30-ديسمبر-2021

(Getty Images)

"دخل أبو العلاء المعري ذات يوم مجلسًا ببغداد، فعثر برجل، فصاح هذا هازئًا من عماه: "من هذا الكلب؟" فردّ الشاعر الضرير: "الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسمًا".


في كل عام منذ مطلع الألفية، تدأب قواميس اللغة الإنجليزية على بدعة لغوية طريفة، تقوم على اختيار كلمة يُطلق عليها وصف "كلمة العام"، يرى من اختاروها أنها تختزل فكرةً أو حالة أو شيئًا رافق الناطقين بهذه اللغة وشغلهم وسيطر على نقاشاتهم العامة خلال أشهر السنة. الفكرة قديمة، تعود إلى مطلع التسعينات، لكنها اكتسبت زخمًا بعد أن التقطتها المعاجم التجارية، خاصة قاموس "ميريام ويبستر" الأمريكي، عام 2003، ثم قاموس أكسفورد عام 2004، والذي حوّلها إلى تقليد راسخ وفق منهجيّة علميّة رصينة، للكشف عن أوضاع العام عبر النظر في المفردات التي شاعت على نحو لافت، سواء كانت قديمة وانتعش استخدامها، أو جديدة مولّدة. 

تتجه الأنظار في نهاية كل عام إلى معجم أكسفورد للغة الإنجليزية، باعتباره القاموس اللغوي العامّ الأكثر عراقة وشهرة في العالم

ولهذا تتجه الأنظار في نهاية كل عام إلى معجم أكسفورد للغة الإنجليزية، باعتباره القاموس اللغوي العامّ الأكثر شهرة وسعة في العالم، والذي يعكس في قيمته وسلطته شيئًا من وضع العالم و"أصحاب الكلمة" فيه. فلتحديد كلمة العام، يعتمد القائمون على هذا المعجم على برمجيات معقّدة تحلّل أكثر من 150 مليون كلمة إنجليزية تجمع من مصادر الإنترنت شهريًا، وتتيح للباحثين تحديد سلوك الكلمات واستخداماتها والتحوّلات التي تطرأ عليها بين مجتمع المستخدمين في كل عام. كما يختار محررو المعجم كلمات بعينها يجدون أنّها جديرة بالمتابعة والدراسة، ويعتمدون على مصادر بيان أخرى للتوصّل إلى حكم بشأن الترشيحات الأخيرة لكلمة العام، كلّ عام. إضافة إلى الاهتمام الخاص بمراجعة الكلمات التي يقترحها العامّة والتي يرسلونها إلى المعجم عبر الإيميل أو وسائل التواصل الاجتماعي.

اقرأ/ي أيضًا: كيف دخل تقليد "كلمة العام" إلى الإنجليزية وما الذي تغيّر في عام الجائحة؟

ولا يلزم أن تكون كلمة العام كلمةً جديدة، لكن لا بدّ أن تحقق مستوى من الملحوظية والاستخدام خلال أشهر السنة، كي تكون مرشحة للنظر فيها من قبل الفريق المعنيّ ضمن المعجم، سواء لاختيارها ككلمة للعام، أو حتى لاعتبارها والنظر فيها ضمن الكلمات المرشّحة للإضافة في المعجم. فالكلمات المرشحة لتكون "كلمة العام" في عامٍ ما، قد لا تضمن بالضرورة أن تصل إلى المعجم نفسه وتصبح مدخلًا ثابتًا فيه.

