12-سبتمبر-2019

حولت بروكسل بريكست موضوعًا بريطانيًا صرفًا (رويترز)

فتحت نتيجة استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في 23 حزيران/يونيو 2016 فترة من عدم اليقين الاقتصادي والسياسي الكبير في المملكة المتحدة، وهو ما نلاحظه في سياق الأزمة التي تجتاح المشهد السياسي الآن. ولكن هذا  يثير أيضًا قضايا حساسة بالنسبة للاتحاد الأوروبي، فلأول مرة تختار دولة ما مغادرة الاتحاد في الوقت الذي  تكتسب فيه العديد من الأحزاب الشعبوية قوة في العديد من البلدان الأوروبية مثل بولندا والمجر وجمهورية التشيك وسلوفينيا وسلوفاكيا، بالتزامن مع ما تعارف على تسميته بـ"أزمة المهاجرين".

 يبدو أن الاتحاد الأوروبي قد نجح حتى اللحظة في تحويل حدث البريكست كحدث بريطاني صرف، وأن يظهر بموقع المراقب الذي يملك كامل القدرة على إدارة جميع الاحتمالات وتحمل جميع العواقب

 الأمر الذي دفع  الاتحاد الأوروبي إلى التفاوض على خروج المملكة المتحدة بطريقة لا تقدم بديلًا جذابًا لمعارضي التكامل الأوروبي. لأن هدف الاتحاد الأوروبي لا يمكن أن يكون إيجاد اتفاق مربح للجانبين، بل إعطاء مثال يوضح أن للخروج من الاتحاد الأوروبي تكلفة اقتصادية كبيرة ومكاسب أقل.

اقرأ/ي أيضًا: معركة قصر ويستمنستر.. تفاصيل أسبوع من الصدام السياسي البريطاني

حتى الآن، ومنذ شهر آذار/مارس الماضي، وتحت رعاية المفوضية الأوروبية وكبير مفاوضيها، ميشيل بارنييه، حافظ الاتحاد الأوروبي على موقف ثابت وموحد، ويظهر ذلك من خلال تصريحه، الذي عبر بموجبه بأن الجانب الأوروبي قد قدم جميع أوراقه في هذه المفاوضات وأن الكرة الآن في الملعب البريطاني. حيث  أكد الجانب الأوروبي  أن حريات التنقل الأربعة (السلع والخدمات ورأس المال والأشخاص) لا تنفصل؛ كما أنه يرفض أن يمنح  المملكة المتحدة القدرة على اختيار البرامج الأوروبية التي تشارك فيها. في الوقت نفسه، يطرح الاتحاد الأوروبي التساؤل حول الإجراءات الواجب اتخاذها  لتجنب عودة الحدود بين مقاطعة إيرلندا الشمالية البريطانية وجمهورية إيرلندا من أجل حماية اتفاقات السلام التي وقعت في 1998، ومن أجل سلامة السوق الواحدة.

لحظات مفصلية في سياق التفاوض

بعد التصويت مباشرة على البريكست دخل الجانبان في مفاوضات كانت تبدو منذ اللحظة الأولى، طويلة وشاقة، خصوصًا  إذا علمنا بأن مجموع القوانين والملفات الواجب التفاوض بشأنها بلغ 80000، وفي 29 نيسان/أبريل 2017، تبنى المجلس الأوروبي مواقفه التفاوضية وعين ميشيل بارنييه كبير المفاوضين. أراد البريطانيون التفاوض على سبيل الأولوية بشأن الشراكة المستقبلية بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة، لكن الاتحاد الأوروبي أصر على أن المفاوضات يجب أن تركز أولًا وقبل كل شيء على ثلاث نقاط: حقوق المواطنين، والتنظيم المالي  للانفصال والحدود بين جمهورية إيرلندا وإيرلندا الشمالية. حيث اتخذ الاتحاد الأوروبي موقفًا متشددًا بشأن كل نقطة من هذه النقاط  الثلاث.

