02-أبريل-2020

غزينيوس برونينغ/ هولندا

للبشرية تأريخ حافل مع الأوبئة القاتلة التي اجتاحت مناطق من العالم في محطات مختلفة، ولتداعياتها وقصصها ونشأتها وطرق التصدي لها، الكثير من التشابه مع ضيفنا الثقيل الجديد، كوفيد ـ 19، رغم فارق السنين والقرون. وإن صحّت رواية بعض المؤرخين فأن فكرة العزل التي تجتاح العالم في أيامنا هذه، قد بدأت مع انتشار "الطاعون الأسود" في إيطاليا، وهي مصادفة تزيد دهشتها مع تذكّر الضربات المؤلمة التي يوجهها طاعون البشرية الجديد إلى إيطاليا. وكذلك حظر الأماكن العامة أثناء "طاعون لندن" وإرغام المصابين به بالقوة على البقاء في منازلهم، كما يحدث الآن في بعض المناطق.

فكرة العزل التي تجتاح العالم في أيامنا هذه، قد بدأت مع انتشار "الطاعون الأسود" في إيطاليا

لا تنتهي سلسلة القصص المتكرّرة مع انتشار وباء "سارس" مطلع الألفية الثالثة، وإجراءات الصين ضد سوق الحيوانات الناقلة للمرض إلى البشر، كما أن الدروس المُنتقاة ـ أو يُفترض أن تكون هكذا ـ هي ذات الدروس للبشرية، مع مُستَجِدات ظهرت مع تطور الدولة والتكنولوجيا ونمط العيش وتجذر بعض أشكال الحياة الحديثة.

أينما/كيفما تكونوا يدرككم كورونا

انطلق فيروس كورونا من الصين ليجتاح العديد من مناطق العالم، ولعل درسه الأول مثلما أشار كثيرون، أنه لم يفرّق بين قومية وأخرى، أو دين وآخر، ولا لونٍ وطائفة وعرقٍ. ضرب المؤمنين والملحدين، البوذيين والهندوس، المسيحيين والمسلمين، البروتستانت والكاثوليك والأرثوذوكس والإنجيليين، السنة والشيعة، الكرد والعرب والترك والهنودساتنيين والآريين والبشتون والفرس والسكسون والروس والجرمان. ضَرب الرجل الأبيض الذي يشعر بعض العنصريين بالحنين لإعادة تفوقه و"مجْده"، قبل الرجل الأسمر. ضَرب بلدان المقدسات ومناطق تواجدها، كالفاتيكان ومكة المكرمة وفلسطين، بما فيها الأراضي المحتلة من إسرائيل ومقدساتها، والمراقد الدينية في العراق وإيران ولبنان، التي خلت، كما خلت المراكز التجارية والمناطق السياحية والملاعب الرياضية والمطارات من البشر.

اقرأ/ي أيضًا: الأسفلت لا يساعد على التنفس

لم يميز هذا الفيروس بين رجل دين وطبيب، بين فقير وغني. أصاب كبار المسؤولين في العالم، من أمير ورئيس وزراء بريطانيا، إلى وزراء ونواب في فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا وبولندا والولايات المتحدة واستراليا وجورجيا وباكستان والمغرب العربي، وليس انتهاءً بكبار القادة في حكومة إيران وأجهزتها الأمنية، فضلًا عن رياضيين ومشاهير.

رغم الفوارق الطبقية والدينية والطائفية والعرقية، رغم فوارق المرتبة الروحية والدنيوية، رغم فوارق الإمكانيات والوسائل ودرجة التقدم العلمي والثقافي، رغم فوارق الأهمية بين موضعٍ وآخر، مهما تكن، وكيفما تكن، وأينما تكن، عليك بغسل يديك، لئلا يدركك كورونا.

