21-مايو-2019

الوقوع في أخطاء مهنية قد ينتج كارثة عندما نتحدث عن الصحافة والإعلام (مواقع التواصل الاجتماعي)

إعداد: سفيان البالي ومحمد العتر

دقيق جدًا هو خط الخطأ الفاصل بين معاداة السامية ومعاداة الصهيونية، لدرجة لا تزال تثير جدلًا في الأوساط المثقفة عبر العالم؛ بدليل النقاش الأخير الذي دار في فرنسا حول الأمر.

عندما تُقدم معلومة معرفية ينبغي الالتزام بشروط المعرفة، الأمر الذي لم يتحقق في الفيديو الذي بثته شبكة "+AJ" عربي

هكذا يستوجب على المشتغل في الموضوع بشكلٍ معرفي، وإن كان صحفيًا أو معد برامج، أن ينتبه للسقوط في المحذوريْن: عدم الالتزام بمنهج المعرفة التاريخية، والانسياق مع الروايات التجارية على الجانبين.

اقرأ/ي أيضًا: عن معركة الفلافل وكسل المواقع الصحفية العربية

إذًا، فعندما تُقدم معلومة معرفية، فإن الالتزام بشروط المعرفة ضرورة، وهو الأمر الذي لم يتحقق على ما يبدو في الفيديو الذي بثته شبكة "+AJ" عربي، والذي أخذ كموضوع، طرح تفاصيل المحرقة اليهودية، خالقًا بذلك الحدث بموجة التنديدات التي تلته.

تعزيز السردية الإسرائيلية!

الخلل في مادة الفيديو يبدأ من عنوانها: "هل كان 6 مليون يهودي فعلًا ضحايا للمحرقة؟"، حيث يمكن تفهّمه على أساس الضرورة الترويجية باستفزاز المشاهد لاستهلاك تلك المادة. غير أن صيغة هذا السؤال توحي بتشكيك في حادثة تاريخية، الأمر الذي لا يستجيب للواقع التاريخي، ولا للمهنية وأخلاقها.

يسترسل الفيديو في سرد معطياته عبر المساحة الزمنية المخصصة، والتي هي على ما يبدو أقلّ من الاشتباك مع طرح مركّب مثل هذا.

يبدأ الفيديو بمعطيات عادية: تعريفات وأرقام مستقاة من تلك الحقب المظلمة من تاريخ البشر، قبل أن يصل إلى نقطة الجدل "الاستفادة الإسرائيلية من سرديات الهولوكست"، مشيرةً إلى متاجرة الكيان الصهيوني بمعاناة اليهود، وهو أمر على أية حال، سبق وتطرق له العديد من المؤرخين والمفكرين، ومنهم اليهود، وعلى رأسهم حنة أرندت ونورمان فينكلستاين ونعوم تشومسكي.

نورمان فينكلستاين نفسه الذي له واقعة شهيرة، حيث يظهر في إحدى محاضراته موجهًا الخطاب لمحتجة من الحضور عن وصفه إسرائيل بالنازية، قائلًا: "أنا لا أحب ما تفعلينه الآن، ولا أحب ولا احترم دموع التماسيح، ولا أحب أن ألقي للجمهور ورقة المحرقة اليهودية. ولكن أنا مضطر أن أقول بأن والدي الراحل كان في معسكر أوشفيتز، أمي الراحلة كانت في معسكر ماجدونيفيك، كل فرد في عائلتي أبيد، كلا والدي كانا في انتفاضة غيتو وارسو. ولذلك تحديدًا، بسبب ما تعلمته أنا واثنين من إخوتي من دروس من والدي، فأنا لن أصمت عندما ترتكب إسرائيل جرائمها بحق الفلسطينيين. ولا أستطيع أن أتخيل شيء أحقر من استغلال معاناة آبائي واستشهادهم لأبرر التعذيب والوحشية وتهديم البيوت".

يتبيّن أن فيديو "+AJ"، لم يضبط زاوية المعالجة بما يناسب قضية مركبة ذات أوجه. وقد استند إلى لغة تشكيكية في واقع تاريخي، واستخدم أسلوبًا بدا أن فيه حصرًا للهولوكست على أنها قضية تخص اليهود أو حتى الصهيونية، في حين أنها مأساة إنسانية. بما عزز الاستغلال الإسرائيلي للمحرقة من جهة لم ينتبه إليها معدو الفيديو. 

في حين أراد الفيديو أن يضيء الاستغلال الصهيوني للمحرقة في تبرير جرائم إسرائيل، وقع من حيث لا يدري، في فخ التقليل، بل التشكيك، في واحدة من أفظع الجرائم الإنسانية في العصر الحديث، وهو أمر تستغله إسرائيل بنفس درجة استغلالها للمحرقة، بل بالبناء على استغلالها للهولوكست، للترويج لسرديتها التي تستبطن الانتهاكات العنصرية المادية والمعنوية، تحت غطاء المظلومية.