في العام الماضي، عام الجائحة، قرر معجم أكسفورد عدم الاكتفاء بكلمة واحدة لتكون كلمة العام، بل اختار فريق المعجميين فيه  ست عشرة كلمة، وذلك لأنهم رأوا أن العام كان بالغ الغرابة على كافة المستويات، بسبب الظروف التي فرضها توسّع تفشي فيروس كورونا، والتي تفشّت معها على ألسنة الناس العديد من الكلمات والمصطلحات الطبية والمتعلقة بالصحة العامة، والتي عكف اللغويون على ملاحظة أنماط استخدامها في الحياة العامة. يذكر مثلًا أن كلمة (Pandemic) قد قفز استخدامها بنسبة بلغت 57،000% في العام 2020، إضافة إلى مصطلحات وتعبيرات أكثر تعقيدًا، مثل (flattening the curve)، بمعنى تسطيح المنحنى، وغيرها ممّا ضجت به الصحف ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، في دوّامة من الجدل لا تنتهي حتى يومنا الحاضر، بعد انقضاء عام آخر بأكمله على الجائحة.

كلمة واحدة للعام 2021.. عام اللقاحات

أما في العام 2021، فاختار معجم أكسفورد كلمة "Vax"، والتي وُصفت بأنها كلمة "لافتة على نحو خاص"، رغم ندرتها سابقًا في مدوّنة المعجم، حتى هذا العام. فقد تضاعف استخدام هذه الكلمة ومشتقاتها حوالي 72 ضعفًا مقارنة بالعام الماضي، وهوما يعكس بحسب بيان أكسفورد محوريّة هذه الكلمة خلال العام، التي تعبّر عن سياق خاصّ، في عدد من الدول المتقدمة الناطقة بالإنجليزية، ولاسيما الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.

وقد اهتم معجم أكسفورد اهتمامًا خاصًا بلغة اللقاحات ومفرداتها، ووضع تقريرًا خاصًا يستكشف بالتفصيل التطورات اللغوية في هذا السياق الذي شهد فيه العالم ثورة في مجال تصنيع اللقاحات، وأزمة أخلاقية في عدالة توزيعها بين شعوب العالم، وقانونية فرضها على قطاعات ليس محدودة من الناس عبر العالم ممن لا يزالون يرون في أمر الجائحة ولقاحاتها مؤامرة كونية ما.

ومن الممتع والمثير لا شكّ لعالم اللغة والمهتمّ بالمعجم أن يلحظ تأثير موضوع بعينه على لغة المجتمع اللغوي، خاصة حين يكون التأثير واسعًا وتحت رادار الملاحظة، بفضل ما تتيحه التقنيات الحديثة في الإحصاء والسبر ومعالجة البيانات، ولاسيما للغة كالإنجليزية بانتشارها العالمي الذي لا تدانيه في سعته أية لغة أخرى. فموضوع كوفيد-19، وما أثاره ونجم عنه من تطوّرات تقنيّة وعلميّة، وحوار/صراع اجتماعي وسياسي حولها، يمثّل خلطة مثالية لنشوء مفاهيم جديدة، تحتاج إلى مادّة لغويّة تدلّ عليها، سواء عبر كلمات جديدة غير مستخدمة من قبل، أو توسيع دلالة كلمات موجودة أصلًا، أو إحياء كلمة كانت شبه ميّتة وإدخالها مجددًا إلى حيّز التداول والاستخدام الطبيعي.

ولنا أن نتخيل حجم المادة اللغوية المتوفّرة للباحثين في معجم مثل معجم أكسفورد الكبير، والمدوّنة الإلكترونية التي تجمع المحتوى اللغوي الجديد الذي يخضع لتحديث يوميّ، ويضمّ أكثر من 14.5 مليار كلمة، تشكّل منجمًا هائلًا للمراقبة والبحث والتحليل.

