02-مارس-2021

غلاف الكتاب

يأتي الشاعر السوري الكُردي عماد الدين موسى (1981) القصيدة بقلب شامخ وجوارح فتيّة وبحسّ إنساني يراهن على المختلف ويؤكّد أن نهر الإبداع عنده يمضي سلسًا وبطاقة مضيئة وتموّجات مثيرة وبوعي مستمر. عماد ينظر في ممرّات الحلم والأشياء بما يليق من قيمة.. ومن أفكار وطموحات، ويجعل النصّ بتأمّلاته ومؤشّراته، ببساطته وعمقه، حكاية أخرى أكثر دينامية وحيويّة.

تستجيب قصائد عماد الدين موسى، في تحوّلها وتغيير صِلاتها وتناغمها الدّاخليّ، إلى عصرها الإبداعي وإلى الكثير من غنى التّجربة

منذ "طائر القصيدة يرفرف في دمي" عام 2001 و"حياتي زورق مثقوب" عام 2015، مرورًا بـ"أن تتعطر بقليل من البارود" عام 2016، إلى المجموعة الشعرية "كسماء أخيرة" عام 2021 ضمن طبعة ثانية عن دار "خطوط وظلال" الأردنيّة، وأعمال الشاعر موسى (ابن بلدة عامودا في الشمال السوري)، تغتني على الدّوام وتتجّذّر في مضمار الفعل الشّعري وتتبادل الصّلة مع الآخر وقلق الذّات وتفصيلات الحياة بنوازعها ومؤثّراتها.

اقرأ/ي أيضًا: بهيج وردة في "ثلاثةَ عشرَ حفيدًا لمرآة".. بعدما صار المنزلُ رمادًا

في المجموعة الشعرية "كسماء أخيرة"، نجد الشاعر بروحه الصّلبة يحتمي بالظلّ ويرفع صوته بالنّشيد رغم اللاّشيء، إنّه الوعي بما يجري.. وبما يجعل الاحتمالات مفتوحة على الصّمت وتضادّ الألوان وعمى الأيّام التي بلا طعم:

"حياتُنا كلاحياتنا

الأبيض أسود

والنّهار ليل.

أُغنّي من أجل اللاّشيء

وأرنو إلى اللاّ أحد..

بينما الأزهارُ تتساقط

كسحابة صيف" (ص: 9).

ولعل هذه التقاطعات اليوميّة وبوتيرة سريعة تجعل الشّاعر يبوح بانزياحات همومه، بل ويستبطن الكثير من الإشارات والدّلالات وبمنتهى التّكثيف، حيث يصير المكان بمكوّناته وتناقضاته وأبعاده المتشابكة، وحدة تترصّد الأصوات والجسور والوقائع:

"أقفُ ويداي مسبلتانِ

كمن يتهيّأ لالتقاط صورةٍ تذكاريّةٍ

لوحدتهِ اللاّ متناهية..

المكان رماد الآخرين،

بينما الذكرى شيءٌ آخر/

أرواحهم"  (ص: 29).

عماد الدين يقود صوته صوب تخوم الذّات ويفتح  بوعي شقيّ، مساحات إضافية في فيض الكتابة، يكتبها بلحمه ودمه، ويجعل منها نسيجًا متكاملًا، مقرونًا بالخبرة والمعرفة الإنسانية. فالمرايا في انعكاساتها وتساؤلاتها اللاّهثة بالأسرار.. في نسيجها وكشوفاتها، هي بيوت أخرى وصور لألبومات حياتنا، تسكننا ونسكنها:

"المرايا

المرايا..

وحدها بيوت أسرارنا.

المتحطّمة منها

وكذلك الـ ما تزال

أسيرة أدراجنا أو حيطاننا.

المرايا

التي

ألبوم صورنا الغائبة" (ص: 40).

يدرك الشّاعر أنّ للحياة عناوين لا تحصى، وفي تقاطعاتها وفعلها الجماعي، ثمّة انتظارات جمّة.. ثمّة ثنائية الضّوء والظّلام.. الألم والأمل، القسوة والرّوعة.. حتّى إنّ الحياة ذاتها، تمسي صيدًا ثمينًا وعشقًا، قد تزيد من رحابة النّفس واتّساع الأفق وفق شروطها الموضوعية.. وقد تأتي بصفعة هادرة تذهب بكلّ الأحلام والعواطف. يقول عماد في هذه المقاطع:

"باكِرًا في الصباح

  • كمنْ فقد شيئًا ونسيهُ  -

 أستيقظُ..

