10-ديسمبر-2017

من مهرجان فن ذوي الاحتياجات الخاصة

تمضي بخطوات مثقلة باتجاه غرفة جانبية أقصى البيت الصغير، تفتح باب الغرفة الخشبي الصغير المقفل بقطعة قماش، لتطمئن على فلذة كبدها الذي لا يعلم ما يحدث حوله، هي مأساة تعيشها بَسْنَة مذ تزوجت وهي تحلم بعائلة صغيرة ككل فتاة تتزوج وتنجب أطفالًا وتقضي عمرها بشغف وهم يكبرون أمام عينيها، إلا أن ما حصل مع بسنة كان العكس تمامًا.

تدعوني إلى الجلوس في غرفة الضيوف، غرفة متواضعة التجهيز، مدفأة صغيرة مشتعلة تتوسط الغرفة، وتلفاز صغير على طاولة خشبية في إحدى الزوايا، وسائد متشابهة اللون والحجم تزين محيط الغرفة المعتمة قليلًا في عصر ذاك اليوم بغياب التيار الكهربائي.

تبدأ، بدون أية مقدمات، بسرد قصتها مع أطفالها الذين لم يُكتب لهم أن يعيشوا حياةً طبيعية كما كل أطفال هذا العالم، وتقول إنها تزوجت من رجل تربطها به صلة قربى، أنجبت سبعة أطفال، أربعة منهم كانوا مصابين بالشلل وبأمراض عقلية، وهنا بدأت رحلة العذاب معهم.

عاشت سنوات طويلة وهي تربي أطفالًا لا يعلمون ولا يفهمون ما يحدث حولهم، غيابها عنهم لدقائق قليلة كانت كفيلة بأن يتعرضوا لمكروه، تتحدث عن لحظات عاشتها مع أطفالها المرضى وتبدأ عيناها تمتلئان بالدموع، تمسح دموعها بطرف غطاء رأسها ذي اللون الأبيض وتكمل الحديث عن مأساتها، تقول إنها لم تهنأ بلحظة فرح وهي تشاهد أبناء قلبها في هذه الغرفة التي نجلس بها الآن وهم يفعلون كل ما لا يفعله الأطفال الأسوياء، يلوثون أنفسهم، يضربون أنفسهم يعيشون عذابات لا يشعرون بألمها، أو كانوا يشعرون لكن لم يستطيعوا أن يتحدثوا، أن يعبروا عن آلامهم تلك، حتى أتى اليوم الذي فقدت ثلاثة منهم، وضعوا رؤوسهم بكل هدوء وغادروا هذا العالم الذي لم يشعروا فيه بشيء، غير أنهم أحرقوا قلب هذه الأم التي بدأت دموعها تزيد وهي تتحدث عن وفاتهم.

رغم كل العذاب الذي ذاقته وهي تربيهم، إلا أنه قلب الأم الذي لا يشبهه أي حنان في الدنيا، بكت بحرقة وهي تتذكر كل ما عانته وكل ما عاناه أطفالها الأبرياء الذي عاكسهم القدر ليأتوا ويذهبوا كما لم يُخلقوا.

بعد أن بدأت تهدأ قليلًا، وبعد كلمات مواساة لم أستطع تقديم شيء لها سواها، أعود وأسألها عن أطفالها الأسوياء، تبدأ بالإجابة بتنهيدة، حيث إن ابنها الأكبر بعد أن تزوج أصابه مرض في أمعائه، وطلب الأطباء أن يسافر إلى الخارج ليتلقى العلاج المناسب ولا زال يتعالج، أما الابن الآخر فقد وقع ذات مرة والتهبت ساقه وبدأت حال هذه الساق تسوء أكثر فأكثر، وخوفًا عليه خرج هو أيضًا إلى دولة أخرى وقد عجز عن المشي تقريبًا، لا يستطيع أن يعمل لذلك يتلقى مصروفه من أمه وأبيه.

آخرهم الفتاة التي تزوجت وانتقلت مع زوجها إلى دولة قريبة، وعند الحديث عن ابنتها تعاود البكاء وهي تروي قصة حفيدتها التي كانت كشمعة أمل لهذه العائلة، إلا أنها وبعد فترة قصيرة أصيبت بمرض يشبه اليرقان حتى انعدمت حركتها فتقول بسنة: "يا لهذا القدر كم يشبه نصيب ابنتي نصيبي!".

بقيت بسنة وزوجها، الرجل المسن الذي قدم إلى المنزل ونحن نجلس، وفي يده أدوات العمل، فهو يعمل في ورشات البناء. ألقى علينا السلام، وذهب ليطمئن على ابنه، ولم أعد أراه فقد خرج من المنزل.

قطع كثيرة من القماش مغسولة ومعلقة على حبل في حديقة المنزل تحركها نسمات الهواء، هي أقمشة تلف بها ابنها العشريني كي لا يلوث نفسه، تتذكر لحظات كان ابنها صغيرًا حينها، كان يعاني من ألم كبير في رأسه لم يعرف الأطباء سببه، تقول بسنة إنه في كثير من الليالي كان يضرب رأسه بالجدران من شدة الألم حتى ينزف رأسه، ولم تستطع فعل شيء من أجله، بقي على هذه الحالة لسنوات، وفجأة لم يعد يتصرف بهذا الشكل إما أن الألم حن عليه وغادره أو أنه اعتاده.

حين فتحت باب غرفته تحرك من مكانه، تقول بسنة إنه كلما شعر بالنور أراد الخروج من الغرفة، تسرع إليه لتمنعه من التسلل إلى الخارج، تمسك به وتتحدث إلي، أنها قد نقلته إلى هذه الغرفة منذ فترة ليست ببعيدة، بعد أن كسرت ساقه ولم يتحسن هذا الكسر، وأصبح طريح الفراش بشكل دائم، شاب يبلغ من العمر إحدى وعشرين سنة لا يستطيع الكلام ولا الحركة، يسمع لكن لا يفهم ما يتحدثه من حوله، تسقيه أمه الماء ونخرج من غرفته لتعاود إقفال الباب بتلك القطعة من القماش.

خرجت من المنزل تاركة بسنة تواجه قدرها الذي منعها من هناءة الأمهات مع أطفالهن. تركتها وليس لدي سوى هذه الكلمات التي لا مهما فعلت لن تجبّر كسور الأمل.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أشياء تنزل من أماكن عالية

أقول لكِ