01-ديسمبر-2016

صورة لآلاف الجماجم من ضحايا المجازر في رواندا (شيب سيمودوفيلا/Getty)

فتح اتهام "اللجنة الرواندية الوطنية لمكافحة الإبادة" 22 ضابطًا فرنسيًا كبيرًا بالتورط في حملة المجازر، النقاش مجددًا حول الدور الفرنسي في أعمال القتل التي أودت بحياة أكثر من 800 ألف شخص في العام 1994.

وجاء قرار اللجنة، وفق ما ذكرت مصادر قضائية، ردًا على قرار قاضيين فرنسيين إعادة إطلاق التحقيق في الهجوم على الرئيس السابق جوفينال هابياريمانا. وقالت اللجنة في تقرير بعنوان "التلاعب في ملف طائرة هابياريمانا، تغطية على المسؤوليات الفرنسية في الإبادة"، إن "ضباطًا فرنسيين وشخصيات سياسية ارتكبوا جرائم خطرة جدًا في رواندا".

اللجنة الرواندية الوطنية لمكافحة الإبادة تتهم 22 ضابطًا فرنسيًا كبيرًا بالتورط في حملة الإبادة في العام 1994

هذا الاتهام ليس جديدًا، وتسعى الحكومات المتعاقبة في فرنسا ومعها وسائل الإعلام إلى عدم نشر أي معلومة تفيد بـ"التورط"، خصوصًا أن تصريحات الإليزيه، كانت "مضللة" بما يخص أي دليل يساهم في الإشارة إلى مساهمة عسكريين نافذين في الجيش الفرنسي، في إذكاء المجازر والمشاركة فيها.

وعندما وقعت المجازر، تكفل رئيس البعثة الفرنسية في نيويورك بتحديد مدة اختصاص المحكمة الجنائية الخاصة برواندا، بقوله: "تبدأ صلاحيات المحكمة في الأول من كانون الثاني/يناير 1994 وتنتهي في 31 كانون الأول/ديسمبر من نفس العام". وهذه أولى محاولات الفرنسيين لتعطيل مجريات "الحقائق". واشترطت فرنسا أن لا يكون القرار 978 لمجلس الأمن بتسليم المسؤولين عن الإبادة الجماعية ملزمًا. وثمة تواطؤ فرنسي-رسمي على قسم هام من الأرشيف المتعلق بالموضوع.

اقرأ/ي أيضًا: المرتزقة الجدد.. الجيوش الخاصة والنظام العالمي

وفي السياق نفسه، وعلى إثر اجتماع بين الرئيس جاك شيراك ورئيس الوزراء غوسبان، أعلنت الجمعية العامة الفرنسية في العام 1998 عن تشكيل "لجنة معلومات برلمانية" يرأسها بول كيليس وزير الدفاع السابق، من أجل "فهم ما حدث".

احتجت المنظمات غير الحكومية على هذا الاختزال لقضية تورطت فيها أهم مرجعية دفاعية في فرنسا، وهي تابعة مباشرة للسلطة السياسية العليا. وقد لخصت، فرانسواز بوشيه سولنيه، من "أطباء بلا حدود" الموقف بقولها: "في قضية بهذه الخطورة، إن لم تكن القواعد محددة منذ البدء، من الوهم أن نتصور أية فعالية لهذه اللجنة. (...) لم يكن لدينا أية أوهام منذ اليوم الأول لتشكيل اللجنة، ولذا لم نستغرب أن تكون نتيجة التقرير في كانون الأول/ديسمبر أن فرنسا غير متورطة بأي شكل من الأشكال في المأساة الرواندية".

ولعل بعثات التحقيق والأبحاث المستقلة التي تلت ذلك، هي التي أعادت الموضوع إلى السطح. وكان للذكرى العاشرة للمأساة الرواندية أن تعيد النقاش رغم صخب الأوضاع الدولية. لكن الخطاب الرسمي الفرنسي لم يتغير. وقد استعمل رئيس الوزراء دومينيك دوفيلبان تعبير "إبادات" الشائع على لسان الرسميين الفرنسيين، الذين يعتبرون المجازر التي ارتكبتها الجبهة الوطنية الرواندية إبادة جماعية بحق الهوتو.

