27-مارس-2023
نوادر الملا نصر الدين الصغرى

كتاب نوادر الملا نصر الدين الصغرى

في ذكرى رحيله العاشرة أصدرت دار النهضة العربيّة في بيروت، مؤلّفًا جديدًا للشّاعر والمسرحي اللبناني الرّاحل سحبان أحمد مروّة بعنوان "نوادر الملا نصر الدين الصغرى".

يأتي الكتاب في 295 صفحة من القطع الوسط، وهو عبارة عن متتاليات قصص قصيرة جدًّا من بطولة الملّا نصر الدّين خوجا، جحا، صاغها مروّة بألمعيّة عزّ نظيرُها. تجسّد المتتاليات بيانًا إنسانيًا رفيعًا ضدّ الظلم والاستبداد والغباء والجهل والتخلّف والتعصّب الأعمى.

سحبان أحمد مروّة، شاعر ومخرج سينمائي ومترجم لبناني، مواليد بلدة جنوب لبنان عام 1954. درس الإخراج السّينمائي في فنلندا، وعمل في الصّحافة الثقافيّة طيلة حياته. كتب الشّعر، واعتمد في أدبه على تأصيل الغريب كما أنّه عمل على تحديث النّصوص ذات الجذور التراثيّة ومزج بين المعاصرة والتّراث.

يُضاف إلى ذلك عمله فقد عمل في الترجمة ونقل إلى العربيّة مؤّلفات عدّة عن الفنلنديّة كان أبرزها ملحمة "كاليفالا".

إنّني على علمٍ ويقينٍ بأنَّ الملّا رجلٌ لا ينطق عن هوىً، وأنّه يصيب المحزّ في كلِّ قولٍ وفعلٍ، ولكنّني وأنا ابن آدم مبتلىً بالرجاء والأمل فلعلّ وعسى

من إصداراته: "وصف ماريّا"، "حكايات لا محلّ لها من الإعراب"، "رسائل ابن عربي.. شرح ترجمان الأشواق"، "دفتر الوجع"، "سمر الإخوان"، "قدّاس جنائزي لرشا محمود الحاج"، السّديم والهشيم"، وغيرها.

نقرأ في مقدّمة الكتاب التي كتبها الرّاحل: "أمّا بعد، فيقول أبو جعفر، عبد الله بن أحمد الكتبي: رافقت الملّا نصر الدين، برهةً طويلةً، في حِلّه وترحاله، وكان ينظر إليّ منكبًّا على طوامير لي، أدوّن فيها ما سمعته منه وعنه، فيهزّ رأسه مشفقًا، ويقول لي: "الحرف حقّةٌ تختزن الهواء. وهذا الذي تدوّن إنَّما هو ريحٌ أو هراءٌ"، فأجبته: "إنّ من حقّ الآتين بعدنا، علينا، أن ندوّن لهم أخباره وأقواله، ففيها عبرٌ لمن أراد الاعتبار، وفيها هدىً لمن أراد الهداية، وفيها تفكهةٌ، لمن أراد الترويح عن نفسه والتأسّي". فأجابني قائلًا: "لو كان ما تقول صحيحًا، لما اختلفت الملائكة إلى هذه الأرض، ولا تجشّم رجلٌ عناء الصعود إلى المئذنة خمسًا في اليوم، ولا سمعت جرسًا يقرع من على منارة كنيسةٍ، بل لما رأيت أحدًا يُقتَل في سبيل الله، بيد قاتلٍ يَقْتلُ في سبيل الله أيضًا، ولكان الإنسان على أحسن هيئةٍ وأكمل مثالٍ؛ حيوانًا يسعى على ثنتين؛ يأكل كفايته، وينزو ليحفظ النسلّ، ولا يعدو على حيوانٍ فيقتله، ليبيع حيوانًا آخر، شيئًا من التوابل والأبازير، ولا يملك من الأرض إلّا ما وطئته أقدامه أو ما ارتاح له جنبه حتى يقوم، ولا اشتغل ترجمانًا للحضرة التي لا تُرى، ولأنفق الوقت المتاح له، على أحسن وأروح وجهٍ..".  

إنّني على علمٍ ويقينٍ بأنَّ الملّا رجلٌ لا ينطق عن هوىً، وأنّه يصيب المحزّ في كلِّ قولٍ وفعلٍ، ولكنّني وأنا ابن آدم مبتلىً بالرجاء والأمل فلعلّ وعسى.