فقد كشفت هذه البيانات المتوفّرة للباحثين، طفرة هائلة في نطاق واسع من الكلمات المتعلقة باللقاحات (vaccines) ومشتقاتها من الأفعال والصفات، والمتلازمات اللفظية التي تجاورها في الاستخدام، مثل كلمة (booster) مثلًا، والتي تعني الجرعة الثالثة المعزّزة، إضافة إلى صفات (single-dose) أو (two-dose)، أو (shot) بمعنى جرعة اللقاح. كما تم تسجيل زيادة في المفردات ذات العلاقة بتصنيع اللقاح واختباره وفحصه وترخيصه واعتماده وتوزيعه. كما لوحظ في البيانات التي كشف عنها المعجم كيف تزايد استخدام عبارات تدلّ على الجدل المجتمعي حول اللقاحات، مثل (vaccine hesitancy) والتي تدلّ على حالة عدم الإقبال على اللقاحات في العديد من دول العالم، أو (anti-vax) و(anti-vaxxer) والتي تشي بنموّ حالة مناهضة للقاحات، حتى بات هنالك أشخاص يعرفون عن أنفسهم بأنهم "مناهضو اللقاحات".

أمّا كلمة (vax) التي اختارتها هيئة معجم أكسفورد لتكون كلمة العام 2021، فهي كلمة ذات تاريخ مثير، يعود إلى ثمانينات القرن العشرين، إذ استخدم مبكرًا كمرادف مرخّم من (vaccine) (التي يعود ظهورها إلى العام 1799، مشتقّة من اللاتينية)، ثم كفعل بمعنى "لقّح". غير أن هذه الكلمة (vax) ظلت هامدة في المدوّنة اللغوية للمعجم، حتى هذا العام، حيث شهدت طفرة كبيرة في الاستخدام، بحوالي 72 ضعفًا مقارنة بالوقت ذاته من العام الماضي، وتوسّع استخدامها في نطاق واسع من السياقات الرسمية وغير الرسمية، وبالأخص غير الرسمية، في أماكن مختلفة حول العالم الناطق بالإنجليزية.

كلمات إنجليزية جديدة

لحظ الباحثون في معجم أكسفورد كيف ولّد العام 2021 العديد من الكلمات، التي ارتبطت كذلك بالجائحة واللقاحات، ونشأت داخل شبكة من التفاعلات بين التقنيات الحديثة والربط الحتمي مع عالم السوشال ميديا. فمن الكلمات الجديدة التي برزت ودرجت خلال الأشهر الماضية، كلمة (vaxxie)، والتي تعني صورة "سيلفي" أثناء أو بعد تلقي اللقاح مباشرة. هذه الكلمة نحتها العالم الأمريكي أنتوني فاوتشي، مستشار البيت الأبيض لشؤون جائحة كوفيد-19، وكبير أطباء البيت الأبيض سابقًا، حيث نصح في إحدى الفعاليات الافتراضية الناس بالتقاط صور عند تلقي اللقاح ونشرها على وسائل التواصل الاجتماعي لتشجيع الآخرين وإقناعهم بضرورة اللقاحات. وكان الممثل الأمريكي آلان آلدا مشاركًا في تلك الفعالية مع فاوتشي، وقال مداعبًا: "بدلًا من التقاط صور "سيلفي"، علينا أن نبدأ بالتقاط صور "فاكسي" (Vaxxie)". ورغم أنه قالها في معرض مداعبة، إلا أن وسائل الإعلام التقطت الكلمة، وكتب لها الرواج بشكل كبير على وسائل التواصل الاجتماعي.

أكسفورد يختار كلمة العام العربية

نظرًا إلى الطبيعة العالمية لجائحة كوفيد-19، فيمكن التوقّع بشيء من الثقة بأن لغات العالم قد شهدت هي الأخرى طفرات باستخدام مفردات شبيهة، ذات علاقة باللقاحات والتطعيم والجرعات، إضافة إلى شيوع المفردات الإنجليزية (أو الفرنسية في المغرب)، للحديث عن هذه المواضيع. فكلمة "لقاح" ومشتقاتها راجت بشكل ملحوظ، في الصحف والمجلات ووسائل الإعلام، وفي وسائل التواصل الاجتماعي بطبيعة الحال.

