04-ديسمبر-2020

أحد أسواق طرابلس شمال لبنان (إبراهيم شلهوب/أ.ف.ب/Getty)

بالرغم من الأزمة الاقتصادية التي عاشها لبنان على مدار السنوات الماضية، في ظل إمعان "أهل السلطة" في الهدر والفساد، ما رتّب على خزينة الدولة عجزًا بمليارات الدولارات، فإن اللبنانيين عاشوا فترة طويلة في نوع من البحبوحة النسبية، مستفيدين من انخفاض قيمة صرف الدولار في مقابل الليرة اللبنانية، ومن النظام المصرفي الذي أمّن لهم قروضًا طويلة الأجل، فعاش اللبنانيون النمط الاستهلاكي  بكل أشكاله، في وقت كانت الدولة تأكل من لحمها الحي إذا صح التعبير، وكان الفساد ينخر النظام من الداخل، إلى أن انفجر الوضع في صيف سنة 2019، فلم تعدّ " الليرة بخير" كما كان يعدّهم دائمًا حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، الرجل الذي هندس السياسات المالية التي أوصلت لبنان إلى ما هو عليه.

نظرًا لارتباط  أسعار المواد الغذائية، المستوردة والمحلية، في لبنان بسعر صرف الدولار الأمريكي، فقد أدى انهيار الليرة الى تغيرات كبرى في السلة الغذائية لغالبية اللبنانيين

وفيما كانت الليرة تنهار، والمصارف تبلّغ المودعين أن ودائعهم اختفت، كان المجتمع الدولي يدير ظهره للبنان، ودوله المانحة التي اعتادت مدّ العون له، تُحجم عن ذلك، بسبب انعدام ثقتها بالطبقة الحاكمة، التي ذهبت كل وعودها بالإصلاح أدراج الرياح، بسبب جشع الطبقة السياسية وتفضيل الزعامات مصالحهم العائلية والحزبية على حساب الصالح العام.

اقرأ/ي أيضًا: القطاع العام في لبنان.. فشل بطعم طائفي

انعكست الأزمة الاقتصادية والمالية بطبيعة الحال على نمط حياة اللبنانيين، وتراجع المؤشر الاجتماعي والاقتصادي بشكل كبير وفق بيانات المرصد اللبناني لحقوق العمال والموظفين، وانخفضت القدرة الشرائية بنسبة فاقت الـ60 % نتيجة فقدان الليرة اللبناني ثلثي قيمتها أمام النقد الأجنبي. تبع ذلك إقفال عشرات المؤسسات التجارية، وإلغاء الكثير من الجمعيات والمنظمات الدولية عقودها في لبنان، ما رفعَ نسبة البطالة لتفوق الـ35 % في السنتين الأخيرتين وفق الأرقام الرسمية بينما تذهب تقديرات أخرى إلى القول بنسبة بطالة تفوق حاجز 55% من قوة العمل في السوق اللبناني، في الوقت الذي تشير تقديرات البنك الدولي فيه إلى عيش نسبة 40% من اللبنانيين تحت خط الفقر.

المائدة اللبنانية تدفع الثمن

من بين أهم الجوانب الحياتية التي طالتها الأزمة الاقتصادية، هي السلة الغذائية للمواطن، حيث يرتبط سعر معظم المواد الغذائية في لبنان بالدولار الأمريكي، إذ يستورد لبنان معظم هذه المواد، فيما المواد الغذائية المصنّعة محليًا، تتطلب الكثير من المواد الأولية المستوردة أيضًا، ما يجعلها مرتبطة أيضًا بمسألة سعر صرف الدولار الأمريكي وانهيار الليرة اللبنانية أمامه.

 مواطن لبناني في مدينة صيدا يستعرض مطبخه (محمود الزيات/أ.ف.ب/Getty)

في ذات السياق ارتفعت أسعار اللحوم مثلًا قرابة الثلاثة أضعاف، فتخلىّ عدد كبير من الأسر عن اللحوم في وجباته، واستعاض عنها بالبقوليات والخضر، التي بدورها طال أسعارها الارتفاع. منتجات كثيرة اختفت من مطابخ أسر الطبقة الوسطى، أنواع الكاتشاب، المايونيز والخردل المستورد، المعلبات والمطيبات الأجنبية، كلها اختفت تقريبًا، واستعيض عنها بالمقبّلات المحضّرة منزليًا. حتى أن الحال وصل بالجيش اللبناني أن يلغي اللحوم من وجبات العسكريين.

