08-أبريل-2018

حكم داعش بنظام بيروقراطي صارم كشفت عنه عشرات الآلاف من الوثائق الصادرة عن التنظيم (نيويورك تايمز)

أعدت صحيفة نيويورك تايمز تحقيقًا مطولًا عن نظام الحكم والإدارة الداخلي لتنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، في المناطق التي سيطر عليها، انطلاقًا من نموذج مدينة الموصل، بناءً على آلاف الوثائق الخاصة بالتنظيم، التي حصلت عليها الصحيفة بعد طرد عناصر التنظيم منها. نشرنا الجزء الأول من ترجمة نتائج التحقيق، وهنا ننقل لكم الجزء الثاني منه.


الأثر الورقي

عندما تحركت قوات التحالف لاسترداد الموصل من عناصر داعش أواخر عام 2016، هُرع صحفيو نيويورك تايمز إلى العراق. وعلى مدار ثلاثة أسابيع، حاولوا العثور على أية وثائق. ويومًا بعد يوم، تفاوض الصحفيون على الدخول إلى المباني المطلية بشعار تنظيم الدولة الإسلامية، ولم يعثروا سوى على أدراج المكاتب البارزة، والأقراص الصلبة المنتزعة.

فحص الوثائق والملفات الخاصة بداعش التي عثر عليها في الموصل، ستة محللين، أكدوا أنها أصلية وغير مزيفة

ثم بعد ذلك، في اليوم الذي سبق رحلة عودتنا، التقى الفريق الصحفي رجلًا تذكّر رؤيته لأكوام من الورق داخل المقار الإقليمية الرئيسية لوزارة/ديوان الزراعة التابع لداعش، في قرية صغيرة تسمى "عمر خان"، على بعد 25 ميلًا جنوب شرق الموصل. وسافر الفريق في اليوم التالي إلى البلدة، التي لا تمثل سوى بقعة صغيرة على خريطة سهول نينوى، وهناك دخل الفريق إلى المنزل رقم 47.

اقرأ/ي أيضًا: خلاف غربي حول التعامل مع عناصر داعش المعتقلين.. هل يتكرر نموذج سجن بوكا؟

دخل الفريق وقد أُخلي المكان بالفعل، لكن في طريق الخروج، توقف عند شيء بدا وكأنه مبنى خارجي، وعندما فتح الباب، ظهرت أكوامٌ من الملفات الصفراء مربوطة ببعضها البعض بخيط، ومكدسة على الأرضية.

اطلع الفريق على هذه الملفات، 273 ملفًا، والتي تُحدد قطع الأراضي التي يمتلكها المزراعون الذين ينتمون إلى إحدى الطوائف الدينية التي يحظرها التنظيم، وهي كل الطوائف ما عدا المسلمين السنة. واحتوى كل ملف أصفر على طلب مكتوب بخط اليد من أحد السنة المتقدمين بطلب لمصادرة الممتلكات.

وللقيام بذلك تضمن الأمر عملية متدرجة، تبدأ بتقرير من المُعاين، الذي رسم خريطة لقطعة الأرض، وحدد الخصائص الطبوغرافية المهمة، وبحث في ملكية الممتلكات. وبمجرد ظهور  أن الأرض كانت تخضع لملكية أحد أفراد الجماعات المستهدفة، يجري تصنيفها على أنها ضمن ممتلكات تنظيم الدولة الإسلامية. وبعد ذلك، يُبرَم عقد مفاده أن المستأجر لا يمكنه تأجير الأرض من الباطن، أو التغيير فيها دون إذن التنظيم.

وهكذا، وانطلاقًا من اكتشاف هذه الملفات، بدأ الفريق الصحفي في تقصي ملفات ووثائق أخرى، فكان بمجرد أن يتأكد من أن المبنى كان تحت سيطرة التنظيم، وذلك عبر شعارات التنظيم المرسومة عليه، يدخل الفريق إليه ويبدؤون في تفتيشه بحثًا عن الوثائق.

لكن بقي خطر الألغام الأرضية والفخاخ المتفجرة يمثل تهديدًا للصحفيين. ففي إحدى الفيلات، عثروا على مجموعة من السجلات، ولكنهم تمكنوا فقط من البحث داخل مجموعة واحدة من الغرف، بعد أن اكتشفت قوات الأمن وجود قنبلة لم تنفجر.

وفحص ستة محللين الوثائق التي عُثر عليها، من بينهم أيمن جواد التميمي، والذي يحتفظ بأرشيفه الخاص من وثائق داعش. وقد أعد التميمي دليلًا تمهيديًا يتعلق بكيفية التعرف على الوثائق المزيفة من الحقيقية. 

