في عصر التدفق اللامحدود للمعلومات، أصبحت نظريات المؤامرة أكثر حضورًا من أي وقت مضى، مما جعلها جزءًا من النسيج الثقافي والسياسي للولايات المتحدة. يسلط مقال ديفيد ولاس-ويلز في صحيفة "نيويورك تايمز"، بعنوان "نحن عالقون في شبكة واسعة من المؤامرات، لكن خيوطها مرئية"، الضوء على هذه الظاهرة ويطرح تساؤلات جوهرية حول ما إذا كنا نعيش حقًا في "العصر الذهبي" لنظريات المؤامرة.
ملفات كينيدي و"خيبة الأمل الكبرى"
يشير الكاتب إلى أن المؤرخ آرثر شليزنغر كتب مذكرة عام 1961 حذر فيها الرئيس كينيدي من تنامي نفوذ وكالة الاستخبارات المركزية "CIA" إلى درجة جعلتها في العديد من مناطق العالم لاعبًا دبلوماسيًا أكثر تأثيرًا من وزارة الخارجية.
يُظهر المقال أن انتشار نظريات المؤامرة لم يعد مقتصرًا على الأحداث التاريخية الكبرى مثل اغتيال كينيدي، بل امتد ليشمل مواضيع حديثة مثل أصول فيروس "كوفيد-19"
في المقابل، يلفت ولاس-ويلز إلى خيبة الأمل التي صاحبت نشر وثائق جديدة حول اغتيال الرئيس الأميركي جون كينيدي من قبل الأرشيف الوطني. فعلى الرغم من وعود الرئيس دونالد ترامب بالإفراج عن 80 ألف صفحة، إلا أن ما تم نشره لم يتجاوز 64 ألف صفحة، ولم يتضمن أي معلومات صادمة أو كشفًا حاسمًا حول واحدة من أكبر نظريات المؤامرة في التاريخ الأميركي الحديث.
هذه النتيجة المخيبة للآمال دفعت البعض إلى الترويج لنظرية مؤامرة جديدة مفادها أن الإفراج عن هذه الوثائق كان جزءًا من عملية تمويهية لإخفاء الحقيقة.
من كينيدي إلى كوفيد-19: تمدد الشكوك في النظام
يُظهر المقال أن انتشار نظريات المؤامرة لم يعد مقتصرًا على الأحداث التاريخية الكبرى مثل اغتيال كينيدي، بل امتد ليشمل مواضيع حديثة مثل أصول فيروس "كوفيد-19". ففي ظل التوترات العالمية المتصاعدة، أصبح من "المعقول تمامًا" الاعتقاد بأن الفيروس تم تصنيعه في مختبر، ثم تم تسريبه عن طريق الخطأ، في ظل محاولات لاحقة للتغطية على الأمر. اللافت في هذا السياق هو أن نظريات المؤامرة لم تعد حكرًا على الجماعات المتطرفة أو المعزولة، بل أصبحت تتغلغل في الخطاب السياسي السائد، حيث تشير بعض وكالات الاستخبارات، مثل الاستخبارات الألمانية، إلى احتمالية أن يكون الفيروس قد خرج من مختبر بالفعل.
تجذر البارانويا السياسية في العصر الرقمي
يرى ولاس-ويلز أن مناخ الشكوك السياسية في الولايات المتحدة لم ينشأ من فراغ، بل هو نتاج تراكم طويل من الفضائح والتسريبات التي كشفت تورط حكومات وشخصيات نافذة في ممارسات خفية. من فضيحة "أوراق بنما"، التي كشفت عن شبكة واسعة من الفساد المالي العالمي، إلى قضية الملياردير الراحل جيفري إبستين، التي سلطت الضوء على علاقاته المتشعبة مع نخبة السياسة والمال. في السابق، كانت هذه الفضائح تستمر في الذاكرة العامة لفترة طويلة، لكنها اليوم أصبحت تُعامل كأحداث عابرة وسط فيض المعلومات المتسارع.
صعود مفهوم "الدولة العميقة"
يشير كاتب المقال إلى أن الأميركيين يشهدون اليوم ازدهارًا غير مسبوق لنظريات المؤامرة، التي انتشرت في البلاد منذ اغتيال كينيدي قبل أكثر من ستة عقود. ويعكس هذا الانتشار الواسع ظهور حركات مثل "كيو أنون" وتداول مصطلحات نمطية مثل "الدولة العميقة" و"روسيا غيت"، التي باتت جزءًا من الخطاب السياسي والإعلامي.
