17-مارس-2020

كتاب "معلِّم ألماني: هايدغر وعصره"

كان الصراع بين الرُومان المُحافظين والمُتمسّكين بعادات وتقاليد الكنيسة، والكاثوليك ممّن قدّموا أنفسهم كليبراليين حداثيين، هو أوّل الصراعات التي سيختبرها الفيلسوف الألمانيّ مارتن هايدغر (1889-1976) في صغره، وذلك وفقًا لما يقوله روديغر سافرانسكي في كتابه "معلِّم ألماني: هايدغر وعصره" (المركز العربيّ للأبحاث والنشر، 2018) ترجمة عصام سليمان.

يذكر المؤرّخ وكاتب السيرة الألمانيّ أنّ ما نتج عن ذلك الصراع هو شعور الرُومان بالدونية، الأمر الذي دفعهم إلى رصّ صفوفهم داخل الجماعة لمواجهة الكاثوليك. ووسط هذه الأجواء المشحونة، عاش مارتن هايدغر ضمن عائلةٍ محسوبة على الرُومان، تقيم في منزل تملكهُ الكنيسة التي كان والده يعمل فيها شمّاسًا.

عاش مارتن هايدغر ضمن عائلةٍ محسوبة على الرُومان، تقيم في منزل تملكهُ الكنيسة التي كان والده يعمل فيها شمّاسًا

يقول سافرانسكي إنّ الكنيسة اِحْتَلْت النصف الأوّل من حياة هايدغر تقريبًا، كونها تكفّلت بتمويل دراسته التي كانت باهظة التكاليف، في الوقت الذي كان فيه دخل عائلته غير كاف لتعليمه هو وشقيقه، الأمر الذي دفع الكنيسة للعب هذا الدور لأمرين، الأوّل اهتمامها بالموهوبين، والثاني تجنيد جيل من القساوسة في المناطق الريفية. هكذا، ستتكفّل بمارتن هايدغر لمدّة ثلاثة عشر عامًا، ويظلّ الأخير، طوال تلك الفترة، مواظبًا على تقديم فروض العرفان والامتنان لها، تلك التي سوف تتكلّل بقراره البحث عن مكانٍ في حقل العمل الكنسي، ودخول الرهبنة اليسوعية.

اقرأ/ي أيضًا: هايدغر في الفكر العربي

حاول معلّمو هايدغر الكنسيين مساعدته، فدخل بمعيّتهم في رهبنة "مجمّع يسوع" في تريز ضمن مقاطعة فورارلبرغ، قبل أن يُغادرها بعد أسبوعين تقريبًا من دخولها بسبب أعراض قلبية، دفعت القائمين على المجمّع إلى إعادته إلى بيته لأسبابٍ صحّية سوف تتكرّر بعد عامين تقريبًا، وتكون السبب في نهاية رحلته الكهنوتية من جهة، وبداية مرحلة جديدة في حياته سنة 1907، أي عندما قام أستاذه كونراد غروبر بإهدائه أطروحة فرانز برنتانو عن المعنى المتعدّد للوجود بحسب أرسطو.  

لم تكن هدية غروبر عادية بالنسبة لهايدغر الذي كان مقنعًا، شأنه شأن الآخرين، أنّ غروبر رجل كنيسة شديد التقيّد بقوانينها، على عكس برنتانو الذي كان قسًّا كَاثُولِيكِيًّا يُخضع الفلسفة للإيمان قبل تركه الكنيسة. ما لم يكن عَادِيًّا في هدية غروبر أنّ برنتانو الذي يقرّ هايدغر بأنّ قراءته له كانت عملًا شاقًّا؛ أوصله بإدموند هوسرل الذي صار كتابه "مباحث منطقية" الكتاب المفضّل لديه: "بقيتُ معنيًا بمؤلَّف هوسرل، حيث إنّني كنت، في السنين اللاحقة، أقرأ فيه السحر الذي يشعّ منه، ممتدًا على مرآة الجملة وعلى صفحة الغلاف الخارجي" (ص 50).

وجد مارتن هايدغر في كتاب هوسرل دفاعًا قويًا عن ادعاءات المنطق ضدّ نسبيته النفسية، الأمر الذي قاده بعد قناعته بأنّ فرصه في الحقل الكنسي باتت معدومة، إلى استكمال دراسته لنيل الدكتوراة حيث نالها سنة 1913 في الفلسفة عن عمله نظرية الحكم النزعة النفسية. حينها، بدا تلميذًا نجيبًا لهوسرل الذي خاض إلى جانبه معارك جدلية ضدّ ممثّلي النزعة النفسانية، أي ضدّ محاولات تفسير المنطق بالنفساني.  

سنة 1914، كان مارتن هايدغر على موعدٍ مع تحوّل آخر في حياته، تمثّل في إعفائه، مؤقتًا، من الحرب بسبب مرضه القلبي. لم يأسف الفيلسوف الألمانيّ حينها لاستبعاده من المشاركة في الحرب بحسب سافرانسكي الذي يقول إنّه لم يكن في حاجة لتعريض حياته للخطر. لذلك، قرّر حينها استئناف عمله في أطروحته للتأهيل للأستاذية، والتي أنهاها في 1915 وسلّمها إلى كبير الأساتذة في فرايبورغ ريكرت الذي قدّم له فرصة تقديم محاضرة تجريبية بعنوان "مفهوم الزمان في علم التاريخ"، اختُتِمت بها إجراءات التأهيل، وبات هايدغر بموجبها أستاذًا مساعدًا.

