09-مارس-2021

غرافيتي لـ بهية شهاب

لعلّها المرة الأولى منذ وقت طويل التي ارتديتُ فيها ملابسي على عجل وخرجتُ من البيت دون تخطيط أو مشاورة عقلي.

في ظاهر الأمر لا في حقيقته، وفقَ معاييري الخاصة طبعًا، بدت الحياة مشرقة والشمس ودودًا اشتملتْ مَن عَليها بِدفئها الشّاسع. اتّسعت خطواتي اتّساعًا مطّردًا مع مراجعة أفكاري التي طويتُ ليلتي الفائتة عليها. ثم استوقفني طريقٌ عالٍ مخضوضر مُشرف على أبنية مُتراصّة مغطاة سقوفها بالقرميد، تراءت من بعيد في اكتظاظها وتداعيها على بعضها البعض مثل مساكنَ شعبية رغم حداثتها، ومن خلفها سَمقتْ أبراجٌ مُبهِرة التحمتْ نهاياتها بالقُبّة السّماوية الزرقاء، الموشاة بِنُدفٍ من الغيوم كما القُطن، فتجلّى المنظر كواحدة من أبهى صور الحياة المدنية.

يرد في كتاب "كيف تعاش الحياة": "يكمنُ الخلاص في الانتباه التام للطبيعة" و"العقل يتدفق، ويتدفق في تيّار وعيٍ لا ينقطع"

وبرغم الطراز السّوادويّ الذي دمغَ يومي هذا، إلا أنني لم أستطع كبح نفسي من إخراج هاتفي المحمول لالتقاط صورة للانستغرام، قلتُ في نفسي ستكون هذه صورة جميلة، وفكرتُ في عَنونتها بأول عبارة خطرت في بالي، أو بالأحرى تذكرتها لحظة خروجي من المنزل، وهي من قصيدة القصيدة "سَفرٌ سَفر" لـ معين بسيسو، "سَلامًا أيها المتراس، إن ضاقتْ بكَ المُدنُ؛ فما ضاقتْ بك السُّفنُ"، مع أنها تضيقُ والله يا معين، تضيقُ كثيرًا. ثم عاودتُ المشي وطحنَ أفكاري معا، وما كانَ بيننا البارحة يخضُّ روحي خضًّا.

اقرأ/ي أيضًا: سلطة الحذاء وأيروتيكا الكعب العالي

كنتُ قد اعتقدتُ أن في إلحاحي تأكيدًا ظريفًا على قوة مشاعري، في حين لم تُخفِ أنتَ امتعاضكَ، وعِبتَ عَليّ نَفادَ صبري وما حسِبتهُ لهفةً لا لبسَ فيها، ونَعتني باللّحوح، "وبصلتكِ محروقة كذلك"! ولو أن الأمر اقتصرَ على موقفٍ كهذا لَهانت الأمور، ولكن الأسوار ما بيننا ممتدة مثل سور الصين، وحواجز التّضاد صلدة معتقة كقلعة دمشق.

وهنا لمحتُ كوكبة من الكلاب هائلة الحجم تتقلّب في حرارة الشمس بِكسلٍ لذيذ، فمشيتُ بجوارها متظاهرة باللامبالاة وعدم خوفي من الكلاب. لا أعرف ما الذي دفعني أمس في عِزّ مشاعري المضطرمة لتناول كتاب كيف تُعاش الحياة، أو حياة مونتاني (*)، وهو ليس كتاب تنمية بشرية فهذا النوع من الكتب لا يستهويني عادة. في الفصل الذي كتبه بعنوان عن المُقعدين مثلًا يبدأ مونتاني بتكرارِ شائعة عن النساء القعيدات؛ إذ يُقال إن ممارسة الجنس معهن أكثر متعة. وسألَ لماذا يمكن أن يحدث هذا؟ هل لأنهن يتحركن على نحو غير معتاد؟ ربما، لكنه يضيف: "المدهش أني عرفتُ لتوّي أن الفلسفة القديمة حلّت هذا السؤال". قال أرسطو إن مهبلهن أقوى عضليًّا لأنه يتلقى التغذية التي تُحرم منها سيقانهن. (نعم، نعم تبًّا للمرأة وعيشتها، مقعدة كانت أم ماشية). إلا أن مونتاني ما برح إلا وأن دحض الفكرة بعد تدوينها، فالنظريات جميعا لا تتمتع بالثّبات.

وفي مكانٍ آخر: "لا ينبغي الحكم على سعادتنا إلا بعد موتنا". ثم آخر: "مع تقدم مونتاني في السّن لم تقل رغبته في أن ينتبه للحياة بدهشة، بل ازدادت قوة". "يكمنُ الخلاص في الانتباه التام للطبيعة". "العقل يتدفق، ويتدفق في تيّار وعيٍ لا ينقطع".

وما تزال الشمس تفيض كرمًا على السّابلة، وعقلي عاكفًا على مطبعته. ثمّ استوقفني رجلٌ بدا رقيق الحال في هيئته وأقنعني بشراء مناديل ورقية وأعواد ثقاب بثمن مبالغ به، ولم أكن بحاجتها فعليًا، "لازم أدفع آجار البيت وأشتري لحمة للأولاد، يبدو عليكِ أنك بنت حلال، أجزائرية أنت؟ لا سورية، الله يجبرك الله يحشرك مع المصطفى والزهراء"!