ومن بينهم أيضًا مارا ريفكين، الباحثة بجامعة ييل، والتي قامت برحلات متكررة إلى الموصل لدراسة إدارة التنظيم. وكذا فريق من المحللين بمركز مكافحة الإرهاب التابع لويست بوينت "الأكاديمية العسكرية الأمريكية"، الذي حلل السجلات التي عُثِر عليها في مخبأ أسامة بن لادن في باكستان.

وقد اعتبر فريق المحللين، أن الملفات والوثائق التي عُثر عليها أصلية، استنادًا إلى العلامات والشعارات والطوابع، بالإضافة إلى أسماء المكاتب الحكومية. وكانت المصطلحات والتصميمات متماشية مع تلك الموجودة على الوثائق التي أصدرها التنظيم في أنحاء أخرى من "دولة الخلافة" المزعومة، بما في ذلك مناطق في ليبيا.

وبالبحث والتحقيق في عقود الإيجار التي عثر عليها الصحفيون، ظهر نفس التوقيع المحرر أسفل العديد من العقود مرارًا، وهو "المشرف الفني الرئيسي، محمد إسماعيل سالم، مشرف الأراضي". وقد تعرف أحد رجال الشرطة المحليين إلى صاحب التوقيع، وأرشد الصحفيين إلى منزل هذا البيروقراطي التابع لداعش.

وعند سؤال الشرطي عن السبب في عدم اعتقال محمد إسماعيل سالم، أجاب بأن رجال الشرطة منهمكين في التحقيق مع الذين حاربوا لصالح التنظيم الإرهابي، فلم يكن لديهم وقت لملاحقة مئات الموظفين الذين عملوا تحت إدارة داعش.

وبعد ساعات، سمح لنا الرجل الذي ظهر توقيعه على عقد إيجار الأرض الزراعية التي جرى مصادرتها من قس مسيحي، وعلى عقد الحدائق التي سُلِبت من إحدى الأديرة، وعلى سندات ملكية الأرض المسروقة من إحدى العائلات الشيعية، بالدخول إلى منزله المتواضع، الذي تمثلت قطعة الديكور الوحيدة داخل غرفة المعيشة به، في ساعة مكسورة.

وبدا سالم البالغ من العمر 63 عامًا، عصبيًا بشكل واضح. وهو رجل محني الظهر يرتدي نظارة سميكة. وقد أوضح أنه قضى سنوات في العمل مشرفًا على المكتب الإقليمي لمديرية الزراعة العراقية التابعة للحكومة، حيث كان يرسل تقاريرًا إلى حمود، الذي تواصلنا معه لأول مرة بعد أيام قليلة.

وأقرّ سالم بصحة توقيعه على عقود الإيجار، وزعم وهو يتحدث بتردد، أنه جرى تجنيده بالإكراه في الإدارة البيروقراطية للدولة داعش، مُضيفًا: "أخذوا ملفاتنا وبدؤوا في الاطلاع عليها، وبحثوا عن الممتلكات التي يمتلكها الشيعة، وأيّ منهم ينتمي إلى "المرتدين"، وأيّ منهم ضمن الأشخاص الذين تركوا الخلافة". وقد وصف المخبرين الذين يبلغون هاتفيًا عن عناوين الشيعة والمسيحيين.

وعُرِض على السُنة، ممن كانوا في غاية الفقر لدرجة أنهم عجزوا عن دفع الأجرة مقدمًا، اتفاقية الزراعة مع داعش، ما سمح لهم بامتلاك الأراضي المسروقة مقابل ثلث المحصول المستقبلي.

كان محمد إسماعيل سالم، أحد البيروقراطيين الذين أجبروا على العمل في إدارة داعش (نيويورك تايمز)
كان محمد إسماعيل سالم، أحد البيروقراطيين الذين أجبروا على العمل في إدارة داعش (نيويورك تايمز)

وفي الأيام الحافلة بالعمل، التف حول مبنى مكتبه مجموعة من المزارعين السُنة، الذين أعرب العديد منهم عن استيائه من المعاملة التي يتلقاها على أيدي الحكومة العراقية ذات النهج الطائفي أيضًا. وفي نفس المجمع الذي عثر الصحفيون بداخله على أكوام من الملفات الصفراء، استقبل سالم أشخاصًا يعرفهم، لعب أطفالهم مع أطفاله، جاءوا لسرقة أراضي أشخاص آخرين يعرفونهم جميعًا، ممن كبُر أطفالهم أيضًا إلى جوار أطفالهم.

