11-سبتمبر-2017

بيتر دويغ/ إسكتلندا

1

كانت غرفتي في الحيّ الجامعي بجامعة سطيف، ضاجّةً بالدّمى وزجاجات العطر، التي أهدتها لي الطالبات، اللواتي كتبتُ لهنّ رسائلَ عاطفيةً لأصحابهنّ، إذ كانت ولا تزال تلك رشوتي الوحيدة. وبصور الكتّاب والفنّانين المقرّبين إلى وجداني.

 

2

ليلة 01 حزيران/يونيو من عام 2002، اقتحم علي غرفتي صديقاي الشّاعران جمال رميلي الذي جاء من ولاية خنشلة، ورابح ظريف الذي كان مقيمًا في الحيِّ نفسِه، وقالا لي إنّهما سينطلقان فجرًا إلى الجزائر العاصمة، وهما يريدان أن أرافقهما. فقمت إلى ثيابي أغسلها استعدادًا لرحلةٍ لم أكن أعلم أنّني لن أعود منها، فلم أودّع دماي وصوري وكتبي وكراريسي، التي لا أعرف شيئًا عن مصيرها.

 

3

تنفّس الفجرُ على ثيابي مبلّلةً، فانطلقتُ مع شريكيَّ في الرّحلة، ولم ألبسها إلا على مشارف العاصمة. كما لم ألبس غيرها إلا بعد شهور. ذلك أنّني قلت لجمال ورابح، وقد طلبا منّي، بعد ثلاثة أيّامٍ، أن نعود من حيث أتينا: لن أخرج من الجزائر العاصمة إلا على آلةٍ حدباءَ، فانطلِقا راشِدَيْنِ. قالا إنّك ستجوع هنا وتعرى. قلت: لن أبرح مكاني مهما يكن من شاني.

 

4

قبل أن أتعرّف على الإعلامي محمّد دحماني، ثمّ الشاعر طيّب لسلوس، اللذين تقاسما معي جيبيهما، على مدار شهور، تعرّفت في عراء العاصمة على نفوسٍ استفزّت في داخلي السّاردَ المُخَدَّرَ بالقصيدة، فأحرقت مخطوطي "أنثى الغيم"، وكتبت تجربتي "من دسّ خفّ سيبويه في الرّمل؟"، التي نشرت سنتين بعد ذلك، في طبعةٍ مشتركةٍ بين دار "البرزخ" والمكتبة الوطنية الجزائرية، في عهد إدارة الرّوائي أمين الزّاوي.

 

5

لم يستوعب عبد الرزاق القرويّ المشمول بمحبّة أمّه وأبيه في قرية أولاد جحيش، ومحبّة أصدقائه وصديقاته في جامعة سطيف، أن يبيت في عراء المدينة. لكنّ عبد الرزاق الكاتب المتطلّع إلى أن يخوض تجاربَ مختلفةً تمامًا، فرض عليه أن يتصالح مع الوضع، وأن يكون إيجابيًا، فيستثمرَ إبداعيًا في التّجربة. ولطالما خضع الأوّل للثّاني.

 

6

ترك لي رابح ظريف دريهماتٍ، فأكلت بهنّ اللوبيا، واشتريت "الشمّة". واستبدّ بي التعبُ، فلجأت إلى حديقة "صوفيا"، التي تحت البريد المركزي، وأسلمت جسدي إلى مقعدٍ حديديٍّ يتوسّطها. أمّا روحي فبقيت متوثّبةً تُراقب الكائناتِ التي رفعت رؤوسَها، وأطلقت علامةَ استفهامٍ كبيرةً: "من يكون هذا الوافد الجديد؟". هناك جرّبت ما معنى أن ينام الإنسان، ويصحوَ في الوقتِ نفسِه.

 

7

بين الصّحو والنّعاس، أحسست بيدٍ تعبث في جسدي، فصار كلّي صاحيًا. كان كهلًا محطّم الأسنان والأيّام، فكأنه رسول اللّيل البهيم. لم أدرِ هل كان يريد صرّتي أم سرّتي، فباشرتُ معه أوّل شجارٍ في حياتي، أنا القادم من أعماق الكتب والمكتبات والكتاتيب. وفي اللحظة التي كاد يتفوّق فيها علي، تحت تصفيقات كائنات اللّيل الأخرى، أشرق فتًى من تحت شجرةٍ قريبة، ففرّوا مثل دجاجاتٍ رأت ظلَّ نسرٍ يحومُ، وآواني داخل كوخه الكرتوني المجيد. أقصد داخل حكايته المضيئة بالأحداث المظلمة. كان قادة الغليزاني.

 

8

ترك قادة الغليزاني الدّراسة مبكّرًا، وبات ساعيًا في أحد الأضرحة المقدّسة. فنسي نفسَه فيه، خاصّةً بعد أن ذبح الإرهابيون أباه وأمّه وأخويه.

 

9

كان يُغادر صباحًا، فلا يعود إلي في الحديقة إلا مغربًا، محمّلًا بالطعام والشمّة وما كتبته السّماء من شقيقاتها. فنغرق في التهام ذلك، ثمّ نطفو فوق حكايته: أحسستُ أنّ الله قادني إلى الضّريح لأنجو. ولم يبقَ لي إلا الشّيخ في قبره، أحدّثه كلما طاحَ اللّيلُ ويُحدّثني، فإن نمتُ استمرّ حديثنا في المنام.

