عاش السوريون طوال حكم آل الأسد، بسبب قسوة ووحشية هذه العائلة، في رعب وخوف دائمين. وكان مجرد الكلام عن أي شيء بسيط من الممكن أن يؤدي بقائله إلى التهلكة فصار السوريون يخترعون الكثير من المصطلحات والكلمات اللطيفة التي تشير إلى معان مختلفة عن معناها، حتى إلى الأماكن والشخصيات والأسماء التي تعني الموت حرفيًا.
على سبيل المثال، تجد أن مواطنًا ما قد شاهد فعلًا مهينًا أو مشينًا من شرطي مرور، فقرر الكتابة على مواقع التواصل الاجتماعي عما شاهده بالطريقة التالية: "شاهدت وأنا أمشي في شوارع الموزمبيق، شرطي مرور من الموزمبيق يقوم بكذا وكذا..".
إنها أسماء ومصطلحات كثيرة للدلالة على الكثير من الأمور الحياتية البسيطة جداً، في أي مكان آخر خارج "سوريا الأسد".
الشوئسمو والنعنع أو البقدونس
من الأشياء المضحكة من زاوية ما، والقمعية جدًا في أيام حكم الأسد، أن تداول العملات الأجنبية أو مجرد لفظ اسمها كان ممنوعًا على السوريين، وكان التداول بهذه العملات يعرض صاحبه للسجن لسنوات، وحتى للتعذيب.
من الأشياء المضحكة من زاوية ما، والقمعية جدًا في أيام حكم الأسد، أن تداول العملات الأجنبية أو مجرد لفظ اسمها كان ممنوعًا على السوريين
وبما أن النظام نفسه كان يتعامل ويحاسب السوريين بالدولار وكي لا يقعون في المشاكل والمتاعب، اخترع السوريون أسماء كثيرة للإشارة إلى هذه العملة دون أن ينطقوها بشكل رسمي، فصار اسمها "النعنع" أحيانًا، وأحيانًا "الشوئسمو أو البقدونس"، وكان السوري إذا ما استغرب ارتفاع سعر منتج ما، يسأل البائع "ليش بقديش النعنع اليوم؟"، ويقصد ما سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار!
وهكذا تسبب هذا الفعل بخسارة الكثير من السوريين لجهلهم بسبب خوفهم بسعر صرفه مقابل الليرة السورية، وتحكم "أصحاب الواسطات والمحسوبيات" بهم، إذا ما قرروا شراء سيارة أو بيت مثلًا أو بيعهما.
بيت الخالة
كانت كلمات مثل "السجن" أو "المعتقل" قليلة الاستخدام بين السوريين، فقد أبدلوها تجنبًا لذكرها أمام الناس وخوفًا من عناصر أجهزة الأمن والمخبرين، وتخفيفًا لقسوة كلمات أخرى مثل "وراء الشمس" أو "تحت سابع أرض" التي أثبتت صور المعتقلات التي انتشرت بعد السقوط وقصص وتجارب معتقليها في وسائل الإعلام صحتها، بمصطلح "بيت الخالة".
وكان السوريون حينما يعتقل أحد الأشخاص يقولون عند سؤال قريب أو صديق ما عنه، ذهب إلى بيت خالته أو "صار ببيت خالتو"، وكانوا أيضًا إذا ما حاول أحد ما الكلام عن أي شيء أو انتقاد أي شيء بسيط يخص الحكومة يسارعون إلى إسكاته والتلفت يمينًا ويسارًا أو النظر عبر النافذة، إن كان هناك نافذة، والقول "أسكت فالحيطان إلها آذان"، ويقصدون بها المخابرات، وسؤال "هل اشتقت لخالتك يعني؟" أو "بدك تزور بيت خالتك؟"، وصار الأمر شائعًا جدًا، ومحل تندر أحيانًا، وفي أحيان كثيرة فعل قمع.