في هذا السياق، لم يكن مستغربًا أن تصبح رموز حركة "كيو آنون" حاضرة بقوة في التجمعات السياسية، حيث شوهدت لافتات تحمل ألوانها خلال مسيرات مؤيدة لترامب، مما يعكس مدى تغلغل نظريات المؤامرة في التيار السياسي السائد.
وأصبح مصطلح "الدولة العميقة" يستخدم على نطاق واسع ليس فقط من قبل الجماعات اليمينية المتطرفة، ولكن أيضًا في الخطاب السياسي العام. يعود هذا إلى فكرة أن هناك شبكة غير مرئية من المصالح والتأثيرات تعمل خلف الكواليس لتوجيه السياسة الأميركية.
هذه الفكرة تعززت مع ظهور شخصيات مثل إيلون ماسك، الذي حاول في أول شهرين من ولاية ترامب الثانية، وفقًا لولاس-ويلز، تحجيم وإعادة برمجة آليات عمل البيروقراطية الفدرالية بأكملها، اعتمادًا على شبكة غامضة من المستشارين.
الإعلام الجديد والذاكرة الجمعية: من الثقافة الخطية إلى الثقافة الشفهية
من العوامل التي يراها ولاس-ويلز مؤثرة في انتشار نظريات المؤامرة هو التحول من ثقافة قائمة على التحليل النقدي إلى ثقافة شفهية تعتمد على السرديات المتداولة عبر منصات مثل "تيك توك" و"يوتيوب".
في ظل هذه البيئة، تصبح المبالغة والتكرار أدوات مؤثرة لترويج القصص الزائفة، حيث يتم تقويض التحليل النقدي لصالح العواطف والمشاهد المثيرة. وهنا يستشهد الكاتب بدراسات تشير إلى أن التاريخ نفسه قد بدأ يتشابه مع الأساطير، حيث يتم تعديل الماضي ليتوافق مع القناعات الحالية، بدلًا من أن يكون درسًا موضوعيًا للمستقبل.
هل نحن أمام تحول جذري في مفهوم الحقيقة؟
السؤال الجوهري الذي يطرحه المقال هو: هل يعود انتشار نظريات المؤامرة إلى طبيعة الثقافة الحديثة، أم أنه نتيجة لعوامل تاريخية وسياسية متراكمة؟ في حين أن الإعلام الرقمي ساهم بلا شك في تسهيل انتشار السرديات المشككة، إلا أن وجود فضائح ووقائع ملموسة، يجعل من الصعب الفصل بين ما هو مجرد "بارانويا" وما هو حقيقة تستحق التحقيق.
من العوامل التي يراها ولاس-ويلز مؤثرة في انتشار نظريات المؤامرة هو التحول من ثقافة قائمة على التحليل النقدي إلى ثقافة شفهية تعتمد على السرديات المتداولة عبر منصات مثل "تيك توك" و"يوتيوب"
بين الحقيقة والأسطورة
في نهاية المطاف، يرى ديفيد ولاس-ويلز أن انتشار نظريات المؤامرة يعكس أزمة ثقة حقيقية في المؤسسات السياسية والإعلامية، أكثر من كونه مجرد ظاهرة ثقافية سطحية. وبينما قد يكون من المغري الاعتقاد بأن تحسين بيئة المعلومات يمكن أن يقضي على هذه الظاهرة، فإن الواقع يشير إلى أن الشكوك المتأصلة في النظام ستظل قائمة ما دامت توجد أسئلة بلا إجابات، وما دامت هناك مصالح خفية تعمل بعيدًا عن أعين العامة.
ما يثير القلق، وفقًا لولاس-ويلز، هو أن تآكل الثقة في المعلومات الرسمية قد يؤدي إلى حالة من الفوضى المعرفية، حيث يصبح من المستحيل التمييز بين الحقائق والتلفيقات. في ظل هذا الواقع، يبدو أن نظريات المؤامرة ستبقى جزءًا لا يتجزأ من المشهد السياسي الأميركي، إن لم يكن العالمي، في المستقبل المنظور.