21-سبتمبر-2016

حارس يصد تسديدة قريبة داخل منطقة الجزاء

التصق لقب "الفن السابع" بالسينما منذ ظهورها للنور كمُكَمِل وجامع للفنون الست الأخرى، العمارة والموسيقى والرسم والنحت والشعر والرقص، إذ اتفق الجميع على أن هذا الاختراع الجديد يجمع في داخله جميع الفنون السابقة ليُكوِّن فنًا جديدًا أبهر البشر منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى الآن لأكثر من قرنٍ من الزمان، فيما كانت كرة القدم قد اتخذت طريقها لقلوب الجماهير قبل ظهور السينما بنصف قرن تقريبًا، ليسيرا معًا جنبًا إلى جنب كأقوى أدوات القوى الناعمة منذ ذلك الحين.

وهناك تشابه كبير بين السينما وكرة القدم، إذ ضمَّت كرة القدم في ثناياها الفنون هي الأخرى، وأضافت عليها عنصر الدراما. فأضحّت كرة القدم جامعةً للفنون جميعًا بما فيها السينما نفسها إن حاولنا تخيل الأمر بقليل من التمعن. الفارق الوحيد أن كرة القدم لا تحتاج لسيناريو وحوار وتحضير لتقديم وجبة الدراما والفنون للجماهير. كرة القدم تفعل كل هذا لحظيًا. على الهواء مباشرة.

فسَمِّها ما شئت. الساحرة المستديرة. معشوقة الجماهير. اللعبة الأكثر شعبية في العالم. لكني سأسمِّيها "الفن الثامن".

هناك تشابه كبير بين السينما وكرة القدم، إذ ضمَّت كرة القدم في ثناياها الفنون هي الأخرى، وأضافت عليها عنصر الدراما. فأضحّت كرة القدم جامعةً للفنون جميعًا بما فيها السينما

(1)
العمارة

يصف الكابتن ميمي الشربيني -لاعب النادي الأهلي السابق والمعلق الكروي الشهير- مهنة التدريب بأنها "مهنة البحث عن الاحتراق". تستطيع أن ترى ذلك ببساطة عندما ترى المدير الفني لأي فريق خلال أحداث المباراة.

يظهر مدرب الفريق حاملًا هموم الدنيا خلال إدارته لأحداث المباراة، ولكن ما تنقله المباراة هو جزء صغير من متاعب مهنته، فقبل وبعد المباراة يكون الوضع أصعب، فعليه أن يقسوا على هذا ويداعب هذا ويقرأ ما يجول في عقل هذا ويدرس الفريق المنافس، وإلى آخره من هذه المهام التي تُتعِب العقل وتؤرقه، لكن أصعب مرحلة يعاني منها المدير الفني هي مرحلة وضع التشكيل المناسب لبداية المباراة، أعتقد أن المديرين الفنيين للفرق يخسرون العديد من السعرات الحرارية خلال هذه اللحظات، فعليه أن يصنع بناءً متكاملًا يفي بالغرض، ثم ينظر إليه من بعيد كأنه يرى الصورة الكاملة لهذا البناء. هل سيصمد ليفوز فريقه أم سينهار وتضيع المباراة؟

اقرأ/ي أيضًا: باريس سان جيرمان في محنة الأبطال

بل يزيد المدير الفني على المعماريين بأنه يُصلح هذا البناء مرات ومرات خلال 90 دقيقة فقط، قد يمر بها بناؤه بهزات أرضية بل وزلازل في بعض الأحيان، وعليه أن يفعل كل هذا في خضم تعديلات عديدة تُوَجَه له ليقوم بها، ليست من شخص واحد أو اثنين، بل من كل جماهير الفريق، هل تتخيل أن يُعَدِل عليك جميع الموظفين في شركتك!

في مقابلة مع حسام حسن -المدير الفني للنادي المصري البورسعيدي وعميد لاعبي العالم الأسبق- خرج الرجل عن المألوف وأبعد نفسه عن كل هذه التعديلات لكي يريح عقله قليلًا، فألقى جملةً لم تُعجِب البعض وفتنت البعض الآخر، "أنا حر، مش هدّي فرصة للفتايين يتكلموا".

(2)
النحت

خطان متوازيان يرتسمان على حشائش الملعب بعد إحراز أحدهم هدفًا، يجري بقوة ثم يرتمي على الأرض بركبتيه راسمًا تلك الخطوط الشاهدة على احتفاله، لينحتا بصمته على الملعب، لكن ثمة خطوطًا أخرى أكثر فنًا من ذلك. الخطوط التي ينحتها المدافعون في محاولة استخلاص الكرة من الخصم.

مهارة استخلاص الكرة هي الأصعب على أرض الميدان، فإما أن تحصل عليها وتنال الاستحسان وإما أن تواجِه عددًا من السيناريوهات السيئة، فمن الممكن أن يمر منك الخصم فَتُهان كرويًا أمام الجمهور، وإما أن تعرقله ويحصل على خطأ من موقعٍ خطير، وقد يكلفك الأمر إنذارًا أو حتى طردًا.

والاستخلاص له طرق عدة، وتأتي أجملها تلك التي يرمي فيها المدافع كامل جسده على الأرض لتتزحلق قدماه وتبعد الكرة. وقد يزيد مدافع آخر على هذه اللمحة بأن يمد قدمه ويستحوذ على الكرة بعد استخلاصها. هل شاهدت الأسطورة "باولو مالديني" يومًا ما؟ إذن أنت تعرف ماذا أقول.

(3)
الرسم

كرة طولية تعبر الملعب لتهبط على قدم المهاجم. تمريرة بينية بين خطوط المنافس تصل بسلام إلى المُقدَر له إحراز الهدف. مثلثات ومربعات ترسمها تمريرات اللاعبين. مرحبًا بكم في فن الرسم داخل أرض الملعب.

دائمًا ما تجد المحللين ينظرون أولًا إلى لاعبي منتصف الملعب، على الرغم من وقوفهم بعيدًا عن المرمى هنا وهناك، إلا أن المتعمق في فنون الكرة يجد الأهمية الأكبر والمتعة القصوى بين أقدام لاعبي المنتصف، فلاعب المنتصف هو من يبني الهجمة ومن يحاول أن يرسمها منذ البداية لتصل جاهزة للمهاجم الذي يتعامل معها.

اقرأ/ي أيضًا: أسوأ 5 لاعبين في يورو 2016

هنا نرى انيستا وألونسو، هنا نشاهد مودريتش، هنا يُعجِبُنا سكولز، هنا يمر جيرارد ولامبارد وأوزيل، هنا يقف بيرلو وجارنشيا وسقراط، هنا يدهشنا نيدفيد ودافيدز وريكلمي. هنا يُمتعنا أبو تريكة وحازم إمام. هنا يسطو زيدان على فريقٍ بأكمله لينتزع كل الألقاب. الرسام والمايسترو والأسطورة.

منطقة المنتصف هي موضع المهارة والفن في كرة القدم، إن كنت مهاجمًا فتستغل أنصاف الفرق للتهديف، وإن كنت مدافعًا فعليك ألا تخطأ لكي لا تحمل فريقك هدفًا، كل هذا يبعد اللاعبين عن المهارة -في الغالب- في سبيل مصلحة الفريق، لذا فنجدهم يحاولون إشباع رغبتهم في المهارة عندما يتقدمون أو يتراجعون لمنطقة المنتصف. هل شاهدت محمود الخطيب في آخر مباراة له؟ حسنًا، الخطيب قضى معظم الوقت في منتصف الملعب وليس أمام المرمى كعادته، فاستحق جملة المعلق ميمي الشربيني التي لخص فيها فن الرسم لدى الخطيب. ". تابلوه جميل من تابلوهات الخطيب".

(4)
الرقص

لا عجب أن يسميها المصريون "مهارة الترقيص"، فتلك الكلمة المشتقة من كلمة الرقص تعبر عن المعنى بدقة، أنت ترى لاعبًا يمر من الآخر مستخدمًا حيلة عجيبة تجعل الاثنين يظهران بمظهر الراقصين.

كرة تَعبُر من أعلى رأس اللاعب وأخرى بين قدميه وثالثة بجانب قدمه الثابتة ورابعة تعبره بسرعتها برفقة جسد الخصم وخامسة يراها بين قدمي الخصم يتلاعب بها ولا يقدر على اختطافها. يقف أمام هذا لا حول له ولا قوة بسبب لاعب آخر منحه الله مهارة أعلى من غيره فعاث فسادًا في الملعب يهين هذا ويتلاعب بذاك. والجمهور لا يهدئ من روع الأخير في هذه الحالة بل يزيد الطين بلة ويشجعه على ما يفعله بالكرة ليريهم المزيد والمزيد من هذه المراوغات. حتى كلمة "المراوغة" تُعبِّر عن خبث اللاعب وسعيه في الملعب دون ضابط ولا رابط.

البرازيل "أرض الترقيص". يولد الطفل ليرقص السامبا وليتراقص بالكرة، لذلك فلا أحد يكره منتخب البرازيل حتى وإن كنت تشجع منتخبًا آخرًا، ولهذا أيضًا يحزن الجميع لما آل إليه هذه الأيام من تدني في المستوى والبطولات واللاعبين.

منذ بداية معرفة العالم بمنتخب البرازيل وهو يبهرنا بالراقصين. بداية من بيليه وزيكو وجارنشيا ومرورًا بكلٍ من روماريو وبيبيتو ورونالدو وريفالدو ورونالدينيو وروبينيو وكارلوس وكاكا، ووصولًا إلى آخر العنقود نيمار.

هل رأيت "دينلسون" في كأس العالم 2002. هل تعي ماذا قال له المدرب سكولاري قبل نزوله أرض الملعب أمام تركيا؟ هل تخيلت مهارة اللاعب الطاغية التي دفعت مدربًا لأن يدفع به ليستخدمها للحفاظ على الكرة والنتيجة بدلًا من اللجوء للدفاع كأغلب المدربين. هذا هو دينلسون الذي سحب وراءه أربعة لاعبين كي يستخلصوا الكرة دون جدوى.

"الترقيص" بالكرة جلب الرقص ذاته داخل الملعب. فالاحتفال بالأهداف يكون أجمل مع الرقص. روجيه ميلا بقي في الأذهان برقصته الشهيرة. المشجعون يوقفون ستوريدج لاعب ليفربول ليرقصوا معه رقصته المعروف بها. رونالدينو يرقص بالكرة على أنغام فرقته التي تعزف السامبا. بوبا ديوب جمع فريق السنغال ليرقصوا حول قميصه عقب إحرازه هدف الفوز على فرنسا بطل العالم آنذاك في مباراة كأس العالم 2002 الافتتاحية. عمومًا الأفارقة هم الأفضل في القرص بعد الأهداف.

(5)
الشِعر

بعد أن كانت مهمة المُعلِّق الكروي هي وصف ما يحدث على أرض الملعب والتعريف باللاعبين وبسير الأحداث، أصبح كتابة السطور ذات الوزن والقافية هي إحدى مهامه لكي يستخدمها خلال سير المباراة، فسعادة المعلق بمراوغة أو بهدف تكون كبيرة لينطلق في عرض ما صنعه.

البرازيل "أرض الترقيص". يولد الطفل ليرقص السامبا وليتراقص بالكرة، لذلك فلا أحد يكره منتخب البرازيل حتى وإن كنت تشجع منتخبًا آخر

اقرأ/ي أيضًا: محكمة مصرية تمنح أبوتريكة انتصارًا جديدًا

لكن الأمر يكون ممتعًا حقًا عندما تخرج هذه الأشعار دون قصد، عندما يفاجئك لاعب بمهارة لا تصدق، عندما يأتي هدف من رحم المعاناة، عندما تستمتع إلى حد الجنون بأسطورة حية على أرض الملعب تعرف أن وقت اعتزاله قد حان، هنا فقط تستمع لما يخرج من أفواه المعلقين.

التعليق مهارة هو الآخر، قد يستخدمها المُعلِّق جيدًا وقد يتحول إلى آلة تصيب المشاهد بالصداع والملل، لكن الأفضل بالطبع من يحفظ بداخله رصيدًا من التعبيرات المعبرة دون تكلف أو مزايدة ليستخدمها وقت الحاجة بدلًا من إلقاء الكلمات دون طائل.

"الله يا أبو تريكة، كم وددت وكم تمنيت وكم حلمت أن أعلق على مباراة يتواجد فيها اسمك، فليشهد التاريخ أني الآن أصبحت مُعلِّقًا، نعم أصبحت مُعلِّقًا الآن بعدك يا أبو تريكة، الآن أكتب في مولدي الآن أطلق ثورتي الآن أحكي قصتي في حبك يا أبو تريكة. بالمصري كده والله بحبك".

