09-مايو-2022
عيد النصر في روسيا

عيد النصر في روسيا (NYT)

تصر روسيا منذ أن بدأت اجتياحها لأوكرانيا في 24 شباط/فبراير الماضي على أنها تنفذ "عملية عسكرية خاصة"، مع النأي بنفسها بعيدًا عن استخدام كلمة "الحرب" لوصف هذه العملية العسكرية المتواصلة حتى اليوم.

يعتقد مسؤولون غربيون رفيعو المستوى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد يلجأ إلى إعلان الحرب، وأن فرصته لذلك قد تكون في يوم عيد النصر

وثمّة تكهّنات متزايدة بأن ذلك قد يتغيّر اليوم، عبر تبنّي روسيا خطاب الحرب الشاملة على أوكرانيا، إذ يعتقد مسؤولون غربيون رفيعو المستوى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد يلجأ إلى إعلان الحرب، وأن فرصته لذلك قد تكون في يوم عيد النصر، الموافق 9 أيار/مايو، نظرًا لأهمية هذا اليوم الرمزية للبلاد.

ما هو عيد النصر الروسي؟

يصادف التاسع من أيار من كل عام ذكرى عيد النصر في روسيا، وهو يوم تحتفي فيه الدولة الروسية بالدور الذي كان للاتحاد السوفيتي في هزيمة ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، وإحياء ذكرى ملايين الضحايا السوفيت الذين سقطوا في تلك الحرب. وتحيي روسيا يوم النصر باستعراض عسكري مهيب في العاصمة موسكو، وزيارة كبار الشخصيات الروسية لضريح فلاديمير لينين في الساحة الحمراء في قلب المدينة.

عيد النصر في روسيا

وقد أولى فلاديمير بوتين لهذه المناسبة أهمية خاصة منذ توليه السلطة في البلاد، حتى أصبح مناسبة سنوية مرتقبة لاستعراض القوّة العسكرية الروسية وأسطرة تضحيات "الأمة الروسية" في الحرب العالمية الثانية، والتي قضى فيها أكثر من 27 مليون قتيلًا من الاتحاد السوفيتي، وهي الخسارة البشرية الأكبر لأي طرف في تلك الحرب التي تُعرف في الذاكرة الوطنية الروسية باسم "الحرب الوطنية العظمى".

ورغم أن الاحتفال بعيد النصر الروسي قد بدأ إبان الحقبة السوفيتية التي تلت الحرب، إلا أن الفضل في إحيائه ينسب إلى الرئيس الروسي الراحل بوريس يلتسين، وذلك في الذكرى الخمسين لهذا العيد عام 1995، قبل أن يصبح المناسبة المفضلة لفلاديمير بوتين، إذ هو الذي جعل منها احتفالًا سنويًا ضخمًا يشتمل على عرض عسكري خاص، بهدف استعراض القدرات العسكرية الروسية، واقتناص ذلك اليوم كفرصة لمآرب داخلية للتأثير على الرأي العام وترهيب المعارضة. فالهوية الروسية الشعبية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بيوم النصر الروسي،والذي يعدّ موضوعًا أساسيًا في الكتب المدرسية وكتب التاريخ الروسي الرسمية، في محاولة لترسيخ صورة عن روسيا باعتبارها من حمت أوروبا وحررتها من القوات النازية.

ومنذ ضم روسيا لجزيرة القرم عام 2014، استغل بوتين هذه المناسبة على نحو لافت لإلقاء خطابات حماسية في الساحة الحمراء، يتحدّث فيها عن المسؤولية الروسية في مواجهة الفاشية.

أهمية عيد النصر الروسي هذا العام

في هذا العام، قد يتخذ الاحتفال بعيد النصر الروسي منحى مختلفًا عن السنوات الماضية، في ظل الانخراط العسكري الروسي في أوكرانيا، ولأهداف بعيدة تمامًا عمّا كانت عليه الحال عام 1945، فلا هي تسعى لتحرير أوروبا من قوة غاشمة، ولا هي في وضعها الحالي في أوكرانيا قادرة على تحقيق نصر عسكري مبين تحتفل به في هذا التاسع من أيار.

