21-ديسمبر-2015

يمر الجنوب اللبناني بتحولات كبرى (أ.ف.ب/Getty)

"في زمن الحرب العالميّة/ في زنزانة بسجن سان كارلو الإيطالي/ حفر جندي اشتراكي على الحائط بمسمار: عاش لينين!/ عالية، لا تكاد ترى، في الزّنزانة شبه المظلمة، لكنّها مكتوبة بحروف مفزعة./ حين رآها الحرّاس، أرسلوا نقّاشًا بدلوٍ من الجير/ دهن النّقش المفزع بفرشاةٍ ذات عصا طويلة./ لكن لأنّه مرّ بالجير فوق الكتابة، صار الآن في أعلى الزّنزانة بالجير: عاش لينين!/ دهن نقّاش ثانٍ كل شيء بفرشاة، فاختفت لساعات، لكن في الصّباح حين جفّ الجير، ظهر تحته من جديدٍ النّقشُ: عاش لينين!/ الآن جنّد الحُرّاس بنّاءً بسكّين ليمحو النّقش. ظلّ يحفر حرفًا بحرفٍ، لمدّة ساعة وحين انتهى، كان في أعلى الزّنزانة، دون لونٍ الآن لكن بحفرٍ عميق في الجدار، النّقش الذي لا يُقهَر: عاش لينين!/ قال الجنود، الآن اهدموا الجدار!" 

’’- النّقش الذي لا يُقهَر- برتولت بريشت’’

كنت لا أزال صغيرًا في السنّ حين قرّرت جدّتي إقفال المقهى يومها، المكان الذي تردّد إليه من أحبّوا لعب ورق الشدّة والطّاولة. وفي هذه الحال، هم معظم أهل البلدة وجوارها. هذا وقد كان جدّي من شيوعيّي البلدة القدامى ومن محاربي الإقطاع، لذا أخذ مقهى زوجته الطّابع الشّيوعي. كانت جدّتي تعمل وحيدة بكدّ وبمساعدة بعض أبنائها لتقديم القهوة والشّاي والكازوز للزبائن، كما لأولئك الذين كانوا يجلسون وراءهم في الصفّ الخلفي من الطاولة، يهمسون لهم بالخطط ثمّ يهازلونهم عند الخسارة.

المقهى يبقى مقهى ولا يمكنه أن يصبح حزبًا في يوم من الأيّام

نقاط اللّعب كانت تُسجّل بالطّبشور الأبيض على ألواح خشبيّة خضراء صغيرة نسبيًّا، أحاط بها إطار خشبيّ داكن تجانس مع لونها. الطاولات كانت حديديّة الهيكل، منجّدة بجلد بُنّي دقيق كما المقاعد، خزّنت غُبارًا كلسيًّا تلاشى جزئيًّا مع ألواح الضّوء في ساعات الظّهيرة، ليلوّن بعض الأسفلت المحاذي للرّصيف، حيث تربّع المقهى، أحد أوّل مقاهي ضيعتي، كفر رمان في جنوب لبنان، حيث درجت تسميتها كفر موسكو لوقتٍ طويل.

عُرِفَ المقهى منذ افتتاحه في منتصف ستينيّات القرن المنصرم في قلب البلدة، حيث كان دومًا يعجّ بالشيوعيين من أبناء البلدة ورفاقهم في المقاومة الفلسطينيّة الذين اتّخذوا من الضّيعة ملاذًا آمنًا قبيل الاجتياح الإسرائيلي في بداية الثمانينيات ودخول الصّهاينة كفر موسكو، كما أحبّ الشيوعيون تسميتها. أحاطت البلدة ثلاثة مواقع للعدوّ الإسرائيلي، كان يختبئ أشرسها وهميًّا بحافة سطح المقهى بعيدًا في الجبال. كان يُدعى موقع الطْهُرَة، حيث قبعت مدفعيّة إسرائيليّة في داخله برفقة عدد من القنّاصات التي دائمًا ما كانت ترمي بحقدها نحو الوادي الذي تشكّله ضيعتي في الجغرافيا. وبالطّبع، لم يسلم الجالسون والمقهى من الضّربات الفُجائيّة، فمن لم يمت بالقذائف أصابته شظايا الصّاروخ وانتشرت في جسده.