في 8 كانون الأول/ديسمبر 2017، تم التوصل إلى اتفاق بين المملكة المتحدة واللجنة بشأن النقاط الأولية الثلاث؛ وتم التصديق على هذا الاتفاق في المجلس الأوروبي في الفترة من 14-15 كانون الأول/ديسمبر 2017. ولكنه لم يلقى آذانًا صاغية من قبل الجانب البريطاني، حيث بقي الغموض سيد الموقف فيما يتعلق بمسألة إيرلندا.

وافق المجلس الأوروبي على الطلب البريطاني لفترة انتقالية، ووضع حدًا له في 31 كانون الأول/ديسمبر 2020 (بحيث يتزامن مع نهاية برمجة الميزانية الأوروبية الحالية). وبالتالي، ابتداءً من آذار/مارس 2019 إلى نهاية عام 2020، سيتعين على المملكة المتحدة احترام جميع التزامات السوق الموحدة (بما في ذلك الحريات الأربع وصلاحيات المحكمة الأوروبية)، دون أن يكون لها أي صوت في بروكسل.

وبناء على ذلك يبدو المشهد حتى اللحظة بصيغة "لا يوجد اتفاق على أي شيء حتى يكون هناك اتفاق على كل شيء".

المفاوضات على الجانب البريطاني

تم تقسيم أعضاء حكومة تيريزا ماي في تموز/يوليو 2016 من البداية بناء على موقفهم من شروط خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. فهناك مؤيدو الخروج من الاتحاد الأوروبي بأي ثمن، بما في ذلك بوريس جونسون، الذي كان آنذاك وزير الخارجية، والذي عين رئيسًا للوزراء ابتداءً من 23 تموز/يوليو من العام الحالي وحتى اللحظة، وديفيد ديفيس كمسؤول عن التفاوض بشأن خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي. وهناك من ناحية أخرى  الأعضاء المؤيدون لحل وسط للحد من تأثير خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على الاقتصاد البريطاني، بما في ذلك فيليب هاموند  وزير الخزانة.

طرح أنصار حملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بأن المساهمة المالية للاتحاد التي تقدمها بريطانيا للاتحاد سوف تخصص من أجل تمويل النظام الصحي في المملكة المتحدة؛ كما أن المملكة المتحدة يمكن أن توقع بحرية اتفاقيات التجارة مع دول خارج الاتحاد الأوروبي وأن تلجأ إلى العالم الخارجي، الأمر الذي سيكون مفيدًا لاقتصادها؛ وقد أكد هذا الفريق أن الخروج من قيود الأنظمة الأوروبية من شأنه أن يعزز الاقتصاد. بالنسبة لهم، يجب عدم الاستسلام لمطالب الاتحاد الأوروبي، حتى لو كان الثمن الخروج دون اتفاق. يجب أن يكون الهدف هو الخروج من القيود الأوروبية، "لاستعادة السيطرة".

أما  بالنسبة إلى مؤيدي التسوية مع الاتحاد الأوروبي، فقد أكدوا بأنه من الضروري تجنب الخروج دون اتفاق، و"السقوط في الهاوية"، التي ستكون ضارة بالشركات وفرص العمل البريطانية. وبعد سلسلة الإخفاقات التي مني بها معسكر الخروج بأي ثمن، استطاع هذا الجانب أن يطوّر مواقعه في الحكومة تدريجيًا، مما دفع تيريزا ماي إلى مطالبة الاتحاد الأوروبي بفترة انتقالية، خلال خطاب فلورنسا في أيلول/سبتمبر 2017، الذي أعتبر استجابة لطلب ممثلي الشركات البريطانية (بما في ذلك اتحاد الصناعيين البريطانيين، CBI).

 في 6 تموز/يوليو 2018، عقدت تيريزا ماي اجتماعًا حكوميًا للاتفاق على المقترحات البريطانية حول العلاقة المستقبلية بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي. أدت التنازلات التي قدمتها الحكومة البريطانية على مدار الأشهر وهذه المقترحات إلى استقالة ديفيد ديفيس وبوريس جونسون في 8 تموز/يوليو 2018.