عيد النصر في روسيا
تحيي المدارس الروسية عيد النصر كل عام بمجموعة من الأنشطة الطلابية ذات الطبيعة العسكرية (NYT)

ومن المقرر أن تشارك أفواج عسكرية شاركت في العمليات العسكرية في أوكرانيا في العرض أمام الرئيس الروسي وحاشيته، قبل أن يلقي بوتين خطابه الذي يرتقب أن يكون له صدى واسع في العالم، إذ قد يحمل إعلانًا هامًا فيما يتعلق بالأزمة مع أوكرانيا ومستقبل العلاقة مع الغرب، في ظل العقوبات الاقتصادية غير المسبوقة على روسيا وأعمدة نظامها ومؤسساتها الاقتصادية والمالية الكبرى. 

اقرأ: العقوبات الدولية على الاقتصاد الروسي.. ما تأثيراتها على المدى البعيد؟

إلا أن الخارجية الروسية قد نفت في وقت سابق أن يصدر عن بوتين أي إعلان خاص بشأن إنهاء حملته العسكرية على أوكرانيا، أو إعلانه لحرب شاملة على أوكرانيا أو دعوة للتجنيد بين المواطنين الروس. كما أوضح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن الجيش الروسي لن يعمد إلى إجراء أي "تعديل على عملياته وفقًا لأية مناسبة".

وقد كان من المؤمّل لدى الكرملين أن يترافق احتفال هذا العام بعيد النصر الروسي مع إحراز نجاح واضح للعملية العسكرية في أوكرانيا التي كان يفترض أن تنتهي في شباط/فبراير. وبحسب خبراء بالشأن الروسي، فإن القيادة الروسية ستلجأ إلى تكتيك ما في احتفالها يوم الإثنين، 9 أيار، لتقديم رواية مقنعة للروس بما حققه تدخّل بلادهم الذي تبيّن أنّه أكثر من مجرّد نزهة سريعة للجنود الروس لإسقاط الحكومة الأوكرانية.

لقد كثّفت الآلة الإعلامية الروسية من حديثها في الأسابيع الماضية عن أهمّية "تطهير أوكرانيا من النازية"، و"نزع السلاح الأوكراني"، وقد يلجأ بوتين يوم الإثنين في خطابه في يوم النصر الروسي إلى تضخيم التقدم الذي حققه في ماريوبول، والهزيمة التي ألحقها بجنود كتيبة آزوف وهي ميليشيا نازيّة متطرّفة داخل الحرس الوطني الأوكراني، وقد يكون لهذه الأنباء وتسليط الضوء عليها صدى إيجابي في الشارع الروسي.

يتجلّى هذا الاستثمار الحكومي في احتفالية هذا العام بعيد النصر في بعض مظاهر الاستعدادات في المدن الروسية المختلفة، حيث الربط الواضح في الدعاية الرسمية بين العامين 1945 و2022، كأنها محاولة للتأكيد على الرواية الرسميّة حول عزم روسيا "محاربة النازية في أوكرانيا، مثلما فعلت يومًا في أوروبا".

عيد النصر في روسيا

وبحسب مقال لأنطون ترويانوفكسي في نيويورك تايمز، فإن عيد النصر في روسيا هذا العام لن يكون لذكرى من قضوا في الحرب العالمية الثانية لصدّ الزحف النازيّ، بل سيكون مناسبة لتنظيم فعالية حكومية استعراضية باذخة للتذكير بالقوّة الروسيّة وإعادة التعبئة المعنوية للحرب والتأكيد على شرعيّتها في مواجهة العدوّ الأوكرانيّ الذي يشكّل "تهديدًا نازيًا جديدًا"، على حد زعم الرواية الروسية.

في احتفالات يوم النصر الروسي، ستحلّق الطائرات الحربيّة وسط موسكو بتشكيلٍ يرسم الحرف "Z"، وهو الحرف الذي بات رمزًا لدعم الاجتياح الروسي لأوكرانيا، كما ستسير في الساحة الحمراء أفواج من الجنود الذين خدموا في أوكرانيا، وآلياتهم العسكرية المصفحة. أما مدينة بالتييسك الساحلية، فستشهد مسيرة "فوج الخالدين"، والذي يشارك فيه ذوو جنود قضوا في الحرب العالمية الثانية وهم يحملون صور الجنود القتلى، ومن المقرر أن ينضم إلى المسيرة جنود روس جرحى شاركوا مؤخرًا في العمليات القتالية في أوكرانيا.