 وبجرة من قلمه، فقد المزارعون أراضي أسلافهم، وسُلِب الميراث من أطفالهم، ومُحِيت ثروات عائلات بأكملها، تراكمت على مر أجيال. أوضح سالم: "هذه هي العلاقات التي بنيناها على مر العقود، بدءًا من عهد والدي ووالد والدي. إنهم إخواني، لكننا أُجبِرنا على القيام بذلك".

النظافة تحت إدارة داعش

مع انتهاء عام 2014 ، والبداية المضطربة لعام 2015، وبدء حمود وزملاؤه تقديم يد المساعدة للحفاظ على سير دواليب الآليات البيروقراطية، شرع جنود تنظيم الدولة الإسلامية في إعادة تشكيل كل جانب من جوانب الحياة في المدينة، بدءًا من دور المرأة.

شاهد عيان من الموصل: شعرت بالعار عندما رأيت الشوارع تحت إدارة داعش أكثر نظافة مما كانت عليه تحت سلطة الحكومة العراقية

وانتشرت اللوحات الإعلانية التي تظهر صورة لامرأة مغطاة بالكامل. واستولى المسلحون على مصنع للنسيج وبدؤوا تصنيع رزمة ضخمة من الملابس النسائية الطويلة، بما يتماشى مع النظام المعتمد. وسرعان ما تم تزويد الأسواق بالآلاف من مجموعات النقاب، مع بدء تغريم النساء اللواتي لم يقمن بتغطية أنفسهن. وقد خضع حمود المكنى بـ"أبي سارة"، للنظام الجديد واشترى نقابًا لابنته.

اقرأ/ي أيضًا: هل يؤسس سقوط "عاصمة الخلافة" لمرحلة جديدة أكثر تطرفًا في فكر داعش؟

عنصران من داعش يوزعان النقاب على نساء الموصل (أسوشيتد برس)
عنصران من داعش يوزعان النقاب على نساء الموصل (أسوشيتد برس)

وأثناء سيره من وإلى مقر عمله، بدأ حمود يسلك الشوارع الجانبية لتجنب مشاهدة عمليات الإعدام المتكررة التي كانت تنفذ في دوائر المرور والساحات العامة. وفي واحدةٍ من تلك العمليات، جُرَّت فتاة في سن المراهقة، خارج حافلة صغيرة، بتهمة الزنا، وأجبرت على الجلوس على ركبتيها، قبل أن يهشم رأسها ببلاطة حجرية. وكان بإمكان المارة أيضًا مشاهدة جثث الأشخاص المتهمين بالتجسس، تتأرجح على أسوار الجسر.

ولكن على نفس الطريق، لاحظ حمود أمرًا دفعه للشعور بالعار، إذ كانت الشوارع أكثر نظافةً مما كانت عليه في حين كانت تحت سلطة الحكومة العراقية! وكان عمر بلال يونس، سائق شاحنة يبلغ من العمر 42 عامًا، سمحت له مهنته بالتجول في أرجاء أراضي الخلافة، قد لاحظ التحسن نفسه كذلك. وقال بلال: "يمكننا تصنيف خدمة جمع القمامة في ظل نظام داعش بأنها في المرتبة الأولى".

وأفاد ستة من موظفي الصرف الصحي الذين عملوا في ظل داعش، وأجريت مقابلات معهم في ثلاث بلدات بعد أن أُجبر التنظيم على الخروج منها، بأنه "لم يتغير عمال تنظيف الشوارع، إن التغيير الذي حدث هو أن رجال داعش فرضوا انضباطًا كان غائبًا من قبل".

وقال سالم علي سلطان، الذي أشرف على خدمة جمع القمامة في ظل الحكومة العراقية، ثم تحت سيطرة داعش، في شمال مدينة تل كيف العراقية، إن "الشيء الوحيد الذي كان يمكنني القيام به خلال فترة الحكومة العراقية، هو معاقبة كل مقصر في عمله بوقفه عن العمل لمدة يومٍ واحدٍ بدون أجر، أما في ظل تنظيم داعش، فكان من الممكن أن يُسجن".

وقال السكان أيضًا إن احتمال وقف تزويدهم بالمياه الجارية، كان أقل، والشيء نفسه بالنسبة لاحتمال طفح مياه المجاري. أما إصلاح الحفر في الشوارع، فكان يجري بسرعة أكبر في ظل تنظيم الدولة الإسلامية، رغم تعرض تلك المناطق لغارتٍ جويةٍ شبه يوميةٍ.