انتعاش تجارة السلع المستعملة والمقلدة

بينما أصبحت الملبوسات والأحذية المستوردة  حكرًا على فئة محددة من الميسورين. في السنة الماضية أقفل عدد كبير من شركات الألبسة والأحذية العالمية فروعها في لبنان، بسبب انخفاض القدرة الشرائية للمواطن مع انخفاض قيمة الليرة. فمثلًا أصبح ثمن الحذاء الرياضي في بعض المتاجر، يعادل راتب موظف في شركة لبنانية بل ويفوقه أحيانًا. 

يمكن القول أن لبنان اليوم يمر بأسوأ أيامه على الإطلاق، ويعيش المواطن أزمة اجتماعية – اقتصادية مركبة لم يعشها حتى خلال الحرب الأهلية

في ظل هذه الأوضاع لجأ اللبنانيون إلى سوق الملابس المستعملة، والأسواق الشعبية التي تبيع ملبوسات رخيصة الثمن. كذلك توجه كثير منهم نحو الصفحات التي تبيع الألبسة والأحذية أونلاين، والتي تعرض غالبًا منتجات مقلّدة شبيهة بالمنتجات الأصلية، والتي بدأ اللبنانيون الاعتياد على استخدامها. شراءُ الماركات الأصلية أصبح اليوم ترفًا لا تمتلكه سوى قلة قليلة.

الترفيه من بين الأحلام البعيدة 

 في مجال الترفيه والتسلية، فازدهرت في لبنان في السنوات الأخيرة ثقافة المطاعم والمقاهي، خاصة في العطل وفي الأعياد. واستفاد اللبنانيون من ثبات سعر صرف الليرة يومها، وارتفاع الرواتب نوعًا ما. فبات عدد كبير منهم يقضون عطلهم خارج لبنان للسياحة والاستجمام، أو للزيارات الدينية. كل هذا أصبح اليوم من الماضي، وباتت الأسر تبحث عن وسائل رخيصة الثمن للترويح عن نفسها، فاستعادت الشواطئ والحدائق العامة أهميتها، فيما تفضل الكثير من العائلات اليوم تمضية العطل في المنزل بسبب عجزها عن دفع تكاليف الخروج والتنزّه.

اقرأ/ي أيضًا: الانتحار يغزو لبنان.. آخر ملاذات الفقر

من الجدير الانتباه إلى أن أكثر من 70 % من اللبنانيين يتقاضون مدخولهم بالليرة اللبنانية وفق المتداول محليًا، لكن الباحث في المؤسسة الدولية للمعلومات محمد شمس الدين يقول أن هذه النسبة تصل إلى 95 % من القوة العاملة في تصريحات أدلى بها لموقع الجزيرة نت. في المقابل فإنّ الكثير من الأمور الكمالية والترفيهية يتمّ دفعها بالدولار الأمريكي. فعلى سبيل المثال كان الاشتراك بموقع نيتفليكس يكلّف 20 ألف ليرة لبنانية تقريبًا، أما اليوم، ومع انهيار سعر صرف الدولار، باتت التكلفة تصل إلى 90 ألف ليرة تقريبًا. كذلك الأمر بالنسبة للاشتراك في القنوات الرياضية والترفيهية. يحاول اللبنانيون اليوم الالتفاف على القوانين لمشاهدة المباريات والأفلام، من خلال القنوات المقرصنة، بسبب عدم قدرتهم على تأمين المبلغ الذي يتطلّبه الحصول على الخدمة بالطرق الشرعية.

ليمكن القول أن لبنان اليوم يمر بأسوأ أيامه على الإطلاق، ويعيش المواطن أزمة اجتماعية – اقتصادية مركبة لم يعشها حتى خلال الحرب الأهلية. وفيما لا يبدو أن أية حلول تلوح في الأفق، فإن المواطن يشعر باقتراب شبح الجوع والفقر أكثر فأكثر. اليأس يدفع اليوم القسم الأكبر من اللبنانيين إلى تقديم طلبات هجرة للهروب من الجحيم اللبناني، فيما يتمسك الزعماء بمواقعهم في السلطة دون تقديم أي شيء من شأنه أن يعتبر بادرة تغير أو استجابة لطبيعة الظرف القائم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

خصخصة الكهرباء في لبنان.. فواتير اللحم الحيّ

ما مصير العمالة الأجنبية في لبنان في ظل كارثته الاقتصادية؟