حب الذات بحب الآخر

كثيرةٌ هي مصائب الدنيا التي تَصيب الإنسان وينقذه المال والتقدم العلمي والتكنولوجي، والأمراض الخطيرة هي إحدى الظواهر التي تنقسم شطرين، بين "الممكن" علاجه، عبر المستشفيات الراقية والدواء الثمين، وبين الذي يَصعب على البشر تلافي خطورته. وتبتلى المناطق الفقيرة بالعديد من الأوبئة الناتجة عن نمط الحياة غير الصحيّ وفساد الأنظمة الحاكمة، لكن "كورونا" ليس طبقيًا حتى الآن. لم يَضرب أفريقيا ودول العالم الثالث فحسب، بل بدأ بالدولة التي "تفور" اقتصاديًا الصين، واجتاح المدينة المثال للحياة العصرية نيويورك، وطال دول الرفاهية المزدهرة عمرانيًا كدول الخليج. غير مُتاحٍ للمسؤولين وأصحاب رؤوس الأموال ـ حتى الآن ـ فرصة السفر، هربًا من المصائب، أو للعلاج في مستشفيات راقية.

يقلق الإنسان العربي من انتشار المرض في الصين، ويخشى المواطن الأسترالي من تصاعد الإصابات بالوباء في إيطاليا والولايات المتحدة

لا مفر لقادة الدول (في أنظمتنا الفاسدة خاصةً) من سلامة مواطنيهم، وإلا انهار النظام الصحي وتعطّلت الحياة، وما في ذلك من تداعيات خطيرة على المسؤولين ذاتهم، ومواقعهم القيادية. كما لا تنفع سيطرة الدولة الواحدة على الوباء دون سيطرة عالمية، فالعزلُ الطويل يعرّض النظام الاقتصادي للكوكب بأكمله إلى الخطر الذي يحذّر منه اقتصاديون. لن ينجو العالم دون تضامن جماعي.

اقرأ/ي أيضًا: في الحاجة إلى أخبار إيجابية

لا يُتابع الناس في أيامنا نشرات الأخبار والتقارير الصحفية حول العالم على سبيل الفضول. لا يقرأ المرء عن حوادث كارثية كالزلازل ثم يمر مرور الكرام مع شيء من التعاطف. يقلق الإنسان العربي من انتشار المرض في الصين، ويخشى المواطن الأسترالي من تصاعد الإصابات بالوباء في إيطاليا والولايات المتحدة. إن تفشي الفيروس في أبعد نقطة عنه يهدده.

تتناقض الأنانية المريضة مع الانتصار على كورونا. كما لا سبيل لنجاة فردية بوسائل باهظة الثمن. أي لا نجاة لغنيٍ دون الآخرين، وإلا سيبقى حبيس منزله. كما أن إصابة قادة كبار ومشاهير مع استمرار الوباء لمدة طويلة قد تُعطي درسًا مقابلًا لما رأيناه من مظاهر شراء الأغذية والحاجيات بشراهة في بعض الأماكن. وربما كان على المتبضعين فوق حاجتهم التفكير بأن نفاد السلع من المتاجر بسبب جشعهم ليس خبرًا جيدًا لسلامتهم، فبقاء الناس في بيوتهم ونجاح الحجر الصحي يتطلّب أن يجد الناس ما يأكلوه أولًا.

لا يحتاج الإنسان وحده إلى التعقيم ومتابعة درجات الحرارة جسمه، وارتداء الكمامة والقفازات، بل يحتاج أن يفعل الجميع. وقاية الفرد بوقايةِ الجميع، والعكس. إن الانتشار "الأُسي" لكورونا يجعل المواطنين والدول في مركب واحد، وعلى السادة الركاب غَسل اليدين بالصابون لإزاحة جدار الفيروس الدهني وتدميره.

يتطلب نجاة المرء نجاة الآخر، يَجبر ذلك تمني السلامة له، ليَفرض الوباء على الأنا أن تحب الآخر، ويَفرض على "الأنانية" أن تدافع عن نفسها بأدواتها عن طريق نقيضها، حين تصطدم ببديهية "عمومية الشر". الشر يَعم، والخير كذلك، خلافًا لما يقوله المثل العربي. شقاء الإنسان بأنانيته وخلاصه بخلاص الآخر كما تُعلّم بعض الفلسفات الشرقية. ويا له من حظ سيئ حين نخوض تجربة مريرة كهذه لتتيح لنا فرصة أن ندرك تلك الفرضية الفلسفية كحقيقة عملية: أنت تحب نفسك يعني أن تحب الآخرين.