 أحد روّاد المقهى الدّائمين كان رجلًا نحيفًا في منتصف العمر، لم يكن يلعب الورق. لكنّه كان يجلس بجوار بعض زملائه يسامرهم. كان يرتدي الثّياب نفسها في كلّ مرّة رأيته فيها، القبّعة الروسيّة ذات الفرو البنيّ، بنطال كحليّ يلفّه زنّار يعلو بشكل لافت عن الخصر، قميصه أبيض. كنت أظنّه منظّرًا ما في الديالكتيك، كان يشبه حسين مروّة كثيرًا بنظّاراته الدّاكنة. في السّنوات الأخيرة قبل إقفال القهوة كان يطلّ أحيانًا وهو مارّ في طريقه إلى العزاء ليجلس على كرسي إلى جانبي ويحدّثني بالشيوعيّة. هنا كان يرتفع منسوب الشّبه مع الشّيخ مروّة قبل أن يعلو صوت القرآن من الحسينيّة التي لا تبعد كثيرًا عن المقهى، ويصبح أشبه بترانزيت يرتاح خلاله المسافرون قبل شدّ رحالهم وإكمال المسير نحو الهدف الأساسي الذي جاؤوا من أجله. وهكذا كان صديقنا "رفيق" أحدهم.

منذ زمن ليس بالبعيد قابلته يتمشّى على الطريق المؤدّي إلى سهل الميذنة. توقّفت بجانب الطريق، تذكّرني بسرعة وراح يحدّثني كعادته عن الشيوعيّة والفلّاحين. لكنّه كان يستدرك حتمًا بأنّ خطابه بات أقرب إلى أشرطة قديمة العهد. كان رفيق يثبت هذا بأنّه وعلى غير عادته أصبح يقحّ بين الكلمة والأخرى. أنهى حديثه مبرّرًا بأنّه كان يحكى بأنّ شابًّا مسيحيًّا من منطقة مجاورة تدعى العيشيّة أحبّ فتاة شيعيّة من التلال المجاورة. تزوّجها بشرط تشيّعه والتخلّي عن المسيحيّة. في الفترة الأولى بعد انتقاله للسّكن في بلدة زوجته، بدأ الرّجل بارتياد المجالس والمحاضرات الدينيّة، ثمّ أصبح يؤدّي الصلاة كغيره من سكّان البلدة حتى أمسى لا يمكن تمييزه عن باقي النّاس كما يصفه رفيق. يموت الرّجل بعد عمر طويل فيحمل بعض الرّجال جثّته ليغسلونه قبل الدّفن فيجدونه يعلّق صليبًا في عنقه. يبتسم رفيق ويقول لي بكلّ ثقة بأنّ الجميع يعود إلى أصله.

اقرأ/ي أيضًا: أمي ما زالت شيوعية!

بالطّبع لم يكن يقصد رفيق الحديث عن الدّاروينيّة، بل كان يحاول القول بأنّه قد تعب. هرم على هذا النّوع من الأحاديث. لم يعد يريد أن يحاول مجدّدًا. فات الأوان. لم يعد يذهب إلى المقهى فقد أقفل. لم يكن رفيق ليتخيّل نفسه كما كان فقد ولّى زمن الشباب والنّضال. كان أشبه بحلم داخل مقهى، المقهى نفسه. أراد لنفسه أن يستمرّ لكنّ مشكلته أنّه كان مقهى ولا بدّ أن يقفل في يوم من الأيّام ويحلّ مقهى آخر مكانه وهكذا... يتغيّر مكانه، لونه ورائحته. تتغيّر موسيقاه وألحانه، أرضه وراياته، لكنّه يبقى مقهى لا يمكنه أن يصبح حزبًا في يوم من الأيّام.

وكما في السّجن الإيطالي، كان قد طُبِع لينين بنسخته الأرجنتيّة على حائط المقهى الخارجي. هناك تمدّد غيفارا، رأسه بالأحرى، أحمر اللون. على الأرجح أنّ لونه كان مستوحى من راية البولشفيك الحمراء. هذه المرّة لم تأتِ الفاشيّة لحفره وانتزاعه وهدمه بل ببساطة غطّته دعوة من أحد الجمعيّات الكشفيّة، اليساريّة، للمشاركة... في هريسة عاشوراء!

اقرأ/ي أيضًا: القصة الكاملة لحادثة مار مخايل..