رحم حصار قطر ولدت رؤية جديدة جريئة وغير متوقعة أبدًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

منظمات حقوقية: "حصار" قطر انتهاك صارخ لحقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير

قطع العلاقات مع قطر.. "من هو الإرهابي؟"