حين نخوض تجربة مريرة كحالنا مع كورونا، ندرك حقيقة الحكمة القائلة: أنت تحب نفسك يعني أن تحب الآخرين

وفي سياق الحديث عن الأنا، يَخسر محبو الظهور وعشاق "الترند" والشعبويون من رؤساء وزعماء وقادة حكوميين وروحيين، ومشعوذين وإعلاميين مهرجين، وكتّاب سطحيين، سوقهم الرائج، ذلك لاهتمام الناس بالحدث الأهم. بقاؤهم دون الخبر الأبرز أجبرهم وسيجبر بعضهم على قول شيء نافع للناس ولو كان وهمًا، وإلا رُكِنوا، كحال ترامب الذي قلل في البدء من خطر كورونا، "يبقى متدنيًا جدًا" في الولايات المتحدة، ثم تباهى بنسب المشاهدة المرتفعة لمؤتمراته الصحفية اليومية المطوّلة عن خطورة كورونا، وتفاخر بإجراءاته الاستثنائية التي "أنقذت حياة مليوني شخص"، بل راح يقترح مبادرة تعم بالخير على البشرية! ومثله نماذج كثيرة في منطقتنا العربية.

درس الدولة

لم يَغب النقاش حول "الدولة" يومًا ضمن صيرورة تطور الإنسان والنظام الذي يجترحه أو يُفرض تلقائيًا بفعل تغيّر أنماط الحياة الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية فضلًا عن السياسية، وبحسب درجة التطور ونوع النظام ووضعه الجيو سياسي. في حين لا زالت شعوبنا تبحث عن جوهر وشكل الدولة التي تحقق طموحاتها في العيش الكريم والحرية والاستقرار والتقدم، يجري في الدول المستقرة نقاشٌ حول أهمية وجود الدولة، ويستعجل بعض المفكرين بإقامة العزاء على جثمان "الدولة/الأمة" والخرائط والإدارة المركزية، مع ترسّخ الرأسمالية وتَقدم الليبرالية الجديدة.

اقرأ/ي أيضًا: فيسبوك، كورونا، سوق الاعلانات... وأشياء أخرى

لم تَغب الدولة/النظام عن المشهد العام. ربما أتاح "الاعتياد" على وجودها ترف إعادة التفكير في ضرورتها لدى بعض الناقدين؛ لكن الفيروس الجديد الذي أجفل العالم أقلق هذا الاسترخاء وأعاد الدولة لممارسة دورها الكلاسيكي منذ دويلة المدينة الرافدينية في الألف الثالث قبل الميلاد، المُلخّص بمَهمتين: حفظ أمن الناس وقوتهم.

"لا تدعه يعبر.. لا تدعه يمر"

تحت مطرقة عدوّنا المجهري، وفي برهة من الزمن، عادت دولنا المعاصرة في رؤيتها لذاتها قرونًا إلى الوراء، ليس بسلطة مركزية يضعف تأثيرها باتجاه الخارج كما في القرون الوسطى وبدايات النهضة، بل التي تبسط سلطتها بدءًا من الخارج، بحدود واضحة تحد فضاءها الإقليمي، بعد أن استباحته العولمة والانفتاح التقني، وموّهت بلا أهميته. لكن:

That is why we need the borders

يقول ترامب، حقًا يُراد به ناخب!