قيل الكثير في نسب الملّا ومولده ومسقط رأسه، واختلفت الآراء في ذلك، ولكنّني أتجاوز ذلك كلَّه، ولا آبه به ولا له، بل أقول إنَّ الملّا كالمزنة نعمةٌ من السماء، لا تحدّ بمكانٍ ولا زمانٍ، ولكنّ لكلٍّ الحقّ في الادّعاء بأنَّها رسالة رحمةٍ من الخالق له.

رحم الله مولاي الملّا، فلقد عرفَنا، فهل سنعرفه؟!


من الكتاب

 

قال الملّا نصر الدين:

"كالأقحوانة اِخرس! مثلها ابحث عن الله، مبتسمًا بكلّ جوارحك! ومثله اختف، بارزًا، في أرجٍ، في لونٍ، في نسمةٍ، وفي قطرة ماءٍ يضحك في وجهها الضوء، وفي سماءٍ تنحني فوق أرضٍ تقلّك، كحبيبٍ يبثّك سرّه!".

*

 

 

"إلامَ يحتاج ديننا الحنيف يا جناب الملّا؟"، سأل شيخٌ من أسدآباد الملّا نصر الدين.

"إلى كثيرٍ من الصمت يا أخي، وإلى القليل القليل من شيوخ يتجشّؤون ألفاظًا هي في أصل تكوّنها ريحٌ أخطأ المهبّ!"، أجابه الملّا.

*

 

لاحظ تيمور الأعرج وكان في مجلسٍ ضمّ إليه القوّاد والوزراء، أنَّ الملّا وكان هناك، ينقّل البصر، فاغرًا فمه، بين السّادة والقادة. فسأله السلطان: "ما بك يا ملّا؟ ومن أعجبك من قوّادي ووزرائي؟"، فقال الملّا مجيبًا:

"إنَّ البقر تشابه علينا يا مولاي!".

*

 

جلس الملّا نصر الدين على حافّة غديرٍ في ضيعته وراح يغنّي:

 

رفقًا بي أي معشوقي الحسن

مقلتاك فراشتان بين يديّ الربيع

ووجهك صباحٌ يجري بي ولا مستقرّ

أنت كلّ يومٍ في شأنٍ

حبيبك يا حبيبي كلّه ندوبٌ كالتاريخ

فارفق بشفتين رسمتا لكرامة حبّك

اِرفق بأنامل تصهل شوقًا وهي ترسم هواك

اِرفق بأحلامي التي شاخت وأنت تصغر وتصغر وتصغر

تحتال على الزمان

لا تمنّ على الغبار والذباب بنبيذ فؤادي

لا تنبذ عشقك يا هواي

لا تهجر سلامي يا خيمة أنسي

لا تتركني كوبًا غير فارغٍ وغير ملآن مهجورًا على طاولة العمر

اِفرغ لراحتي فيجري فؤادي في مضمار عشقك

مع وجهك الصبوح

من أولّ ابتسامتك

إلى نعيم أن أحلم ولو لم أر

 

اِرحمني يا عنقود صبابتي وفرّ بي

إلى حيث تطبق عليّ شفتاك

مثل موج البحر يا هواي

يا حبيبي

يا عمري الذي يجري.

*

 

رأيت الملّا ذات يومٍ يحدّق ممعنًا في المرآة، فتظرّفت وسألته:

"ماذا ترى يا جناب الملّا؟!".

"إنني أرى ما لا أراه!"، أجابني دون أن يحوّل بصره صوبي.

*

 

"قل لي يا ملّا! إن لم تكن مسلمًا فأيّ الديانات تعتنق وتكون ماذا؟"، سأل رجلٌ الملّا، فأجابه:

"أكون مسلمًا!".

"ولكنّك مسلمٌ الآن؟!".

"لا لست مسلمًا بل مستسلمٌ، وشتّان يا هذا!".

*

 

حدّثني الملّا نصر الدين فقال:

"النار، يا أبا جعفر، أنا لا أخافها ولا ترهبني! فلربما آنسني حسيسها، وضبط وجيب قلبي نور ضرامها، فضلًا عن الإحساس أنّني لست وحدي المبتلى والممتحن. على أنّ ما يخيفني ويرعبني حقًا هو السقوط المؤبّد في هاويةٍ خاويةٍ داجية العتمة إلى غير مستقرٍ وغير موعدٍ، حالي الآن!".