في يوم 12 من الشهر نفسه، نشرت الحكومة البريطانية ورقة حول تصورها للشراكة المستقبلية. والتي يمكن تلخيصها  بضرورة احترام نتائج استفتاء عام 2016 والذي يجسد سيادة المملكة المتحدة من خلال السيطرة على قوانينها، وحدودها ومالها، وبنفس الوقت بناء علاقة جديدة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، أعمق من العلاقة الحالية بين الاتحاد الأوروبي وأي دولة ثالثة، مع الأخذ في الاعتبار التاريخ والعلاقات الوثيقة الحالية.

تحتوي هذه الوثيقة على أربعة فصول: الشراكة الاقتصادية والشراكة الأمنية والتعاون بين القطاعات والعلاقات المؤسسية، وتؤكد الوثيقة على أن إي اتفاقية يجب أن تضمن "علاقة واسعة وعميقة مع الاتحاد الأوروبي". تقترح المملكة المتحدة إنشاء منطقة تجارة حرة للبضائع. وهذا من شأنه أن يسمح للشركات البريطانية والأوروبية تجنب الضوابط الحدودية والجمركية. تتيح منطقة التجارة الحرة هذه "الوفاء بوعد" الحفاظ على عدم وجود حدود بين إيرلندا الشمالية وجمهورية إيرلندا. عطفًا على أن المملكة المتحدة سوف تتماشى مع قواعد الاتحاد الأوروبي ذات الصلة للسماح للتجارة الحرة عبر الحدود؛ كما أن الورقة تقترح تطبيق القواعد الجمركية للاتحاد الأوروبي على واردات البضائع التي تصل إلى المملكة المتحدة وجمع ضريبة القيمة المضافة على هذه السلع نيابة عن الاتحاد الأوروبي، إلا أن الجانب الأوروبي رفض هذا المقترح.

ونتيجة لذلك، وفي أيلول/سبتمبر 2018، اتهم بوريس جونسون تيريزا ماي بالاستسلام للاتحاد الأوروبي حيث علق: "في هذه المفاوضات، فاز الاتحاد الأوروبي حتى الآن بجميع الجولات المهمة. لقد وضعنا قنبلة موقوتة في الدستور البريطاني وأعطينا المفجر لميشيل بارنييه". ونستطيع أن نقول بأن المشهد من الجانب البريطاني لا يزال يحمل كامل مفرداته وتناقضاته وأسئلته وهو ما نشهده على مدار المشهد السياسي الحالي في المملكة المتحدة.

المفاوضات على الجانب الأوروبي

يرفض الاتحاد الأوروبي إبقاء المملكة المتحدة في السوق الموحدة والاتحاد الجمركي، وبالتالي فهو يرفض انتقائية المملكة المتحدة في اختيار القواعد التي تريد تطبيقها. في كانون الأول/ديسمبر 2017، أوضح ميشيل بارنييه أنه يجب تعلم الدروس من رفض المملكة المتحدة احترام الحريات الأربع، وعدم الاعتراف بسلطة محكمة العدل الأوروبية. يستبعد هذا أي إمكانية للمشاركة في السوق الموحدة والاتحاد الجمركي. ستكون الاتفاقية مع المملكة المتحدة اتفاقية تجارة حرة، على غرار الاتفاقيات الموقعة مع كندا CETA.

خلال مفاوضات 2018، كان الاتحاد الأوروبي يصر بشكل خاص على التزام المملكة المتحدة بتطبيق جميع قواعد الاتحاد الأوروبي وبشكل خاص حول الحدود الإيرلندية (بحجة أن عدم وجود حدود مادية لم يكن متوافقًا مع انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الجمركي، مطالبًا بأن تظل إيرلندا الشمالية في السوق الموحدة طالما لم تقدم المملكة المتحدة حلًا يضمن سلامة السوق الداخلية دون حدود مادية في إيرلندا)، والتأكيد على استقلالية اتخاذ القرار في الاتحاد الأوروبي  وطرح وضع جبل طارق في الاتفاق والقواعد العسكرية البريطانية في قبرص.

