29-يناير-2021

لوحة لـ همام السيد/ سوريا

أعلم أنه لا فائدة من الكتابة، لست غبيًا حتى أظنّ أنك ستقرأ؛ لكنني أواصل الكتابة لأنني أؤمن أن هذا الفعل عديم القيمة، شأنه كشأن سائر الأفعال اليومية التي أقوم بها ولا تترك أثرًا. أخاطبك أحيانًا، لأنني لم أتمكن بعد من امتلاك لغة لا تحمل وجهة. وإذا وصلتك كلماتي صدفةً، لا ترهق عقلك بالبحث عن تفسيرٍ يمنطقها. اقرأها كما تقرأ الجرائد اليومية، بذات البرود، وتجاهلني كما تتجاهل الأرقام الهائلة التي تشير لأعداد ضحايا الحروب والمجازر والأوبئة. أما إذا كنت واحدًا من أولئك الأشخاص الذين لم يفقدوا بعد قدرتهم على التعاطف، فانصحك بقلب الصفحة.   

رغمًا عني أحاول أن أغريك لإكمال القراءة، فأفكر بالأشياء التي قد تربط بيننا وأميل إلى التصديق بأنه لا يجمعنا اليوم سوى حلم واحد؛ أقصد كابوس العودة إلى البيت، الوطن أو السجن، سمّه ما شئت. إننا بالكاد نحلم بأشياءٍ أخرى.

حلمتُ يومًا أنني أعيش في مدينة لا أتقن لغة أهلها، الجميع فيها يرتدون الأقنعة. كرهت حلمي عندما تحقق. أتمنى لو أنني كنت أكثر تقبلًا للهزائم، لو أنني كنت شخصًا لا يعرف كيف يحلم.

أنا من بلدٍ يربون الأطفال فيه على كبت الأحلام والرغبات، يعلموننا مع الحروف والأرقام كيف نلجم المشاعر ونختزل أهدافنا بشعارات جوفاء نرددها بصوتٍ عالٍ أشبه بصرخات كلبٍ لاهث، أمضى عمره راكضًا ليحظى برضا صورة القائد المعلقة على كل جدارٍ في الشارع. في بلدي روّضونا لنتقن رقصات الطاعة الأكروباتية، لا نفتح أرجلنا إلا بعد سماع إشعار "استارح"، ولا ننزل أيدينا إلا بعد سماع إشعار "آسبل"، أجبرونا على ارتداء ثياب بلون جدران المدارس لنتماهى مع كتلة البؤس التي نعوم فيها، واستخدمونا ليُروّضوا آباءنا على أكروبات الركض وراء لقمة العيش. كنت أخاف أن أكبر هناك، وأخاف من حركات الأكروبات التي يمارسها الكبار. لا أعرف كيف تمردت وخرجت عن الجوقة بعد أن أمضيت طفولتي ملتزمًا بالقواعد، ولا أذكر كيف بدأ صوتي ينسل خارج بوتقة الصوت الواحد. لا أعرف كيف امتلكت موهبة الحلم.

حلمت يومًا أنني أسير في شوارع غريبة ألوانها زاهية، حيطانها لا تمتلك آذانًا، وسكانها لا يسيرون في صفٍ واحد. أتمنى لو أنني كنت أكثر تقبلًا للواقع، لو أنني أفقد قدرتي على الحلم.

لا منطق يحكمني. أطوف في المكان، أرقص وحيدًا مع كل أغنية تلتقطها آذاني صدفةً ونظرات الاستهجان تحاصرني. أكره أن يشاهد الناس أنفي المكسور وأكره أن يغطي القناع أنفي المكسور. لست راضيًا عن شكلي، لكنني أقاوم الاختفاء. أرغب باستنشاق الهواء. أي بؤسٍ وصلت إليه حتى صرت أحلم بذلك! أتوسل القمر ليلًا أن يُسرّع الجزر والمد، وفي النهار أسخر من غرائزي التي دفعتني للبحث عن قوة عظمة جديدة أناجيها. أنا لست مختلفًا عن شركائي في الجوقة. طموحاتي العالية تحطمت عند سقف غرفتي.

كتبت كثيرًا اليوم.. آسبل.

 

اقرأ/ي أيضًا:

يوميّات امرأة شتائيّة

ما من أحد ناداهُ