*

 

"هات يا ملّا، حدّثنا عن أعجب ما رأيت في بلاد الشام؟"، سأل أهل آق شهر الملّا في ليلة سمرٍ بعد قدومه من بلاد الشام، فقال:

"وبماذا أحدّثكم؟ لا الكلام يفي، ولا الألفاظ تكفي. على أنّ أعجب ما رأيت في تلك البلاد إنّما هي كثرة المساجد ووفرة المصلّين وندرة الصلاة!".

*

 

قال الملّا نصر الدين:

"جلّ ما في المرأة مخلوقٌ من أجل الطفل. الرجال لا يكبرون!".

*

 

 

قال الملّا نصر الدين:

"عجّل بالعيش، فالوقت لا يكفيك لقضاء عقوبتك كاملةً!".

*

 

كان الملّا نصر الدين في السوق ينتظر أن يفرغ الحدّاد له ليشحذ منجله حين اصطدم به رجلٌ جلفٌ، وصاح به: "أأعمى أنت؟ انتبه يا غبيّ!"، فانتهر الحدّاد، وكان غير بعيدٍ عنهما، الرجل قائلًا: "تأدّب يا هذا فأنت تخاطب ملّا!"، فردّ الرجل: "ولم لا يتزيّا بزيّ الملّا حتى تعرفه الخلق؟"، فقال الملّا نصر الدين بصوتٍ كلّه مغفرةٌ لطيفةٌ: "الشارة بنيّ في الجنان لا في الكيان، واعلم - حفظك الله - أنَّ أصل المراد من الأبازير إخفاء الزهومة وحجب السهاكة ليس إلّا!".

*

 

قال الملّا نصر الدين:

"ألا لا تحسبنّ الماضي يعفيك مؤونة الحاضر ويكفيكها، بل يزيدهما ثقلًا ومعنىً ويوثقهما بثورٍ هائجٍ اسمه الآتي، يجري وقد سحبك خلفه ككيسٍ من تبنْ!".

*

 

قال الملّا نصر الدين:

"العشق حكمةٌ أمُّها العذاب!".

*

 

وصف الملّا نصر الدين رجلًا فقال:

"هذا رجلٌ كمثل جزيرة العرب؛ الربع الخالي في صدره، وأما اليمن السعيد تحت فلقد صار كمأرب ذكرى، وفي الجملة فإنّني لا أعرف خرابًا مثله!".

*

      

"أين تكون السياسة يا ملّا؟ "، سأل تيمور الأعرج الملّا نصر الدين.

"حيث يكون العدل وتكون الخلق سواسيةً يا مولاي!"، أجابه الملّا نصر الدين.

"فما تسمّي ما ترى ونرى إذن؟"، سأله ثانيةً.

"ثعالب تتجر ببقرٍ، وبقرٌ تنشد في حضرة القصّاب"، أجابه الملّا.         

*

 

"ما الفارق بين الزنا والبغاء يا ملّا؟"، سأل رجلٌ الملّا نصر الدين ذات سمر.

"البغاء كما السياسة إدمان الفعل وجعله أوسع ميدانًا وأجدى على أهله!"، أجابه الملّا.

*

 

مرّ الملّا نصر الدين ببلدٍ من بلاد المشرق، وكان قد خرج لتوّه من حربٍ بين القبائل ضروسٍ، لم تبق ولم تذر. وبينا هو يتأمّل في الخراب المهيب المتكدّس أمامه، أقبل شيخٌ يتوكّأ على عصاه وقال متحسّرًا وكأنّه يسأله: "ماذا فعلت بنا الحرب؟! ماذا فعلت بنا الحرب؟!".

"لا شيء غير برّ الوالدين!"، تمتم الملّا وكأنه يجيبه.

*

 

قال الملّا نصر الدين:

"هذا الفؤاد بحيرةٌ لا أطراف لها. على صفحتها يرسل الطفل زورقًا من ورقٍ، اسمه الذكريات؛ تسوقه نسائم بليلةٌ، وتقلّه أمواجٌ عليلةٌ، فيتحرّك الأفق ويترنّح حتى يصير العيش في اللحظة أمرًا ممكنًا!".