18-مايو-2018

اشتهرت بيروت قديمًا بمقاهيها ذائعة الصيت (Janoubia)

تبرز بيروت كمدينة ذات طبيعة متغيرة وسريعة، ومع فقدانها للمساحات العامة إلى درجة انعدامها، لا يمكنك إلا أن تلجأ إلى المقاهي المغلقة التي يغلب عليها طابع معولم ينسيك أنك في مدينة عربية، العثور فيها على حانة أو مطعم يضع موسيقى عربية أو يقدم الطعام العربي، أمر في غاية الصعوبة.

إذا صادفت شخصًا ممن عاصروا "الحقبة الذهبية" لبيروت، فعلى الأرجح أنه سيحدثك عن ذكرياته في شارع الحمرا ومقاهي شارع الحمرا

يدفعك ذلك إلى الحنين لحقبة ربما لم تعشها، حقبة ما قبل الحرب الأهلية التي كانت بمثابة نقطة تحول في تاريخ لبنان، تغيرت بعدها أساليب الحياة إلى أن طال الأمر المقاهي والمطاعم.

اقرأ/ي أيضًا: إخلاء أبنية بيروت القديمة.. من يطمس هوية المدينة؟

هذه النوستالجيا تدفع للبحث عن أسماء المقاهي التي اشتهرت بها تلك الحقبة، مثل الويمبي ومودكا والستراند والإكسبرس ومقهى النصر وسيموندس والهورس شو.

إذا ما صادفت شخصًا ممن عاصروا "الحقبة الذهبية" لبيروت، فعلى الأرجح أنه سيحدثك عن ذكرياته في شارع الحمرا وعن مقهى الهورس شو تحديدًا، الذي أطفأ أنواره لآخر مرة في منتصف الثمانينات الماضية.

واُفتتح "الهورس شو" كأول مقهى رصيف، قبل أن يتحول لملتقى للعديد من المثقفين اللبنانيين والعرب. وربما لن تكون مبالغةً إذا قيل إن المقهى الذي جلس عليه مرارًا محمد الماغوط ومحمود درويش ونزار قباني وأنسي الحاج، وغيرهم، هو الأشهر في المنطقة العربية خلال تلك الفترة. 

الآن، حلّ مكان الهورس شو، مقهى "كوستا"، وهو علامة تجارية عالمية. يحاول الآن استنساخ جمال الطابع الثقافي لمقاهي بيروت السبعينيات، لكن يظل للماضي دائمًا رونقه الخاص.

المستفيد الوحيد من إغلاق مقهى الهورس شو، كان مقهى الإكسبريس الذي ظهر في أوائل السبعينيات. وفي بدايته كان مجرد مطعم هادئ ومنزوٍ عن الضجيج، يحتل مساحة واسعة فوق سينما أتوال، إلى أن أُغلق الهورس شو، ليتحول رواده إلى الإكسبريس. ومنذ ذلك الحين، بات للمقهى شأن ثقافي، وراح يرتاده كتاب ومثقفون وصحفيون أمثال كسروان لبكي وموريس صقر وغيرهما.

من أشهر مقاهي بيروت القديمة، مقهى ويمبي الذي شهد شرارة جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، أي عملية الشهيد خالد علوان ضد جنود الاحتلال الإسرائيلي في 1982

وعلى بعد أمتار من شارع الحمرا، في شارع بَلس، كان هناك مطعم الفيصل، الذي أنشئ أوائل الأربعينيات، مقابل مدخل الجامعة الأمريكية الرئيسي. كان المطعم مقرًا رئيسيًا لطلاب وأساتذة الجامعة، ومن بينهم مؤسس حركة القوميين العرب، ومن ثم  الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، جورج حبش

اقرأ/ي أيضًا: الجفاء بين الكاميرا وبيروت القديمة 

لقد كان مطعم ومقهى الفيصل مشهورًا لدرجة أنه كان يُستدل على الجامعة الأمريكية بالفيصل وليس العكس! وأُغلق الفيصل في أواخر الثمانينات، تاركًا وراءه العديد من الأحاديث والذكريات.

هناك أيضًا مقهى الويمبي، الذي عندما تتذكره لابد وأن تتذكر عملية الويمبي، التي وقعت في الـ24 من أيلول/سبتمبر 1982، ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي، ونفذها الشهيد خالد علوان، بأن أفرغ رصاصات سلاحه في جنود الاحتلال الإسرائيليـ مؤذنًا بذلك بإنطلاق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، جمول.

ويستذكر مثقفو بيروت مقهى "الفتوح" حين كان يجلس الشاعر الملقب بـ"الأخطل الصغير"، بشارة الخوري، محاطًا بالأدباء والشعراء، مستمعًا إلى أغاني عبد الوهاب. وفيها نظَّم الشاعر محمد كامل شعيب العاملي، في ليلة واحدة، 143 بيتًا في محاسن الخيار المكبوس (المخلل)!

وفي منطقة الروشة، وهي رأس المد البحري لمدينة بيروت، ازدهرت مقاه أخرى كثيرة منها مقهى الدبلومات الذي ظهر في سنة 1959 وأغلق في سنة 1975، ومقهى ماي فير وكافيه دو لابي.

أما في منطقة الجامعة العربية، فقد اشتهرت عدة مقاهٍ على نطاق عربي، فلسطيني تحديدًا. كانت هذه المقاهي بمثابة ملجأ للمثقفين العرب الذين عاشوا في ظلال الثورة الفلسطينية. وفي هذه المنطقة بين جسر الكولا والدنا، أنشأ عدد من الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين والعراقيين والأردنيين والمصريين والتونسيين، مقرًا للثقافة والعيش المتمرد.

واشتهرت في تلك المنطقة ستة مقاهٍ، هي: توليدو وأبو علي وأم نبيل وأبو فراس والزاوية والشموع. لم يبقَ منها إلا توليدو، الذي تحول إلى مطعم يقدم الوجبات السريعة، ومقهى أبو علي الذي أصبح مطعم لبيع الساندوتشات أيضًا، أما الزواية فتحول إلى مطعم لبيع الفلافل.

في النهاية، ثمة أسباب عديدة  ومتباينة لإغلاق هذه المقاهي، أو تبدّل نشاطها. لا تتوقف عند الحرب  فقط ولا تصدع الجدران أو قباحة الديكور، فالتغيير في مثل هذه الحالات يُصبح مطلبًا. بل هي روح المدينة ذاتها وروادها من تغير أكثر.

بعض المقاهي في بيروت القديمة، اشتهرت لدرجة أن المناطق التي تواجدت فيها كان يُستدل عليها بهذه المقاهي

أما رواد المقاهي فبعد أن كانوا يتحدثون في السياسة والاقتصاد والفن والأدب، تغيّروا، فلم يعودوا يتحدثون، واحتل مكان الحديث ذبذبات إلكترونية، تجعل من كل كرسي في المقهى عالمًا خاصًا بصاحبه يلهيه عمّن حوله ومعه. وكما قال أحد أبرز رواد مقاهي بيروت القديمة، محمود درويش: "وإن أعادوا لك المقاهي القديمة، فمن يعيد لك الرفاق؟".

 

اقرأ/ي أيضًا: 

مباني بيروت التراثية.. ذاكرة للنسيان!

صراع البقاء في بيروت الأنانية