يقول شهود العيان، إن الاهتمام بالنظافة كان أفضل في ظل سيطرة داعش! (نيويورك تايمز)
يقول شهود العيان، إن الاهتمام بالنظافة كان أفضل في ظل سيطرة داعش! (نيويورك تايمز)

وفي يومٍ من الأيام، رأى سكان الموصل عددًا من الجرافات تتجه نحو حي يسمى المنطقة الصناعية، في النصف الشرقي من المدينة، وشوهد العمال يُعبّدون طريقًا جديدًا من الإسفلت، يمتد على طول مسافة ميل واحد تقريبًا، ويربط بين منطقتين في المدينة، ليقلل من حالة الازدحام. وقد أطلِق على الطريق السريع الجديد اسم "طريق الخلافة".

ولم يقتصر اهتمام داعش على المسائل الإدارية، فحتى بالنسبة لنسخته من "الأخلاق"، وكما كان الحال في كل المجالات الأخرى، كانت هناك بيروقراطية، فقد أُوقف المواطنون في الشوارع من قبل رجال الحسبة/شرطة الأخلاق، وأُمر المتهمون بارتكاب مخالفة، بتسليم وثائق هوياتهم مقابل الحصول على "إيصال بالمصادرة". وكانت بطاقة الهوية تُسلَّم إلى مكتب التنظيم، حيث يمثُل المعنيون للمحاكمة، ويقوم الأخصائيون الدينيون بتقدير المخالفة، عبر ملء استمارة.

بعد ذلك، يُجبر الجاني على التوقيع على استمارة أخرى، تختص باللحى، تنص على: "أنا الموقع أدناه، أتعهد بعدم قص أو تشذيب لحيتي مرة أخرى، وإذا قمت بذلك مرة أخرى، فسأخضع لجميع أنواع العقوبات التي قد يتخذها مركز الحسبة بحقي".

وتنعكس الحماسة الصارمة التي مارسها التنظيم في مراقبته للسكان، في السجلات الخاصة بنقل المساجين البالغ عددها 87 سجلًا، والتي تركوها في أحد مراكز الشرطة الخاصة بهم. وتُبيّن هذه السجلات كيف أُلقيَ بالمواطنين في السجن بناء على سلسلة طويلة من "الجرائم" الغريبة، منها نتف الحاجب، وقص الشعر بشكل غير مناسب، وتربية الحمام، ولعب الدومينو، ولعب الورق، وعزف الموسيقى وتدخين الشيشة.

استمارة إقرار بمخالفة حلق اللحية
استمارة إقرار بمخالفة حلق اللحية

في بداية عام 2016 ، خرجت سارة بنت حمود، في جولة سريعة دون تغطية عينيها، فتم رصدها من قبل ضابط من شرطة الحسبة، وقبل حتى أن تتمكن من تقديم توضيح، ضربها بقبضته في عينها. ومنذ ذلك الحين، منعها والدها من مغادرة البيت، باستثناء التوجه بالسيارة إلى المستشفى لحضور مواعيد الكشف التي أعقبت الاعتداء عليها، ما أدى إلى فقدانها البصر، وفقًا لأفراد أسرتها.

ومع مثل هذه التغييرات التي اجتاحت المنطقة، اضطر السكان إلى اتخاذ خياراتٍ محفوفةٍ بالمخاطر، فإما البقاء أو المغادرة، أو التمرد أو التأقلم.

لم يكن الهروب من مناطق سيطرة داعش أمرًا سهلًا أبدًا، فلقد كان التنظيم يراقب كل شيء بصرامة شديدة

وقد قرر حمود محاولة الهروب، ووفر هو وابنه الأكبر عُمر، البالغ من العمر 28 عامًا، أكثر من 30 ألف دولار لشراء منزلٍ جديدٍ. وفي صباح يوم رحيلهم المخطط له، سحب عمر كل المبلغ ما عدا 1000 دولار من الحساب البنكي. ولم تمض ساعتان، حتى اقتحمت وحدة من المسلحين المقنعين الباب الأمامي لمنزل العائلة، وكان أحد العناصر يحمل في يده الإيصال البنكي الذي وقّعه عمر، وحذره المسلحون قائلين: "حاول ذلك مرة أخرى وسنقتلكم جميعًا".

 

اقرأ/ي أيضًا:

لماذا لا يؤدي قتل قادة الإرهابيين إلى القضاء على منظماتهم؟

كيف أدار داعش "دولة" سكانها 12 مليون نسمة؟.. وثائق الموصل تكشف "الخلافة" (3-1)