تحاول السلطات الفرنسية والإعلام إخفاء أي أدلة أو شهادات تساهم في تثبيت اتهام فرنسا في المجازر الرواندية

ويذكر الصحافي السابق في "لوفيغارو" باتريك دو سانت أكزيبيري في كتابه "ما لا يصرّح به" ما كان يقدمه الجيش الفرنسي من شحنات السلاح إلى القوات الرواندية، في الأعوام 1991، 1992، و1993. وطبعًا في ظل "معمعة" الإبادة الجماعية بين 19 نيسان/أبريل و18 تموز/يوليو، حيث تم إيصال ست شحنات من الأسلحة بقيمة 5454395 دولارًا.

ووفق جان بول غوتو، مؤلف كتاب "الليلة الرواندية"، فإن المساعدات الفرنسية سمحت بتحويل القوات المسلحة الرواندية من 5300 عنصر إلى قرابة خمسين ألفًا، تكفلت فرنسا بتسليحهم وتدريبهم وتأمين احتياجاتهم. وحسب أندريه ميشيل أوسونغو، مؤلف كتاب "عدالة في أروشا"، فإن الحكومة الرواندية "صرفت لشراء السلاح بين تشرين الأول/أكتوبر 1990 ونيسان/أبريل 1994 قرابة 100 مليون دولار".

وفي 3 شباط/فبراير 1992، ووفق وثيقة للخارجية الفرنسية تولى قائد القوات الفرنسية شوليه وظيفتي مستشار رئيس الجمهورية ومستشار قائد أركان الجيش الرواندي. كما شكل في نفس العام الحزب الحاكم مليشيات أنتيراهامو من شبيبة الهوتو، التي ارتكبت مجازر بحق التوتسي، في منطقة غيزني.

لقد دقت عدة بعثات دولية ناقوس الخطر. ففي كانون الثاني/يناير 1993، وبتكليف من "هيومن رايتس ووتش" والفدرالية الدولية لحقوق الإنسان والاتحاد الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب والمركز الدولي لحقوق الأشخاص وتنمية الديمقراطية، وصلت بعثة دولية إلى رواندا. التقرير الذي أصدرته البعثة تم إرسال نسخة منه للرئيس الفرنسي، وهو يتحدث عن وقوع مجازر بحق التوتسي كانت السلطات تنفي وقوعها. وتوصلت بعثة التحقيق لاستنتاج أساسي هو أن المجازر التي وقعت بين 1990 و1993 ليست ابنة الصدفة أو التلقائية، بدءًا من الإذاعة والمناشير إلى فرق الموت.

اقرأ/ي أيضًا: فرنسا.. من الفعل إلى الثرثرة

ويخلص التقرير إلى القول: "فيما يتعلق بالدولة الرواندية، توصلت البعثة الدولية إلى الاستنتاج بأن انتهاكات حقوق الإنسان جسيمة ومنهجية وهي تستهدف بشكل متعمد اثنية محددة، إضافة إلى المعارضة السياسية بشكل عام" (ص 95). كما يطرح السؤال حول الإبادة الجماعية قبل أكثر من عام (ص 49).