الحدود المفتوحة بين الدول الأوروبية، التي ننظر لها بالإعجاب والغبطة ونأمل رؤيتها في عالمنا العربي، أغلقت بترسيماتها التقليدية. مارست الدولة سيادتها بنوعيها. لم تلجأ إلى غلق وضبط الحدود فحسب، بل إلى ضبط ما في داخل الحدود من حدود، بعزل المدن والولايات عن بعضها، وغلق الأماكن العامة ومنع التجمعات داخل المدن نفسها، وتضييق تحركات المواطنين أرضًا وجوًا وبحرًا، خلافًا للنموذج الليبرالي الكافل لهذه "الحقوق"، التي اعتادها المجتمع منذ سنوات. أجبر فيروس كورونا الدول على "الحجر والحظر" في مشهد مفاجئ لا يروق للمتسرعين الحالمين بانتهاء عصر الدولة لصالح منظمات المجتمع المدني والقطاع الخاص، أو لصالح المواطنين الأحرار كم سعى ماركسيون سابقًا. فَرضت الضرورة أن يَفرض نظام الدولة ـبأشكاله الديمقراطية وغير الديمقراطيةـ صلاحياته كمحتكر للعنف الشرعي بتعبيرات ماكس فيبر. لا مجال لانحسار الدولة في عالمِنا لصالح القطّاعات المدنية والخاصّة في القريب المنظور على الأقل.

سيبقى "درسُ الدولة"، هو الدرس العام الذي تتفرع منه دروسٌ أخرى من نقاشات تجري داخله لا في الخارج، كالتي تتناول نقاط الضعف والقوة في الأنظمة الديمقراطية والدكتاتورية، وفي اقتصاد السوق والاشتراكية، ورأسمالية الدولة والقطاع الخاص.

لا نعرف مدى حجم تأثير هذا النقاش على الأنظمة بعد انجلاء الأزمة، لكنها يقينًا، قَدمت تجارب دسمة ستُغني قراءات المفكرين والباحثين ومراكز الدراسات المعنية بالعلوم الإنسانية، لترفدنا بأفكار جديدة تُسهِم في التكيّف والارتقاء البشري. وقد تطرأ تغييرات على النظام الصحي العالمي، وإعادة نظر بتوزيع التخصيصات المالية لمجالات الدولة، ونوع وطريقة مواردها.

فقط بعض المتحمسين، بحاجة إلى التذكير الدائم بأن الدستور والقوانين ونوع الاقتصاد ونمط الحياة في بعض الأنظمة الديمقراطية الليبرالية أعاقوها عن الإجراءات الحازمة المطلوبة، وتقيّدت أنظمةٌ في فرض قيودها خوفًا من تدهور اقتصادي، و"انهيار أسواق الأسهم الذي سَيصيب القطاع المالي بشلل لن يتعافى منه لأشهر"، كما عبّر حاكم نيويورك بتخوفه من فُرض حجر صحي على ولايته.

سيبقى "درسُ الدولة"، هو الدرس العام الذي تتفرع منه دروسٌ أخرى من نقاشات تجري داخله لا في الخارج

المتحمسون على الجانب الآخر، كذلك، بحاجة للتذكير بأن الإجراءات القمعية واستخدام القوة في غير مَحلِها، من ضمن أسباب انتشار فيروس كورونا في الصين، حين هددت السلطات الطبيب لي وينليانغ، أول من اكتشف خطر الفيروس، واعتبرت تحذيره لزملائه "إخلالًا جسيمًا بالنظام العام"، فلا يُمكن الفصل بين "حسنات" الاستبداد والقوة المفرطة، والسيّئات المترتبة عليه. يؤخذ النموذج هنا حزمةً واحدة، على غير ما نرغب.

اقرأ/ي أيضًا: أيام في نابلس.. هذا جيد سوف ننجو

عودٌ على بدء، إن إجراءات الدولة المطلوبة في إغلاق الحدود وعزل المناطق وفرض الحظر والحجر الصحي هو "الاستثناء المطلوب" لقطع سلسلة انتشار الفيروس كما يُعبّر الأطباء المتخصصون، ولا تعني ضرورة تلك الإجراءات بأي حال من الأحوال الدعوة لاعتماد نموذج كوريا الشمالية، كما لا تعني ضرورة الدولة أن تنفي الوطنية ما عداها، فمثلما حب الأنا يستلزم حب الآخر، فالوطنية تتطلب التضامن والمساعدة والتعاون مع الدول الأخرى في مركبِنا الحامل للفيروس.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هشاشة النظام

كورونا.. الديمقراطية بين قوسين