جدير بالمرء أن يعامل الناس بظواهرهم لا بما هو خافٍ عليه. بيد أن الحياة بدت مختلفة عن كل ما قرأناه!

ثم حملتُ بضاعته ولم تنطلِ عليّ الحيلة ولا الدعاء ولكن جدير بالمرء أن يعامل الناس بظواهرهم لا بما هو خافٍ عليه. بيد أن الحياة بدت مختلفة عن كل ما قرأناه! إذ لأيّ شيء جادت الهِمم وَصرّت الأقلام وتكاثرت السطور سوى لأنها دَرَت بهشاشة الإنسان، فأرادت وضع يدٍ مُسكِّنة على الضعف البشري وما يرافقه من خوف ووحدة وإخفاقات وخيبات وآلام وأحزان مقيمة! ولكن أنّى لمن حلّت به كل تلك مجتمعةً أن يكون له في الكلمات عزاء؟ الهشاشة أيضًا أعيت من يداويها. كفرتُ بدين الكلام، الكلمات التي صرتُ أراها وجوهًا ساخرة تُدلّي ألسنتها في وجهي. ثمّ كان للزهر في أوانيه مُنمقة وغير منمقة، فاخرة ومتواضعة أن يأخذني من كل هذا. برغم كل شيء نُثر الزهر واحتلت الورود بيضاء وحمراء وصفراء حيّزا لطيفًا مبهجًا من شوارع اسطنبول بمناسبة يوم المرأة العالمي، فاعتزمتُ شراء زهرة لنفسي، ولم لا؟ ومن جديد أخرجتُ هاتفي لألتقط صورًا للزهر ببائعاته الجميلات اللواتي لم تَحجِب بضاعتهن الفاتنة شقاءهن السّافر، وبائعيه من الأطفال ومن الرجال، ولكنه حظي وأعرفه! انطفأ هاتفي فجأة رغم شحنه شبه المكتمل، "حتى أنت يا هاتفي!" فاشتعل ثم انطفأ، واشتعل وانطفأ، وازداد مزاجي عكرًا على عكر. فأعرضتُ عن المشروع جملة وتفصيلًا. وفيما أنا ماشية رفقة شرودي ابتدرني شاب في مقتبل العمر بباقة من الورد الأحمر، فتفاصحتُ وسألته عن ثمنها بالتركية، "نيه كادار؟"، فقال لي بابتسامة متواضعة عذبة إنها هدية، هكذا تقال بالتركية هدية أيضًا، فتلعثمتُ وتراقصت عيناي دهشة وسألته امتنانًا لا استفسارا "هدية مه!"، ثم شكرتهُ وأجابني "ندمك يعني!" يقصد العفو، ولو مو محرزة! وفي تلك اللحظة فقط انتبهتُ لزميله الذي كان يحمل كاميرا احترافية ويصور النساء اللواتي يتلقين باقات الزهر، فَحيّيته بهزّةٍ من رأسي مُتمنية له يومًا طيّبًا: "إيي غونلير".

اقرأ/ي أيضًا: ماذا يستطيع الأدب؟

لعلّي تبرعتُ بصورتي لمجلة سيدات مَنسيّات وحيدات! فاتني رفع كمامتي لأمهر صورتي المباغتة بأسناني السّوية البيضاء، وبابتسامة أزعمُ عابثة أنها أكثر جاذبية من ابتسامة مارلين مونرو، وما أظن نظّارتي كانت لتسمح بعبور التماعةِ امتنانٍ في عيني، وبقايا بُكاء من ليلة فائتة. فازَا بصورتي السّاهية المأخوذة بدهشةٍ وسرور مباغتين، لكنني فزتُ بباقة الحبّ المختبئ خلف كواليس سرمدية. بفرحٍ وعناية احتضنتُ الباقة الصغيرة كمن يحتضنُ رضيعًا حديث الولادة، ومشيتُ. عندما بلغتُ بيتي صعدتُ إلى شقة جارتي المسنّة الثرثارة التي تقيم بمفردها، علّقتُ الباقة على بابها، وهبطتُ إلى شقتي، لأقول قولي هذا قبل فعل أي شيء، ثم تناولتُ كتابَ "كيف تُعاش الحياة" من جديد.

 

هامش:

* كتاب لسارة بكويل يدور حول ميشيل دي مونتين (1533 - 1592) وهو أحد أكثر الكتاب الفرنسيين تأثيرًا في عصر النهضة الفرنسي. رائد المقالة الحديثة في أوروبا. وقد استلهمَ كتاباته في المقام الأول من قصص قرأها وتأثر بها كمثل قصص أوفيد ووقائع تاريخية من قيصر وتاكيتوس، وشذرات من السير الذاتية من بلوتارخ، ونصائح عن كيف تعاش الحياة من سينيكا وسقراط. ثم من قصص سمعها من محيطه، وأسفاره وعمله بالقانون والسياسة. إلى أن نمت مادة كتابته حتى شملت كل أثر من عاطفة أو فكر مر بهما في حياته، وليس أقلها رحلة دخوله في الغيبوبة واستعادته الوعي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

اخلعي النقاب ارتدي الكمامة: ديمقراطية وإسلاموفوبيا

أفيالٌ في الغرفة