ويبدو أن أيادي الحكومة الفرنسية ملطخة بالدماء الرواندية، هذا ما ورد في تقرير لجنة (موكيو) في إشارة إلى أن القوات الفرنسية قد قامت بتدريب وحدات خاصة لهذا الغرض قبل سنتين من "المذابح البشعة"، هذه الوحدات الخاصة إضافة لجنود الحكومة الرواندية المتطرفة وقتها، كانت هي رأس حربة في تنفيذ المذابح الجماعية والفظائع التي صاحبتها. الدور الفرنسي يذهب إلى ما هو أبعد من مجرد إعداد الترتيبات حسب التقرير الرواندي فالجنود الفرنسيون قاموا بتسهيل الإبادة التي جرت في جنوب غرب رواندا. ويكشف أن هذه القوات "لم تحرك ساكنًا لمواجهة نقاط التفتيش التي أقامتها قوات الهوتو، لقد طلبوا وبوضوح من أفراد نقاط التفتيش هذه مواصلة الإشراف عليها وقتل عناصر التوتسي التي تحاول الهروب عبرها"، وفق التقرير.

ومن الأسماء التي يذكرها التقرير بالتورط، رئيس الوزراء الفرنسي السابق إدوارد بالادور، وزير الخارجية السابق آلان جوبيه والرئيس الفرنسي السابق فرنسوا ميتيران والذي توفي في العام 1996 ضمن الذين وردت أسماؤهم في القائمة التي تحوي 13 من الساسة الفرنسيين الذين تورطوا في المذابح، ومن بينهم أيضًا دومينيك دو فيليبان، الذي كان وقتها الساعد الأيمن لجوبيه ثم صار لاحقًا رئيسًا للوزراء.

ومن أجل خلط الأوراق، قامت فرنسا بغرض إبعاد الشبهات من حولها باتهام الرئيس الرواندي بول كاغامي باغتيال الرئيس السابق جوفينال هابياريمانا. لكن الرئيس الرواندي بول كيغامي رد من جهته بأن هناك "أدلة قوية تفضح العلاقة بين فرنسا والحكومة المتطرفة لنظام الهوتو وقت حدوث الإبادة الجماعية".

وبالرغم من ميزانية سنوية تزيد عن 100 مليون دولار وأكثر من 800 موظف وستة عشر قاضيًا، لم يصدر عن المحكمة الدولية المتخصصة بمجازر رواندا حتى نيسان/أبريل 2006 سوى 24 إدانة قضائية وثلاثة أحكام بإطلاق السراح. وبين المتهمين التي وجهت لهم اللجنة الرواندية أصابع الاتهام، رئيس الأركان السابق للجيش الفرنسي جاك لانكساد والجنرال قائد قوة "توركواز" جان كلود لافوركاد، التي نشرت في رواندا بتفويض من الأمم المتحدة في 22 حزيران/يونيو العام 1994.

من المتهمين بمجازر رواندا رئيس الأركان السابق للجيش الفرنسي جاك لانكساد وقائد قوة "توركواز" جان كلود لافوركاد

في آذار/مارس 2004، نشرت صحيفة "لوموند" فحوى تقرير بروغير "قاضي الإرهاب"، حول مقتل ثلاثة ملاحين فرنسيين في طائرة الرئيس الرواندي السابق، وهو حادث اتهم فيه الرئيس الرواندي كاغامي باغتيال سلفه قبيل الإبادة الجماعية. ولعل السلطات الفرنسية أرادت بهذا التسريب للصحيفة أن تستبق في الذكرى العاشرة لهذه التراجيديا، استعادة الأضواء حول الدور الفرنسي في الإبادة الجماعية في رواندا.

ولم تكتف الحكومة الرواندية بالرد بعنف، بل أصدرت في تشرين الأول/أكتوبر من العام نفسه قانونًا حول تشكيل لجنة مستقلة للتحقيق في التورط الفرنسي في الإبادة الجماعية. والشهادات أمام هذه اللجنة منذ نيسان/أبريل 2006 تؤكد التورط الفرنسي. فهل يمهد هذا التحقيق إلى كشف ملابسات أهم مجازر القرن، وفضح أهم أسماء القادة العسكريين الفرنسيين الذين قاموا بها؟.

اقرأ/ي أيضًا:

ماذا لو فازت لوبان برئاسة فرنسا؟

تجارب فرنسا النووية.. جرح الجزائر الغائر