عيد النصر في روسيا
مسيرة "فوج الخالدين" التي يشارك بها ذوو الجنود السوفييت الذين قضوا في الحرب (NYT)

وقد بدأ هذا المسير بمبادرة شعبية عام 2012 في مدينة تومسك السيبيرية، وتزايدت أهميته كوسيلة لإحياء ذكرى جيلٍ لطالما عانى من التهميش في روسيا. وتزايدت شهرة هذه الفعالية حتى صارت تجذب ملايين الناس من مدن ودول أخرى كانت تابعة للاتحاد السوفيتي قبل انهياره. لكن سرعان ما وضعت الحكومة الروسية يدها على هذه الفعالية، إذ خشيت أن تتحول إلى حركة مستقلة مؤثّرة خارج فلك سيطرتها، وذلك بحسب ما كشفت نيويورك تايمز في حديث مع أحد المؤسسين الأوائل لهذه الفعالية. وقد قرر بوتين شخصيًا المشاركة في هذا المسير في عدة مرّات، للتأكّد من أنّ الريع الرمزي للحدث سيعود لصالحه.   

وفي الوقت الذي تعدّ فيه هذه المناسبة، في التاسع من أيار، أهم عيدٍ وطنيّ في روسيا، لتخليد واحدة من السرديّات المؤسسّة الأبرز لروسيا العلمانية الحديثة، والتي ضحّت بأكثر من 27 مليون سوفيتيّ من أجل دحر الخطر النازي في أربعينات القرن الماضي، فإن العديد من الروس يرون أن الاستثمار البوتيني في هذه المناسبة وتجييرها لخدمة مشروعه السياسي، هو تدنيس لهذه الذكرى وشرعيتها، وتعدٍّ على الضحايا وإساءة لهم. كما ينبّه آخرون إلى التوظيف المقصود لذكرى عيد النصر الروسي في جهود عسكرة المجتمع الروسيّ، في تكثيف الدعاية العسكرية وتمجيد الجيش الروسي، من المدرسة وحتى الجامعة، وفي تفاصيل عديدة في مظاهر الحياة اليومية.

بل إن الأمر قد وصل، بحسب تقرير نيويورك تايمز، إلى تصميم لافتات إعلانية ضخمة في بعض المدن الروسية احتفالًا بهذه الذكرى، مكتوب عليها: "بوسعنا أن نفعل ذلك من جديد"، أي أنّ ما حصل قبل 77 عامًا في الحرب العالمية الثانية، قد يتكرر من جديد، في أوكرانيا. ورغم علمانيّة تلك الذكرى الوطنية، إلا أنّ الدين صار عنصرًا بالغ الأهمّية فيها خلال السنوات الماضية. ففي العام 2020، افتتحت الحكومة الروسية كاتدرائية جديدة للقوات المسلحة الروسية على أطراف موسكو، بقبّة تبلغ مساحة قطرها 1،945 سم، أما أرضيّتها فمسكوبة من المعدن المصهور من دبّابات ألمانيّة.

ثمّة آخرون في روسيا ممن يعارضون الحرب في أوكرانيا، ممن باتوا أكثر تحفظًا إزاء عيد النصر الروسي، خاصّة في سياق العبث الرسميّ به لغرض التعبئة لحرب أخرى

ثمّة آخرون في روسيا ممن يعارضون الحرب في أوكرانيا، فباتوا أكثر تحفظًا إزاء عيد النصر الروسي، خاصّة في سياق التوظيف الرسميّ له لغرض التعبئة لحرب أخرى، والنظر إلى الجانب المظلم المسكوت عنه حول "النصر السوفيتي" في الحرب العالمية الثانية وما رافقه من انتهاكات إنسانية فظيعة، خاصة فيما يتعلق بجرائم الاغتصاب التي يتهم جنود  الجيش الأحمر السوفيتي بارتكابها أثناء احتلال ألمانيا.