ضجة فحذف و"اعتذار"

منذ نشر الفيديو على الصفحات الرسمية للشبكة على وسائل التواصل الاجتماعي، تصاعد الصخب بين معارض ومؤيد لمادته. ولم يبق هذا الصخب رهين قاعدة جماهير "+AJ"، بعد أن نشرت صفحة "إسرائيل بالعربية" في حسابها على تويتر تغريدة، هاجمت الفيديو، واستغلت الفرصة للهجوم على شبكة الجزيرة، معتبرة أن مادة الفيديو "أكاذيب تقلل من أهوال المحرقة".

ثم جاء رد وزارة خارجية الاحتلال الإسرائيلي، على لسان ناطقها الرسمي، عوفير جندلمان، في تغريدة له على تويتر اتهم فيها "+AJ" بنشر "الأكاذيب" التي قال إن غرضها "تحريك الجماهير"، معتبرًا أن الفيديو يدخل في "معاداة السامية".

هذا بالإضافة إلى تغريدة من نجل دونالد ترامب حول الفيديو يتهم فيها الجزيرة بإنكار المحرقة ويدعو إدارة فيسبوك إلى حظر صفحة الجزيرة، إضافة إلى استنكاره عمل الإعلامي الشهير مهدي حسن في الجزيرة الإنجليزية بعد هذا الفيديو، حيث يعرف حسن بكونه من أبرز الوجوه الإعلامية الناطقة بالإنجليزية الناقدة لترامب وسياساته الشعبوية والعنصرية. 

 

استجابت شبكة الجزيرة و"+AJ" للضجة التي أحدثها الفيديو بأن حذفته. لكنها ألحقت الحذف ببيان، اعترض عليه كثيرون على مواقع التواصل الاجتماعي، ليس لما ورد فيه من توضيح بأن الفيديو "مخالف للمعايير والضوابط التحريرية والمهنية للقناة" كما جاء في نصه، وإنما لما اعتبروه "تشهيرًا" بالصحفيين الذين عملوا على إنتاج الفيديو، لمّا أعلن البيان أنه "تم اتخاذ إجراءات تأديبية في حقهم"، ورمى بكامل المسؤولية عليهم، مُنصّلًا الإدارة من أي مسؤولية كما يتضح.

ضربة جزاء مجانية

الخطأ الذي وقعت فيه "+AJ" ليس الأول من نوعه، وسبق لوسائل إعلام عربية عديدة الوقوع في نفس الخطأ في التعاطي مع قضية مثل الهولوكست، فيما يبدو اصطفافًا غير واعٍ في نفس خندق السردية الصهيونية، بتعزيزها من جهة إنكار الواقع التاريخي أو التشكيك فيه.

وفي عدد من المواقع الصحفية العربية، تكررت أخطاء مشابهة، وبعضها فاق خطأ الفيديو، بأن تماهت تمامًا مع السردية الإسرائيلية. وفي كل هذه الأخطاء، يتضح مشترك أساسي: ضعف المادة وما تعرّيه من قلّة بحث وتحرٍ، أي تجاوز للأصول المهنية. من ذلك أن نشر موقع "ساسة بوست" في 2017 مادة تنقل عن مصادر إسرائيلية مزاعمها بأن ثمة أطعمة عرفتها المنطقة قبل أن يوجد شيء يسمى إسرائيل، بأنها أطعمة إسرائيلية! حذف الموقع المادة لاحقًا، كما حذفت "+AJ" الفيديو. 

ولعل أبرز نماذج الإعلام العربي المتماهية مع السردية الإسرائيلية، موقع إيلاف السعودي. ويمثل موقع إيلاف حالة مجاوزة لما سبق، إذ لا تندرج أفعاله تحت الخطأ المهني، إذ أفرد مساحات للصوت الإسرائيلي في الإعلام العربي، ليس حتى من باب لوثة "موضوعية الرأي والرأي الآخر"، وإنما في شكل أقرب لأن يكون "توجيهًا معنويًا" بالتطبيع، من ذلك حوارات مع قادة إسرائيليين، لم تضبط حتى تجاوزاتهم فيها، ثم مقال يهاجم حركة حماس، كتبه أفيخاي أدرعي!

التعاطي مع إسرائيل والصهيونية كعب أخيل بالنسبة للإعلام العربي بمختلف توجهاته، بما يدعم السردية الإسرائيلية، وإن بغير بقصد

وما بين هذا وذاك؛ الأخطاء المهنية الفادحة أو المثيرة للجدل، والتوجيه المعنوي بالتطبيع، يبقى التعاطي مع إسرائيل والصهيونية كعب أخيل بالنسبة للإعلام العربي بمختلف توجهاته، بما يدعم السردية الإسرائيلية، وإن بغير بقصد. فالوقوع في أخطاء مهنية مبنية على ضعف البحث والتحري، قد ينتج كارثة عندما نتحدث عن الصحافة والإعلام.

 

اقرأ/ي أيضًا:

صحيفة إيلاف.. صوت إسرائيل بأموال مملكة ابن سلمان

عن زلات الأصابع في الصحافة