 

وقد أشار تقرير معجم أكسفورد إلى ذلك، بملاحظة وتيرة الاستخدام الحاصلة بالإنجليزية وسحبها على العربية (ولغات أخرى). ولم يغفل المعجم الإشارة إلى بعض المعلومات التاريخية المتعلقة بكلمة "لقاح" في العربية، مشيرًا إلى أنّها تترتبط أصلًا بتكاثر الحيوان والنبات (تلقيح النخل). ووفق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، فإن كلمة "اللقاح" مسجّلة أول مرّة عام 86 قبل الهجرة، بمعنى "الجماع"، وهو أقدم استخدام مسجّل لهذا المصدر من الفعل الثلاثي "لقح". أما الفعل نفسه، فأقدم استخدام مسجّل له يعود للعام 91 قبل الهجرة (533 للميلاد)، بمعنىً مرتبط بهيجان الحرب واشتعالها. 

 

كما ذكرت الفقرة الصغيرة المخصصة للعربية في تقرير هذا العام من معجم أكسفورد، كلمة "تطعيم" الشائعة كذلك للدلالة على تلقي اللقاح في المشرق العربي، إضافة إلى غيرها من الكلمات، مثل جرعة وحقنة، والتي يمكن الجزم بثقة أن استخدامها قد انتعش بشكل غير مسبوق خلال العام.  

في انتظار القاموس

ربّما تجدر الإشارة أخيرًا إلى المفارقة في أن يُقدم معجم أجنبي على اختيار كلمة عربية يرى أن حياة الناطقين بها قد تمحورت حولها خلال العام، وكأن القائمين عليه يسدون بذلك خدمة لهذا الغريب البعيد ولغته، ويسدّون فراغًا متروكًا فيها.

والحقّ أننا لسنا بحاجة إلى هذه اللفتة الإنجليزية البسيطة، لنتذكّر حال القواميس العربية المعاصرة، والتي هي في الحقيقة ليست بمعاصرة، لا في محتواها، أي في مداخلها وبنيتها وتعريفاتها، ولا في طريقة عرضها وإخراجها، ولا حتّى في سلوكها في العالم الرقميّ ووسائل التواصل الاجتماعي. يمكن أن نشير مثلًا إلى أن قاموسًا لغويًا عامًا شهيرًا، مثل قاموس المورد العربي، ليس له موقع إلكتروني، ولا حسابات على وسائل التواصل الاجتماعي. وكذا المعجم الوسيط الذي كان يمكن بالنظر إلى الجهة التي تصدره أن يكون المعجم العربيّ المقدّم والأكثر حيويّة وتفاعلًا مع احتياجات المستخدمين، لو أن له بوابة إلكترونية. أما القواميس الإلكترونية المتوفّرة، حتى أشهرها مثل قاموس المعاني، وقاموس صخر، فهي على ما فيها من فائدة، قواميس تجميعية هجينة، وإطلاق وصف قاموس عليها فيه الكثير من التجاوز.

اللغة تهب قوّتها لمن يستحقّ، لمن يجيد تداولها

وكل هذا يعني أن المستخدم العربي المعاصر لا يجد مرجعًا لغويًا رقميًا يمكن الثقة به، وبالهيئة العلمية المختصة القائمة عليه، باستثناءٍ ربّما لمعجم الدوحة التاريخي للغة العربية، غير أنّه معجم تاريخيّ بالأساس، كما أنّه ليس مكتملًا بعد، إذ ما يزال في المرحلة الثانية من التطوير، من بين خمس مراحل طويلة.

عودًا على الاقتباس الذي بدأت به المقال أعلاه، يعلق عبد الفتاح كيليطو واجدًا مثالًا رمزيًا في تلك العبارة التي ظلت محفورة في ذاكرة العرب، والتي ذاد بها شاعرٌ ضرير عن نفسه مذكّرًا بسلطة التسمية وامتلاك الكلمات، وقوّة اللغة "التي تهب قوّتها لمن يستحقّ، أي لمن يجيد تداولها". 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

كيف دخل تقليد "كلمة العام" إلى الإنجليزية وما الذي تغيّر في عام الجائحة؟

عن الرجل الذي التهم القاموس