 

10

ولم تزل تلك حالي، حتى ظهرت "زهرة" في حياتي، فأزهرت فيها أمور لم أكن أعلم أنها تزهر أبدًا. فصارت تتذرّع بزيارة الضّريح لتزورني. ثمّ تتذرّع بالمبيت عند خالتها وتبيت عندي، ثمّ اختفت تمامًا، بعد أن أرسلت لي ورقةً مع ابنة خالتها، مكتوبًا على وجهها الأوّل: "عزيزي قادة. لا تنتظرني بعد اليوم، فإنّي ذاهبة حيث لن تجدني أبدًا"، ومرسومًا على الوجه الثّاني وجهُها.

 

11

اعتقدت في البداية أنّها تختبرني فصبرت، ثمّ طال غيابُها فالتهبت. ولم أجد بدًّا من حشر ابنة خالتها في زاويةٍ من زوايا الضّريح وتهديدها: أين زهرة؟ خافت أن أخرج أنفاسَها فصعقتني بالخبر الكسيح: "هربت ببطنها الذي منك، إلى حيث لا يجدها أبوها فيقتلها".

لم أجد فسحةً للتفكير والحركة، ولم ألحق أن أسألها عن وجهة زهرة، فهربت من بين يدي. رفعتُ عينيَّ إلى ضريح الشّيخ، فعاتبني على أنّني لقّحت فتاتي في حضرته، من غير أن أحسب لوجوده حسابًا.

 

12

لم يتأخّر قادة عن دخول الجزائر العاصمة، بعد أن علم بدخول زهرة إليها. فصار على معرفةٍ بحوماتها وأوكارها، وصلةٍ بصعاليك ليلها ونهارها. مثلما لم يتأخّر لحظةً عن حمايتي وإطعامي ونقل تلك المعرفة إلي، فكأنّه كان يُهيّئني لأن أعتمد على نفسي، بعد أن يختفي هو تمامًا. أين ذهبتَ يا أخي الصّغير؟ هناك جرّبتُ مرارةَ أن يفقد السّاردُ راويه.

 

13

مطر

مطر

مطر

فهوت الكرتونة التي ورثتها عن قادة في حديقة صوفيا، لأنّني لم أبذل جهدًا في إعادة ربطها، زهدًا فيها بعد اختفاء الرّاوي. فأسلمت نفسي للاغتسال بالمطر والالتحاف بالرّيح.  

ريح

ريح

ريحٌ داعرة أخذت أغراض امرأةٍ تتشبّث بصغيرها، بين أقواس قصر العدالة في السّيكوار، منها حفّاظاته ورضّاعته، فلم تدرِ هل تتركه أم تتركها، فتولّيت أنا جمع تلك الأغراض.

ـ يرحم والديك.

ـ والدينا ووالديك.

 

14

هل إحساسي بحاجتها إلى رجلٍ يحميها، أم إحساسي بحاجتي إلى امرأةٍ تشبه أمّي، هو ما جعلني أبقى قريبًا منها؟ كنت مثقوبًا بكتابة نصوصٍ قصيرةٍ جدًّا، شكّلت لاحقًا كتابي "من دسّ خفّ سيبويه في الرّمل؟"، فأخرجتُ كنّاشتي وقلمي، ورحتُ أكتب نصًّا أوحته اللحظة. ليس في هذا الكتاب نصّ لم يكن ثمرةً لمعايشةِ حيّة.

في الصّباح، وقد ذهبت الرّيحُ إلى جهةٍ أخرى، أخرجتْ من حقيبتها بورتريهاتٍ قالت إنّها رسمتها لأناسٍ طلبوها منها، "فأنا لست متسوّلةً، بل أطعم طفلي بريشتي. هل تريد أن أرسم لك واحدًا؟".

ـ لا أملك مالًا.

ـ لكنّك تملك قلمًا.

ـ تقصدين أن نتبادل الإهداء؟

ـ بل أن نتبادل الإبداع.

ـ أنا أكتب وأنت تترجمين النّصَ رسمًا؟

ـ نعم

ـ أنت من الغرب الجزائري إذًا.

ـ من غليزان.

ـ اسمي عبد الرزاق

ـ اسمي زهرة

ـ هذا إذًا ولد قادة!

 

15

حدث أن لمتُ نفسي مرّاتٍ كثيرةً في حياتي، لكنّها جميعَها لا تتفوّق على تلك المرّة في القسوة. فقد تسرّعتُ في كشف معرفتي بمن هربتْ منه أصلًا، وهو ما جعلني أفقدها إلى غاية اليوم.

 

16

حين أتيح لي أن أنشر "من دسّ خفّ سيبويه في الرّمل؟"، وقد أصبحتُ مستشارًا في المكتبة الوطنية الجزائرية، رأيتُ أن أكون وفيًّا لاقتراح زهرة، بأن تكون رسوماتها إلى جانب نصوصي، فرسمتُ لوحاتٍ طفوليةً ضمّنتها للكتاب. قلت لمصمّمه الفنّان فاروق درارجة: لقد رسمتُ جهلي بالرّسم. قال: المهمّ أنّك كتبتَ معرفتَك بالحياة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

نبوءة حنا

كأنّي عطر لزهرة الوقت