تضيء أعمدة الإنارة الصدئة ذلك الزقاق الضيق القابع عند طرف العمار بمدينتي الصغيرة، أجلس في إحدى المقاهي الضيقة المتناثرة على جانبيه لأراقب أحد أدوار الشطرنج الدائرة بين شابين حديثي العهد باللعبة، وهما يحركان القطع البلاستيكية التي تآكل نحتها وبهتت أجسادها المشدودة على الرقعة الممغنطة. مارست هذه اللعبة كثيرًا، وأعلم جيدًا شبكات وعلاقات القوة والضعف التي تنشأ مع كل خطوة زمنية بها.
أشد أنفاس الشيشة المستكينة عند قدمي فتتوهج الحجارة المستقرة فوق طبقة المعسل السميكة أدناها، أملأ صدري بدفء الدخان المحبب وتؤنسني قرقرة المياه المتلاحقة، أنفث الدخان المتمدد في رئتي فتتصاعد دوائره الشفيفة لتغطي الشقوق الأخطبوطية التي تغمر الجدار المتهاوي للمقهى.
"شيش اليك.. وقعت يا حلو".
ارتطام أحجار النرد المتسخة بالطاولة الخشبية المجاورة مصحوبًا بهتاف أحد رواد المقهى المعتادين، صبي قصير يتحرك بين الموائد القليلة المتراصة في آلية نشطة متلقيًا الطلبات ومغيرًا لأحجار الشيشة، عجوز ممصوص الجسد يرتدي بدلة صيفية ويؤرجح نظره بين ساعته الفضية الضخمة وشاشة التلفاز الساكنة.
"دا معاد عرض حفلة الست الله يرحمها.. افتح التلفزيون يا محمد".
تتآكل مساحة الرقعة تدريجيًا أمام عسكر الأسود مع تقدم بيادق الخصم وتتساقط قواته فاقدة تماسكها الداخلي.
"إن كان الله قد اختارك لنا فكيف لا نختارك؟!"
يتقدم أحد البيادق نحو الخط الأخير تحدوه الرغبة في الترقي وتجاوز إمكاناته المقدرة فيطيح به فيل أبيض محيلًا وجوده عدمًا. أبعد وجهي عن الرقعة، وأشد نفسًا طويلًا محاولًا طرد صورته التي صارت تملأ كياني، اعتدت الدقات الرتيبة لمروحة السقف التي نخرها الصدأ مختلطًا بصوت الموقد المشتعل وضربات الطاولة العشوائية وهسيس الرواد.
سئلت كثيرًا عن سبب انتمائي لهذا المكان فلم أجد ردًا سوى أن من به لا يهتمون حتى بقراءة الجورنال، لم أخبرهم أبدًا بحالات الذعر التي صارت تنتابني من صورته التي تملأ الجدران والشوارع والميادين وحتى جدران المقاهي الكبرى.
الشاه الأبيض شامخ وسط قواته يراقبني بنظرة ملؤها السخرية، فتعتريني رغبة عارمة في تجاوز قواعد اللعبة، وضربه بإحدى القطع أو الإطاحة بالرقعة كاملة.
"لو كان الانتحار جبنًا فالإقدام عليه شجاعة".
يهرول الصبي القصير خارجًا من باب المقهى الضيق نحو الزقاق، وقسمات القلق على وجهه بادية، تنهال على أذني أصوات التصفيق الحاد لافتتاحية الحفلة الموسيقية بعد رفع الستار عن الست التي تملأ صورتها الشاشة بمنديلها المميز، يحاصر الوزير الأبيض شاه المنافس عند الخط الأخير.
يمد رجل غليظ الشارب والحاجبين يرتدي مانطو طويلًا يده إلى الصبي بإطار خشبي كبير، يتثاقل دخان الشيشة ويخفت توهج الحجر، يتجه الصبي نحو الجدار المواجه لي، ويبدأ في تثبيت الإطار الخشبي الذي يمتلأ بصورته، صوت أحد الشابين يهتف في جذل.
"كش.. مات".
اقرأ/ي أيضًا: