27-أبريل-2023
فيكتور بوغوراد

كاريكاتير لـ فيكتور بوغوراد/ روسيا

حسبته رومانيًّا فقال لي بغضبٍ إنه مولدوفيّ، ثم أضاف بألمانية الأجانب المكسّرة: "رومانيا رؤوسهم مُحطَّمة".

أضحكتني شعرية العبارة غير المقصودة مع أنه أراد أن يشتم لا أن يستشعر، عبر الإشارة إلى الغباء، أو العناد ربما، لأن الرؤوس لا تُشتم عادةً بغير هذه.

‏راجعتُ الخريطة في رأسي وتذكرتُ أن رومانيا ومولدوفا جارتان، وبينهما مشتركات كثيرة، لهذا بدا لي ما قاله الرجل العابر سطرًا من كتاب عملاق يساهم في تأليفه جميع البشر هو كتاب: كراهية الجيران!

‏على مستوى الدول لدينا عداوات عميقة بين سوريا ولبنان، مصر والسودان، الجزائر والمغرب، ألمانيا وفرنسا، الولايات المتحدة والمكسيك.. بعض هذه العلاقات استدعت حدوث حروب أو عمليات عسكرية، لا تزال آثارها النفسية تتحكم برؤية الشعبين لبعضهما بعضًا.

تنتج كراهية الجيران، على المستوى الدول، عن عوامل متنوعة مثل المظالم التاريخية، والنزاعات الإقليمية، والاختلافات الثقافية، والأيديولوجيات السياسية

‏هل كراهية الجيران موضوعة خالدة مثل الإخوة الأعداء والابن الضال؟ أم أنها نتيجة حتمية لما تفرضه الحياة المشتركة من ضرورة النجاة، كحال الأشجار حين تتصارع لأجل الضوء؟

بعبارة أخرى؛ أهي حكاية من الماضي تجد أصداء في الحاضر؟ أم أنها صراع حياة لا يحل دون توسع أحدهما على حساب الآخر؟

يمكن أن نضرب الحرب العالمية الأولى كمثال على ذلك، والفيلم المبهر "كل شيء هادئ على الجبهة الغربية"، الذي صدر مؤخرًا عن رواية الكاتب الألماني إريش ماريا ريمارك، يعاود فتح الموضوع ليرينا أنَّ الآلاف المؤلفة من الشباب الألمان ماتوا من أجل تحقيق قيادتهم انتصارًا تافهًا، يقوم على التقدم عدة أمتار لن تشكّل فرقًا في خريطة البلد.

‏وعلى سيرة الحدود والحرب، ثمة مناطق كثيرة فيها أقليات من الألمان في الدول المجاورة، تعود إلى الزمن الإمبراطوري، لكنها في الوقت نفسه تُخبرنا أن الخريطة متغيرة، وما كان بالأمس لنا صار اليوم ملكًا للجيران. من هذه العجائب التاريخية أن الفيلسوف الألماني كانط عاش ومات في مدينة روسية تسمّى اليوم كالينينغراد، وتقع في أرضٍ حبيسة.

‏هذا الأمر ينطبق بحذافيره على دول مثل الهند وباكستان التي انقسمت على خلفية دينية عنيفة، وينطبق على روسيا وأوكرانيا، والصين وتايوان أيضًا.

تنتج كراهية الجيران، على المستوى الدول، عن عوامل متنوعة مثل المظالم التاريخية، والنزاعات الإقليمية، والاختلافات الثقافية، والأيديولوجيات السياسية. تتمسك الدول بتلك الكراهية لأنها تشعر أنها تعرضت لاضطهاد في الماضي، وتسعى للانتقام أو العدالة، وهذا يخلق دائرة من العنف والانتقام يصعب كسرها. نستثني القضية الفلسطينية من هذه الحالة شبه العامة لأنها قصة استعمار استيطاني، مهما حاولت وسائل الإعلام، الغربية على وجه الخصوص، أن تجعلها تبدو صراعًا بين جارين.

‏هذا عن الدول، لكن ماذا عن الأفراد؟ أليست حياة المزارعين مليئة بالصراع على حدود الأرض؟ ألم تقم حروب عائلية بسبب تجاوز جار على أرض جاره؟

‏ثم ماذا، وهو الأهم، عن الجيران الذين يسكنون بالقرب منا، سواء عشنا في بيوت مستقلة أو في الشقق المتلاصقة، أليس كل منهما أشبه بالقدر بالنسبة للآخر؟ ومثلما يحدث في الحياة حين ترمينا دون مشورةٍ منا بين أهل لم نخترهم، ترمينا أيضًا، وإن بطريقة أخف، بين جيران لم نخترهم وحسب، بل وتكون لجيرتهم آثار حاسمة في حياتنا. وإذا كانت الأمثال تقول "الجار قبل الدار"، فهي تعني أنهم أهل وعائلة بطريقة مضمرة. وهذا امتداد لتكويننا القبليّ والريفيّ العميق، لكنه يبدو عديم الأهمية في زمن الحداثة، ففي وسعنا أن نعيش في بناء سكنيّ لسنين ولا نعرف عن جيراننا أكثر من الصوت، الذي يأتي من تلفاز عالٍ لمشاكل عندهم في السمع، أو من مشاجرات تخبرنا عن تدهور السلم في المنزل المجاور، أو من سعال وأنين يُجبر ألم الجار على مشاركتنا غرفة معيشتنا.

تظل مشكلة الجيران مستحيلة الحل على صعيد الدول، فليس في متناول المكسيك أن تهرب من جيرة الولايات المتحدة الأمريكية لتنزل بجوار مصر مثلًا!

‏إلا أن المباني الأكثر حداثة تمحو حتى أثر الصوت، أو شكل التواصل الأخير، بسبب جودة العزل، فنحيا في بيوت متلاصقةٍ بعيدينَ في الوقت نفسه.

ومن السخرية أنه بينما يمكن للأفراد أن يتخلصوا من جيرانهم بالانتقال إلى سكن جديد، فإن مشكلة الجيران تظل مستحيلة الحل على صعيد الدول، فليس في متناول المكسيك أن تهرب من جيرة الولايات المتحدة لتنزل بجوار مصر، ولا يمكن لرومانيا مغادرة مكانها كي يرتاح صاحبنا المولدوفي من "رؤوسهم المحطمة".

خلاص الأفراد ليس سهلًا دائمًا، فبينما يهرب سكّان المدن من جيرانهم بتغيير المبنى أو الحي، تتأزم المسألة عند أهل الريف والبلدات الصغيرة بسبب تداخل المكان مع المصير، فالبيوت قائمة على تاريخ عائلي يجعل من تبديلها، في بعض الحالات، من المحرمات.

في كثير من الحكايات الشعبية، يعثر شخص على كنز أو أداةٍ سحرية، فيتدخل الجيران الفضوليون ويسبّبون فضيحة سرعان ما تتحول إلى معضلة على بطل الحكاية أن يحلها.

هل أراد الجيران في تلك الحكايات رؤية ما عثر عليه جارهم فقط، أم تمنوا الاستيلاء عليه؟ أم أنهم رغبوا أن يفقده ويعود عاديًّا مثلهم دون ذلك الامتياز؟ هل يأتي الأذى من النميمة والحسد والتعدي على الخصوصية؟ أم من تجاوز مستوى الرغبة العميقة في تجريده مما يشكّل تميزًا له إلى العمل على ذلك؟

الحكايات رمزية واستعارية. الحكايات تبالغ. إلا أن المبالغة طريقة تعكس المشاعر الإنسانية المظلمة والعلاقات الاجتماعية المعقدة عبر التاريخ.

لهذا من يعرفون أجوبة للأسئلة السابقة يعرفون سرّ الكراهية بين الجيران.