أما بيت الخالة السوري فقد كان، وعلى عكس كل بيوت الخالات الأخريات، المعروفة بالحب والحنية والدفء والألفة والاستقبال اللطيف، مسلخًا بشريًا بكل ما تحمله الكلمة من قسوة ورعب ورائحة دماء، خصوصًا إذا ما كان المعتقل سياسيًا، والاستقبال أبعد مما يكون عن اللطف.
خطو حلو
لا يعرف السوريون لون الباص الذي يقلهم وأصدقائهم وأقاربهم إلى "بيت الخالة" أو شكله أو اسم سائقه، لكنهم يعرفون تقريبًا قاطع التذاكر، أو يعرفون على الأقل أن هناك قاطع تذاكر ما.
مثله مثل أي دكتاتور يخاف أن تخرج أية كلمة بسيطة أو صرخة أو وقفة من فم ما وتؤثر على حكمه، ويحاول دائمًا قمع مصدرها، ومعرفة موقع وساعة حدوثها، قبل حدوثها، عيّن الأسد الأب، ومن بعده الابن، عناصر عسكريين أحيانًا، وفي أحيان أخرى مدنيين، لملاحقة ومراقبة الناس وكتابة ما يعرف بالتقارير الأمنية، ولأن السوريين اعتادوا أن يسموا الأشياء بغير مسمياتها، كانوا يشيرون إلى كاتبي التقارير هذه أو قاطعي التذاكر بـ"أصحاب الخط الحلو".
وقام أصحاب الخط الحلو، الذين قتلوا عشرات وربما مئات الآلاف من أبناء الشعب، وإن لم يقتلوهم بيديهم، بإرسال الكثير من الأبرياء إلى السجون بتهم واهية لا تستند إلى دليل قانوني. تهم كان الكثير منها "كيدية"، أي أنها تعود لخلافات شخصية لا علاقة لها بالسياسة ولا بغيرها.
لا يعرف السوريون لون الباص الذي يقلهم وأصدقائهم وأقاربهم إلى "بيت الخالة" أو شكله أو اسم سائقه، لكنهم يعرفون تقريبًا قاطع التذاكر
ولكثرتهم، وخطورة الكلام أمامهم، عاش السوريون ولمدة طويلة جدًا في خوف وشك دائمين، ووصل الحال بهم، أن الأخ صار يشك بأخيه، والجار بجاره، والصديق بصديق عمره، ويخاف أن يكون خط أي أحد، أي أحد حرفيًا "حلو".
الباص الأخضر
أصبحت الباصات الخضراء التي كانت مثلها مثل أي باصات أخرى تقل المواطنين في سوريا، ومنذ بدايات الثورة السورية، وعلى عكس ما يرمز إليه أي باص، رمزًا للتهجير القسري لعشرات الآلاف من السوريين من مناطقهم، وأيضًا التغيير الديموغرافي في البلد.
استخدم النظام الساقط الباصات الخضراء للمرة الأولى عام 2014 في تهجير السكان والمقاتلين المحاصرين من أحياء حمص القديمة إلى ريف حمص الشمالي، ثم استُخدمت مرة ثانية عام 2015 لتهجير السكان والمقاتلين من حي الوعر في حمص إلى ريف إدلب، ثم بعد ذلك داريا والمعضمية والتل وقدسيا والهامة وخان الشيح في ريف دمشق في عام 2016. وصارت منذ ذلك الوقت، رمزًا حرفيًا للتهجير، وصار النظام الساقط وأعوانه وإعلاميّيه يشيرون إليها كمحاولة للترهيب.
وفي نهاية العام 2016، قام النظام بإخراج الأهالي والمقاتلين من أحياء حلب الشرقية إلى ريف حلب الغربي ومحافظة إدلب بالباصات الخضراء أيضًا، المقاتلين أنفسهم الذين، ولسخرية القدر أو عدله، عادوا قبل شهر وأسقطوه.