ولكن، شاءت الأقدار بعد ذلك أن يُساق مُجدّدًا إلى الخدمة العسكرية، حيث ستظهر عليه أمراض القلب من جديد، ويُحال في خريف سنة 1915 لمدّة أسبوعين إلى مستشفى عسكري، وينتقل في ما بعد إلى مركز مراقبة البريد ضمن ما عُرف بالخدمة الاحتياطية المدنية أثناء الحرب.

على غير المتوقّع، شعر مؤلّف "السؤال عن الشيء" أن الحظّ حالفه أخيرًا بمجيء إدموند هوسرل سنة 1916 إلى فرايبورغ. حينها، حاول التقرّب منه باعتباره معلّمه الأوّل، ولكنّ الأخير أظهر له جفاءً أوّل الأمر، والسبب اعتباره هايدغر فيلسوفًا كاثوليكيًا لا يستحقّ الاهتمام. رغم ذلك، ظلّ مارتن لأكثر من عام تقريبًا يُراسل هوسرل إلى أن استطاع في نهاية المطاف الحصول على موعدٍ لمقابلته. وفي سنة 1917، كتب هوسرل إلى هايدغر: "سأساعدك بسرور وأشجّع دراساتك بقدر ما أستطيع". كانت تلك الرسالة بداية علاقة هايدغر بمعلّمه الذي سيكون فيما بعد مساعدًا له.

كان أوّل ما فعله الفيلسوف الألماني بعد علاقته بهوسرل هو توديعه الكاثوليكية، وذلك خلال محاضرته التي ألقاها عن المنصّة سنة 1919. غير أنّ الحدث الذي سيكون بمثابة تحوّل جديد في حياته هو لقائه سنة 1922 بكارل ياسبرز الذي كان قد ترك الطب وتوجّه نحو الفلسفة. في العام نفسه تمكّن صاحب "نداء الحقيقة" من الحصول على وظيفة أستاذ مشارك. وعلى الرغم من أنّه كان حينها يدعوا هوسرل علانيةً بمعلّمه، وينتفع من دعمه أيضًا، إلّا أنّه كان على الصعيد الداخلي قد ابتعد عنه مسافة ليست بالقليلة.

مطلع عام 1924، وصلت إلى ماربورغ طالبة يهودية تريد أن تدرس على يد الفيلسوف ذائع الصيت آنذاك، أي مارتن هايدغر؛ إنّها حنّة أرندت التي سيعترف هايدغر في ما بعد أنّها كانت إحدى ملهمات عمله "الكينونة والزمان"، وأنّه لولاها لما تمكّن من إنهاء الكتاب الأشهر بين جميع مؤلّفاته.

على مدى فصلين دراسيين، يقول سافرانسكي إنّ أرندت كانت تستقبل في العلّية التي كانت تسكنها بالقرب من الجامعة أستاذها الذي سينشر سنة 1927 كتابه "الكينونة والزمان"، أي في الفترة التي شهدت تفشّي معاداة السامية داخل أوساط المجتمع الألمانيّ. غير أنّ ما كان مفاجئًا وصادمًا آنذاك هو انحياز هايدغر لحزب أدولف هتلر النازي، وشعوره بأنّ فكر الحزب هو الحصن الذي سيحمي الألمان من خطر الانقلاب الشيوعي، وأنّ وصول الاشتراكيين القوميين إلى السلطة بمثابة ثورة.

سيعترف هايدغر أنّ حنة أرندت كانت إحدى ملهمات عمله "الكينونة والزمان"، ولولاها لما تمكّن من إنهاء الكتاب الأشهر بين جميع مؤلّفاته

فيما بعد، سوف يصبح من قدّم "مدخل إلى الميتافيزيقيا" عضوًا نشطًا فيما سُمِّي آنذاك بـ"جماعة العمل السياسي الثقافي لمعلّمي المدارس العليا الألمانية"، وهو تكتّل اشتراكي قومي عَمِلَ أعضاؤه على إضافة الطابع النازي على روابط المدارس العليا. كان هايدغر حينها يشعر بأنّ على المرء أن يقحم نفسه، وكانت نتيجة إقحامه لنفسه أن انتُخِب رئيسًا لجامعة فيورباغ التي شهدت خطابه المثير للجدل خلال حفل تنصيبه، والذي مجدّته الصحافة النازية، بينما اعتبره الآخرون، لا سيما المقرّبين منه، ميلًا منه نحو النازية، وانحرافًا تاريخيًا في مسيرته الفكرية أيضًا.

اقرأ/ي أيضًا: "هايدغر في المشفى" لمحمد بن جبار: الرواية داخل مصحة الفلاسفة

تعامل المقرّبون من الفيلسوف الألماني، بالإضافة إلى المعارضين للنازية، مع هايدغر على أنّه مُعادٍ للسامّية، دون أن تشفع له استقالته من رئاسة الجامعة سنة 1934، وافتراقه عن الحزب النازي أيضًا خلال السنة نفسها، حيث سيجد اسمه مدوّنًا ضمن اللائحة السوداء في مدينة فرايبورغ التي وقعت حينها تحت الاحتلال الفرنسيّ، باعتباره نازيًا سابقًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

لماذا لا يجب أن تموت الفلسفة؟

اللغة وسيلةٌ للتواصل!