(6)
الموسيقى

قبل مباراة مصر والجزائر في القاهرة عام 2009 -إحدى أعظم مباريات المنتخب المصري عبر تاريخه- وقف الجمهور في أرض الملعب يغني النشيد الوطني مع اللاعبين.
لم يكن هذا غريبًا بل الغريب حقًا أن المشجعين غنوا النشيد على المقاهي وفي الطرقات وفي البيوت.

الموسيقى تحرك أي إنسان، فما بالك لو كان لاعب كرة قدم ينتظر الدعم والتشجيع! إنها الخيار الأمثل للمشجعين لتحفيز فريقهم، إذ تفنن المشجعون عبر التاريخ في استخدام الهتافات والأغاني في المباريات من أجل الفوز، لاسيما مجموعات الألتراس التي اتخذت من الأغاني نهجًا لا تتخلى عنه. فريق مانشستر يونايتد الإنجليزي يحفز لاعبيه بموسيقى أسطورية تنتمي لبداية سلسلة أفلام "روكي" الشهيرة، بعنوان " Fanfare For Rocky"، هذه الموسيقى التي تُلعَب في أرضية الملعب خلال دخول لاعبي الفريق إلى الميدان.

وبالطبع أغنية "لن تسير لوحدك أبدًا" لجماهير ليفربول الإنجليزي

هذا بخلاف الأدوات الموسيقية التي يستخدمها المشجعون في كل ملعب، فأدوات مثل الطبول هي أساسية في كل البلاد، إلى جانب ظهور الآلات التي تشتهر بها كل بلد -أو حتى كل مدينة- في مدرجاتها، والمثال الأشهر على ذلك ظهور آلة "الفوفوزيلا" بغزارة في مدرجات كأس العالم 2010 في جنوب أفريقيا لتمثل ثقافة البلد، على الرغم من انزعاج البعض منها.

اقرأ/ي أيضًا: لم كان بورخيس يكره كرة القدم؟

هذا كله في كفة، وهتاف الجماهير في كفةٍ أخرى، فالهتاف هو أهم شيء في كرة القدم. قولًا واحدًا دون تبرير أو شرح للأسباب. فكل عاشق لكرة القدم يعلم جيدًا شعوره وهو يهتف في المدرجات لكي يفوز فريقه. شاهد جمهور النادي الأهلي وهو يهتف "من التالتة شمال بنهز جبال وبأعلى صوت دايمًا بنشجع الأبطال" ويصر على تكرارها حين احتاج فريقه هدفًا لكي لا يخرج من البطولة الأفريقية. الهتاف استمر والدقائق مرت والنهاية اقتربت. والهدف سُجِلَ.

(7)
الدراما

نستطيع أن نؤلف كتبًا في دراما كرة القدم، نحكي قصصًا عن الحب والكره والانتقام والتعاطف والقسوة والشهرة داخل ملاعب كرة القدم، فِرَق يعلو نجمها قبل أن تهبط إلى الحضيض، فِرَق تفوز في اللحظات الأخيرة، فِرَق جاءت من اللامكان لتصدم الدنيا، إصابات خطيرة قد لا تتحمل رؤيتها، تغير في الأحداث كل ثانية، مشاجرات ومشاحنات. وحتى القتل تشاهده داخل الملعب. فهل ترى لعبة تحمل كل هذا الكم من المشاعر؟

لاعب يقف في مباراة اعتزاله لا يقوى على الحديث من هول الصدمة. صراع بين نجمّين على الأفضل في جيلهما بل والأفضل في التاريخ. طفل يبكي في المدرجات. رجل يُقبِّل صديقته أمام الكاميرات. صرخات تتأذى لها الحناجر وهتافات تهز أركان الملعب. جماهير تصفق للخصم قبل فريقها.

كل المفارقات تجدها، كل المشاعر تحسها، كل الأعمار تقف لتشجع، كل التوجهات والآراء تضع ناظريها على المستطيل الأخضر، الجميع يتحدث عن كرة القدم حتى من لا يحبها. لهذا استحقت كرة القدم لقب "الفن الثامن". بل وتزيد عن كونها فنًا.
كرة القدم حياة.

اقرأ/ي أيضًا:

 سوق المراهنات الرياضية حول العالم في 2015

جنة كرة القدم تودع نجومها