مثلما عاشق

يقفُ على الناصيةِ/

أرقبُ، بلهفةٍ، الغيمة السائرة

كقارب

وكصيّادٍ عجوزٍ

فقدَ عاداتهِ/

أتدرّبُ على قنصِ الألمِ أو الأملِ

لا فرقَ.. لا فرقَ.." (ص: 50).

يطلّ علينا النصّ الشعري ببصيرة الشّاعر، بالحيرة وبالقلق، وهو يكتشف الأوجه والظّواهر والتوتّرات المختلفة ويبني بعينه السحرية، المتمرّدة المتطلّعة، حلقات من حلم أبعد وأصفى، تبحث عن وجود مغاير وعوالم موازية. وبهذا يكون البحر في جانبه الخفيّ وفي زرقته، مساحة اتصال وتفاعل، يخلق في ذات الشّاعر حافزًا قويًّا وظلًا طليقًا، يتجاوز عبره وحدة الترقّب الطّويل والخريف الذّاهب بوهج الأشجار:

"أيّها البحرُ

من لا يغادر المرافئ

سوفَ يظلُّ..

مؤلمًا كذكرى

ووحيدًا كشجرةٍ

أو

عشّ في الخريف " (ص: 75).

في إيقاع  الذكريات، نتذكّر لنبقى، نتذكّر لنرى جيشان الطّفولة في كلّ مرّة حين تصحبنا وتحيا داخلنا، تعود بنا إلى النّبع والطّهارة والبراءة والصّفاء.. عماد يتوزّع بين أزمنتنا ويحمل شعلة لا تخفت. ففعل الطّفولة فعل ديمومة ومعانيَ وومضات لا تشيخ، يقرأ فيها الشّاعر تلك البوصلة التي يفقدها الكبار، ويحنّ إلى طريقها الأعمق والأرحب مجدّدًا:

"ليسَ لي

أنّ أسير دونَ ظلٍّ

حتى وأنا مُسرنم.

ليس لي

أنّ أقرأ

- ولو آية واحدةً -

من كتاب الغفران.

أيّها الطفلُ/ الباكرُ

يا عشب القلب الناعم أبدًا" (ص: 110).

يظهر أنّ النّصوص الشعريّة لعماد، في تحوّلها وتغيير صِلاتها وتناغمها الدّاخليّ، تستجيب إلى عصرها الإبداعي وإلى الكثير من غنى التّجربة، مخترقة بانسيابيتها مجموع تحوّلات، ومؤكّدة على وعيها بالذّاكرة الجماعية وبمقياس إنسانيّ يحاول أن يخرج من سواد العتبات صوب فاعليّة مستمرّة، طموحة منتصرة للجوهر ومتجاوزة للمتاهات.. وفي أن يكون المرء أو لا يكون. من نص "كسماء أخيرة"، نقرأ:

"أُنظُرْ  كما ينظرُ العاشقُ

وتحسّسْ أثر الندبة

الوحيدة في قلبك.

من لم يحلم/

كمن لم يولد.

يحيا أبدًا

في عتمةِ قبرٍ مهجور" (ص: 124).

كانت وما تزال النصوص الشعرية عند الشّاعر عماد الدين موسى وطيلة سنوات تمتدّ  بخياراتها الجمالية وتحتفظ بنبضها وبوهجها، باعتبار أنّ الشّاعر يرعى الكلمات في براري اللغّة والمعنى، إلى جانب إطلالاته الواسعة والمتميّزة في حقل الإعلام الثقافي.

يحمل ديوان "كسماء أخيرة" من النّضج ومن مقومات التجربة ومن الأدوات التعبيرية ما يؤهّله ليكون مع كواكب مشرقة ضمن مسير شعري مختلف

اقرأ/ي أيضًا: علي سفر.. في فهرسة الأسى السوري

يبقى العمل الشعري الأخير "كسماء أخيرة"، بمؤشّراته الزّمانية والمكانية، بعواطفه واغترابه وخيالاته وبإشاراته العديدة للوطن في تقاطعاته الغامضة... يحمل من النّضج ومن مقومات التجربة ومن الأدوات التعبيرية والمحدّدات الفنيّة الكثير، ما يؤهّله في أن يكون مع كواكب مشرقة وضمن مسير شعري جميل ومختلف، يشتبك فيه الشاعر بمدارات الأسئلة وبالمشترك الإنساني وبرؤاه الخاصة التي تتوسّل بأجنحة التطلّع والتجريب المستمرّين.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"بفمٍ مليءٍ بالبرق" لأمارجي: الشذرة في توهجها

فايز العباس ومجموعته "5 ميغا بيكسل".. الأسى حين يكتب