في 2 تموز/يوليو 2018، أكد الاتحاد الأوروبي أن الصفقة الوحيدة المقبولة ستشمل المعبر الحدودي بين إيرلندا الشمالية وبقية المملكة المتحدة، وهو حل غير مقبول للمملكة المتحدة، بالتالي ينكر أن المملكة المتحدة مسؤولة عن إنفاذ القواعد الجمركية الأوروبية وجمع ضريبة القيمة المضافة للاتحاد الأوروبي. ويصر على أن التعاون في المستقبل مع المملكة المتحدة لا يمكن أن يعتمد على نفس درجة الثقة بين الدول الأعضاء. ويدعو إلى التزامات دقيقة وقابلة للمراقبة، خاصة فيما يتعلق بالمعايير الصحية.

وبالتالي يتعين على المملكة المتحدة إعادة التفاوض بشأن جميع المعاهدات التجارية، فمسألة إعادة إنشاء الضوابط الجمركية أمر بالغ الأهمية والحساسية، سواء في إيرلندا أو جبل طارق أو كاليه. ونتيجة لذلك نقلت بالفعل العديد من الشركات متعددة الجنسيات مصانعها ومقراتها إلى أوروبا.

اقرأ/ي أيضًا: "بوجو" على رأس المحافظين البريطانيين.. بورتريه انتصار مؤجل

حتى الآن، اتخذ الاتحاد الأوروبي الموقف التالي: بما أن المملكة المتحدة هي التي تختار مغادرة الاتحاد، فإن الأمر متروك لها لتقديم مقترحات مقبولة من أجل صياغة علاقتها مع بروكسل بناء على المعطيات والملفات آنفة الذكر. ونتيجة لذلك  يجب على الاتحاد الأوروبي اليوم أن يختار بين احتمالين:

  • عدم تقديم مقترحات للبريطانيين والاستسلام لاحتمال الخروج من دون اتفاق وبالتالي سيتم إدارة العلاقات بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي وفقًا لمبادئ منظمة التجارة العالمية؛ سوف تكون الشروط المالية للطلاق ثابتة قانونيًا، بموجب هذه المبادئ. ولكن هناك سببان للخوف من هذا السيناريو حيث سوف تتعطل التجارة بسبب إعادة تثبيت الحواجز الجمركية في الموانئ وفي إيرلندا؛ كما أنه سوف يشجع المملكة المتحدة على أن تصبح جنة ضريبية.
  •  اختيار حل "الشراكة الخاصة والعميقة"، والتي تنطوي على تنازلات متبادلة. والتي ستكون بالضرورة قادرة على أن تكون نموذجًا لعلاقات الاتحاد الأوروبي مع الدول الأخرى. وسيشمل نقابة جمركية تقتصر على السلع، ولجان تنسيق المعايير، واتفاقيات مجزأة للخدمات، وحق المملكة المتحدة في الحد من حركة الأشخاص، وربما محكمة تحكيم، والتي بالتالي سوف تحد من صلاحيات المحكمة الأوروبية العليا وهو الأمر الذي يرفض الجانب الأوروبي حتى اللحظة التنازل عنه.

يتعين على المملكة المتحدة إعادة التفاوض بشأن جميع المعاهدات التجارية، فمسألة إعادة إنشاء الضوابط الجمركية أمر بالغ الأهمية والحساسية، سواء في إيرلندا أو جبل طارق أو كاليه

وفي هذا السياق يبدو أن الاتحاد الأوروبي قد نجح حتى اللحظة في تحويل حدث البريكست كحدث بريطاني صرف، وأن يظهر بموقع المراقب الذي يملك كامل القدرة على إدارة جميع الاحتمالات وتحمل جميع العواقب، كما أنه استطاع أن يظهر طبيعة الخلاف ما بين أشد البنى السياسية تقليدية ممثلًا بالمملكة المتحدة، وما بين كائن سياسي جديد يظهر على الساحة الدولية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

بوريس جونسون وتعقيدات بريكست.. الديمقراطية البريطانية في خطر؟