11-يناير-2016

تمام عزام/ سوريا

كنت أتصفح الكتب في زاوية الروايات في معرض كتب في مدينة تورونتو الكندية، عندما سمعت إحدى الموظفات تقول لزميل لها "أكره الروايات المترجمة من العربية، فهي روايات كئيبة ومليئة بالموت". دفعني قولها ذلك إلى التدخل في الحوار مدافعًا عن خيارات الروائيين العرب، والسياق الكارثي المفروض عليهم الآن وهناك، في مقابل السهولة والرفاهية في السياق الكتابي الإبداعي الكندي خصوصًا، والغربي عمومًا. 

سارتر: كلما توغل السم النازي أكثر في أفكارنا كلما أصبح التفكير الدقيق مطلبًا جماعيًا

بعد مغادرتي معرض الكتب، دققت في رد فعلي على الموظفة الشابة، ووجدت أنني بالغت في دفاعي عن التجربة الكتابية العربية، وأنني تحاملت على الكتابة في الغرب. قادني التدقيق فيما بعد إلى التفكير فيما نكتب في العالم العربي، أو بالأخص فيما نكتب عندما نكتب عن الموت. فحتى الكتابة عن الموت وفي سياقه، لا تقود بالضرورة إلى الإغراق في "الميلانخوليا"، أو تدوير وإعادة تدوير المأساة عبر النص الأدبي. 

في وصف الموت أثناء الحرب العالمية الثانية التي قتلت ما يناهز الستين مليون إنسان، قال الكاتب والمفكر الفرنسي جان بول سارتر في إحدى مقالاته، التي نشرتها مجلة "أتلانتك مونثلي الأمريكية عام 1944": "تحت الاحتلال الألماني، فقدنا كافة حقوقنا، تمت إهانتنا كل يوم.. طردونا من كل مكان، كعمال، كيهود، كنشطاء سياسيين. في كل مكان، على الجدران، في الصحف، على الشاشة، وجدنا صورتنا الكريهة التافهة التي تمناها لنا المستعمر. لذلك كنا أحرارًا. كلما توغل السم النازي أكثر في أفكارنا كلما أصبح التفكير الدقيق مطلبًا جماعيًا... تعلمنا من المنفى والاعتقال، وفوق ذلك الموت أنها ليست أحداثًا من الممكن تجنبها، بل وسائل لاكتشاف مصيرنا والمصدر العميق لمعنى كينونتنا". 

إرث تلك الحرب حمل سارتر إلى منطقةٍ فكريةٍ نعرفها جميعًا هي الوجودية، حيث معالمها الرئيسة مستوحاة بشكلٍ جوهري من فن التعامل مع الموت، مع خطرٍ كامن ضد الإنسان في كل مكان. هذه المعالم هي الشعور بالخطر-العزلة-المسؤولية-الحرية.. 

في مكان قريب، وقبل أشهرٍ قليلةٍ من نشر مقالة سارتر، كان الروائي الأمريكي ج. د. سالينجر في الصفوف الأولى ضمن الجيش الأمريكي الذي كان يهبط في النورماندي في طريقه لهزيمة الألمان، وكان وفقًا لكُتّاب سيرته يحمل مسودة روايته "الحارس في حقل الشوفان" في يده، عابرًا خطوط القتال إلى شوارع باريس حيث احتسى البيرة مع همنغواي. 

ليس في ذلك عبثًا تخيليًا، فالسطور الأخيرة من "الحارس في حقل الشوفان"، تفصح عن رائحة الحرب حيث يقول هولدن كوفيلد: "لا تقل لأحد شيئًا، فأنت إن فعلت ذلك خسرتهم كلهم". من أجل فهم تلك الكينونة التي يتكلم عنها سارتر، والنفس الطفولي المعبأ بالتراجيديا في رواية سالينجر، لا بد من تناول المعنى الحقيقي للكتابة في سياق الموت أو الكتابة عن الموت. الموت الذي لم يعد أحد من "هناك" كي يحدثنا عن سره، ذلك الذي لا يعلن عن "وجوده" إلا بمحو وجود آخر، فتنقلب الحياة بمعمارها الفيزيائي السخي إلى "ظل يمشي" بالتعبير الشكسبيري. 

من عيوب النص العربي المعاصر أن الكتابة عن الموت أصبحت قيمة في حد ذاتها

استدعاء الحرب العالمية الثانية ليس معلمًا عرضيًا في هذا النقاش، فقد كانت الحدث الدموي الأقسى والأكثر شراسة في التاريخ البشري. في ذات الوقت، أدت الحرب وفي مدة قصيرة إلى ظهور عدد هائل من الكتاب والمثقفين الذين تعاملوا مع الأدب والفن تعاملًا أكثر ديناميكية من قبل، حيث كرسوا مفاهيم وممارسات الحداثة وأسسوا فيما بعد لما بعد الحداثة، ناهيك عن التقدم العلمي الكبير وأثره البالغ على تنمية جماليات وحركيات الفنون. لذلك فإن سبر رموز الحرب العالمية أو أية حرب أخرى وتأثيرها على التعامل الترميزي مع الموت، هو فعل حيوي مهم وضروري لفهم سياق الكتابة الإبداعية العربية عن الموت في الوقت الحالي، الذي يختفي فيه المئات والآلاف كل يوم، ويتدفق فيه اللاجئون من البلاد العربية عبر البر والجو والبحر. 

في تناول الموت، تعاني الكتابة الإبداعية العربية "شعر، قصة، رواية"، من بعض العيوب التي تجعل النصوص المنتجة قليلة التأثير والفعالية في فكر وذائقة القارئ العربي والقارئ المُتَرجَم له. من العيوب الكبيرة: الوصف لغرض الوصف، بحيث يصبح النص الروائي حدوتة يتلوها طفل عاد من المدرسة بعد يومه الأول، فلا تعرف أين الحدث ولا ماهية الصراع ولا كيف تتطور الشخصيات. 

من العيوب أيضًا، ضعف البؤرة الدرامية، وفي حالة الكتابة عن الثورات والمجازر ضعف التسلسل التراجيدي، بحيث لا ترى الخيط الذي يحملك إلى التعاطف مع البطل أو إلى الصراخ "تبًا، لماذا حصل ذلك؟"، بعد أن ترى النهاية الكارثية. ومن العيوب أن الكتابة عن الموت أصبحت قيمة في حد ذاتها، فيكفي أن يضيف أحدهم إلى قصيدته أو روايته كلمات مثل "دم، سكين، موت، جثة، مجزرة، ضحية"، حتى يتكاثر القراء والمعجبون وجماهير السوشيال ميديا حول النص، كأنهم يشاهدون عملًا عبقريًا فريدًا. يرتبط ذلك بإشكالية تتعلق بالعيوب المذكورة سابقًا، وهي إشكالية مركزية تتعلق بالذائقة الأدبية عند القراء العرب، فثمة بؤس فادح في تقييم الآداب والفنون في عالمنا الناطق بالعربية، يرجع بشكلٍ رئيسي إلى ضعف المعايير "أو انعدامها أحيانًا"، في تقييم النص الجيد وتمييزه عن النص الضعيف. 

اقرأ/ي أيضَا:

الإمبريالية.. تاريخ مظلم ومتجدد

مواسم قتل الشعراء