15-أكتوبر-2021

بشرى المقطري وكتابها (ألترا صوت)

لا يحتاج اﻷمر إلى تفكيرٍ كثير، أو تأملاتٍ مطوّلة، لفهم ما يجري في اليمن منذ نحو عشر سنواتٍ خلت. مع ذلك، لا يتعدى فهمنا لما يجري هناك، على اختلافه، الصراعات السياسية والمذهبية والقبلية الداخلية، وحتى اﻹقليمية أيضًا. أما المأساة اﻹنسانية التي تمخضت عن هذه الصراعات، بمعناها الضيق الذي يحيل إلى عمليات القتل اليومية وما يترتب عليها من قهرٍ وأسى أقاما في البلاد أمدًا طويلًا، فلا تزال مجهولة طالما أننا لا نعرف عنها سوى عناوين عريضة، تختزل اﻷلم اليمني إلى مواد وتقارير إخبارية. 

تدوِّن بشرى المقطري في كتابها "ماذا تركت وراءك؟ أصوات من بلاد الحرب المنسية" مشاعر وآلام ضحايا القتل اليومي في اليمن

في كتابها "ماذا تركت وراءك؟ أصوات من بلاد الحرب المنسية" (رياض الريس للكتب والنشر، 2018)، تضيء الكاتبة والصحافية اليمنية بشرى المقطري على مختلف وجوه مأساة أبناء جلدتها، الذين أصغت إلى حكايات بعضهم، وأعادت صياغتها في شهاداتٍ تكشف الجانب اﻵخر مما يحدث في بلادها، ذاك الذي يضيق بالقهر والمرارة والفجيعة وكل ما هو كفيل بإحالة حيوات ضحايا القتل اليومي، إلى كوابيس مفتوحة. 

اقرأ/ي أيضًا: كتاب "الدولة نظريات وقضايا".. التحول بين المفهوم والتجليات

اﻷلم اليمني المجهول والمهمش هو ما يعني بشرى المقطري، وهو ما حملها أيضًا على الطواف في مدن وبلدات يمنية عديدة لا بهدف اﻹصغاء إلى حكايات اﻵخرين وتوثيقها فقط، وإنما تدوين مشاعرهم وعرض آلامهم بطريقةٍ فريدة تأخذ بعين الاعتبار استعراض أفكارهم حول ما حدث، وطريقة تعاطيهم معه، وما يتذكرونه منه، وحتى ما لم يفهموه أو ما بدا لهم، لشدة فظاعته، عصيًا على الفهم واﻹدراك. هكذا، يصير بوسعنا القول بأن الشهادات التي يتضمنها الكتاب، لا تُقرأ بقدر ما تُسمع. 

في أول شهادات الكتاب، تضعنا الصحافية اليمنية في مواجهة رجلٍ قتلت طائرات "التحالف العربي" زوجة شقيقه وأبنائهما. يخبرنا الرجل المدعو أحمد عبد الحميد سيف، بأنه يحاول تجاوز ما حدث، أو باﻷحرى ما رأى. يقول: "كنت أحدق في الجثث المحترقة، الجثث المفرومة، الجثث المقطعة، الجثث المشوهة". ثم يضيف في وصف أحوال شقيقه المفجوع: "يحمل غصته في قلبه، لا ينسى ولا ينام (...) أحمل أحزان أخي على ظهري". 

ليست هذه الشهادة أقسى ما في الكتاب. تقول نسيبة عبد الملك، وهي أم فقدت ابنتها في قصفٍ لميليشيات الحوثي والرئيس المخلوع علي عبد الله صالح، إن ابنتها التي أُصيبت في القصف نفسه، وشهدت على وفاة شقيقتها، لا تتوقف عن سرد تفاصيل ما حدث: "يا ماما لم يكن لريم وجه. سحقت القذيفة وجه أختي". وفي ما قالته الفتاة ما يكفي من المرارة للتعبير عن هول الحادثة وآثارها على العائلة المنكوبة. تقول اﻷم لبشرى في وصف أحوال ابنتها المفجوعة بما رأته: "تحكي ملاك تفاصيل الفزع مرةً تلو المرة، وتتعرق في نومها. تحكي عن رأس أختها المتشظي على الدرجة الرابعة في الدكان، أحضنها وأبكي".

لسنا هنا بصدد استعراض جميع شهادات كتاب بشرى المقطري. مع ذلك، بوسعنا القول إنها تضيق بتجارب مريرة، ومصائر مؤلمة، وندوب نفسية، واضطرابات عقلية، وهلوسات، وفقر، وجوع، وذُل، ومشاهد أفظع من أن تُمحى من ذاكرة من كان شاهدًا عليها. لذا، لا يبدو غريبًا ألا يجد المسعفون ما يسعفونه: "كيف نسعفهم إلى المستشفى؟ لا شيء لنسعفه، ساعات وأهالي القرية يجمعون الأشلاء، يلصقون أطرافها باﻷجساد". أو حتى أن ترفض أم رؤية أبنائها قبل دفنهم ﻷنها تريد أن تتذكرهم: "كما كانوا: جميلين، سعداء، وودودين". وللقارئ أن يتخيل هنا الشكل الذي انتهوا إليه. 

ولا يبدو مفاجئًا أن تفقد امرأة ابنتها، ثم زوجها، وجنينها، وخالها أيضًا، في ظرفٍ زمني قصير. أو أن يقول رجلٌ فقد زوجته واثنين من أبنائه: "حين أسمع بكاء أطفالي بعد كل تحليق للطائرة يتذكرون مقتل أمهم وأخوتهم، لا أعرف حينها كيف أحميهم من الفزع، هل أُغلق أذانهم، أم أُغلق أُذنيَّ؟"، وأن يسأل بشرى: "ماذا أفعل كي لا أفقد عقلي؟". 

يكشف كتاب بشرى المقطري الجانب اﻵخر مما يحدث في اليمن، ذاك الذي يضيق بالقهر والمرارة والفجيعة

في واحدة من أقسى شهادات الكتاب وأكثرها مرارة، يروي لنا سجين سابق في "سجن الزيدية" تفاصيل احتراق نحو 60 سجينًا، في السجن الذي قصفته طائرات التحالف. يقول: "كنا نستعد للنوم، حين سمعت انفجار الصاروخ اﻷول. كنا نصرخ مطالبين السجان فتح باب الزنزانة حتى لا نحترق". 

اقرأ/ي أيضًا: الثورة اليمنية عام 1962 في الكتب العربية والأجنبية

وثقت بشرى المقطري في كتابها "ماذا تركت وراءك؟ أصوات من بلاد الحرب المنسية"، مشاعر أكثر من 40 يمنيًا عبرت الحرب حياتهم، فأحالتها إلى مأساة مفتوحة لا تتضاءل مع مرور الزمن بقدر ما تتمدد وتتسع. وأعادت الاعتبار، في الوقت نفسه، لضحايا الجريمة المستمرة في اليمن، أولئك الذين تختزل امرأة فقدت ابنتها، قبل زفافها بأيام قليلة، أحوالهم حين تقول لبشرى: "قلوبنا حزينة وأرواحنا مكسورة. معاناتنا محفورة في وجوهنا، ستكتبينها أنت. أنا لا أستطيع وصف نكبتي. اكتبي ما ترينه في وجوهنا". 

 

اقرأ/ي أيضًا:

كتاب "دم الأخوين".. قراءة في وظائف العنف وطقوسه في الحروب الأهلية

كتاب "كل رجال الباشا".. "أمجاد" محمد علي كما رآها الفلاحون