08-سبتمبر-2021

لوحة تمثل أسرة محمد علي باشا (المتحف الحربي المصري)

ظل التاريخ، ردحًا طويلًا من الزمن، مجرد ترجمة لسير الملوك والسلاطين والقادة، وسجلًا يدون غزواتهم وانتصاراتهم وصروحهم المشيدة. هؤلاء هم الذين يلعبون دور البطولة المطلقة، أما ملايين الأفراد الذين عاشوا وماتوا في ظلهم، فهم مجرد كومبارس يكملون المشهد ويضفون عليه لمسة مهابة، يجتمعون للهتاف للقائد الفاتح فيصبحون رعية صالحة، أو يحتشدون للسخط على الغلاء وضيق سبل العيش فيغدون دهماء ورعاع. لا شيء عن البشر العاديين في بيوتهم وأسواقهم ومساجدهم ودكاكينهم، لا شيء عن الحواري التي صاغت كل ما وصلنا من حكايا وأمثال وأغان، ولا شيء عن الحوانيت والمشاغل التي أبدعت الفسقيات والمشربيات والأعواد والنايات وكل ما نعتبره اليوم "تراثنا المجيد".

يدحض كتاب "كل رجال الباشا" أفكارًا راسخة عن محمد علي ومشروعه، فهو لم يغدُ مصريًا على الإطلاق، بل ظل عثمانيًا صرفًا، في مأكله ومشربه ولغته وسلوكه، وحتى أحلامه

هناك مفهوم آخر للتاريخ، صار أكثر بروزًا  في السنوات القليلة الماضية، وراح يحتل حيزًا معقولًا نسبيًا في المكتبة التاريخية. هنا لا يعبأ المؤرخ بالسلاطين وانتصاراتهم وأمجادهم وبالصروح التي شيدوها.. بل بالإنسان العادي وأحلامه وهواجسه وطريقة عيشه والثمن الذي دفعه لقاء أمجاد السلاطين وصروحهم.

اقرأ/ي أيضًا: كتاب "التوظيف السياسي للدين".. الدولة البسماركية في الشرق الأوسط

ينتمي كتاب المؤرخ المصري خالد فهمي "كل رجال الباشا ـ محمد علي وجيشه وبناء مصر الحديثة"، (دار الشروق ـ ترجمة شريف يونس)، إلى هذا النوع من كتب التاريخ، فالباشا (محمد علي) هنا لا يلعب دور البطولة المطلقة، والقصة لا تروى على لسانه أو من وجهة نظره وحسب، هناك أبطال مشاركون يسعى المؤلف لسرد روايتهم المختلفة: الأفراد، الأنفار، الفلاحون المصريون الذين ساقهم محمد علي عنوة إلى العسكرية، وصنع منهم، رغمًا عنهم، جيشًا كبيرًا غزا به بلادًا، وشيد أمجادًا، وأسس أحلامًا شخصية كبرى..

وهؤلاء يقولون، بالأحرى تقول الوثائق والقرائن نيابة عنهم، كلامًا معاكسًا للرواية الرسمية المؤسطرة، فهم لم يؤمنوا يومًا بأن مشروع محمد علي هو مشروعهم، ولم يشعروا قط بأنهم شركاء في النصر وإن كانوا في الحقيقة شركاء أصليين في المغارم.

تؤكد الوقائع أن المصريين قاوموا التجنيد الإلزامي بشراسة عبر انتفاضات عارمة في عدة أماكن، وعندما أخفقت انتفاضاتهم الجماعية لجأوا إلى شتى الأساليب الفردية للتهرب: قطعوا أصابعهم، وألحقوا الأذى بعيونهم، وشوهوا أجسادهم، ومن فشل في ذلك وسيق بالفعل إلى الجندية فقد ظل يتحين الفرصة للهروب رغم المخاطر والعقوبات الشديدة المحدقة.

يقول المؤلف: "أما بالنسبة للفلاحين فإن الادعاء بأن هذا الجيش جيشهم وأنهم كانوا يحاربون من أجل أهدافهم هم كان سيبدو لهم بالتأكيد أكثر الادعاءات التي سمعوها سخفًا وأكثرها مدعاة للسخرية.. لقد توصل الفلاحون إلى أن يروا في الجيش أكثر جوانب نظام الباشا، المكروه أصلًا، مقتًا".

في فصل ربما يكون الأكثر تشويقًا (الفصل الخامس)، يستعرض فهمي الحياة اليومية في المعسكرات، بادئًا من ملاحظة مثيرة للأسى: الغياب التام للجنازات اللائقة بالجنود الميتين في ساحة المعركة، "لم يتم دفن المئات والآلاف من الرجال الذين ماتوا في مختلف حملات محمد علي بطريقة مشرفة، وانحصر اهتمام السلطات الوحيد بالموت في الإبلاغ عن تواريخ الوفاة بسرعة لكي توقف الرواتب التي كانت تسلم أحيانًا لعائلات الرجال في مصر".

ثم يعرض لما كان الجنود يعانونه من "صدمة القذائف" والانهيار المعنوي أمام النيران، ما فاقم إحساسهم بالحنين العارم لأهلهم وقراهم التي انتزعوا منها قسرًا، ويأتي الزهري والجرب ليغلقا دائرة المأساة الطويلة، إذ لم تفلح أساليب الباشا الطبية المجترحة في القضاء على الأمراض والأوبئة المرافقة للحشود.

يسعى الكتاب إلى دحض أفكار أخرى مرسخة عن محمد علي ومشروعه، ومنها أنه سعى لأن يكون مصريًا رغم أصوله الألبانية، وأنه جاء برؤية تحديثية نهضوية جاهزة ومكتملة، وأن إنجلترا ناصبته العداء "إذ رأت في تجربته الصناعية الوليدة تهديدًا لثورتها الصناعية".

لم يغدُ الباشا مصريًا على الإطلاق، بل ظل عثمانيًا صرفًا، في مأكله ومشربه ولغته وسلوكه، وحتى أحلامه. لم يتقن اللغة العربية ولم يصغ إلى من يتحدثون بها. وانصب جل اهتمامه على أن يبقى واليًا أبديًا على مصر، على أن تبقى هذه ولاية عثمانية تحت عمامة السلطان، وما الحروب التي خاضها (ومنها تلك التي كانت ضد السلطنة نفسها) إلا من أجل هذه الغاية.. هكذا كان الباشا يقول لجلسائه، وهكذا كان يكتب في مراسلاته، وهذا ما تؤكده الأدلة والشواهد والوقائع.

لم يمتلك محمد علي مشروعًا تحديثيًا مكتملًا، بل إنه أراد الاحتفاظ بمصر له ولأولاده من بعده، ومن أجل هذا أنشأ جيشًا قويًا، فاحتاج تاليًا إلى بيروقراطية ودفاتر وسجلات وتنظيمات

وكذلك فهو لم يمتلك مشروعًا تحديثيًا مكتملًا وجاهزًا منبثقًا من رؤية مسبقة، بل إنه أراد الاحتفاظ بمصر له ولأولاده من بعده، ومن أجل هذا أنشأ جيشًا قويًا، فاحتاج تاليًا إلى بيروقراطية ودفاتر وسجلات وتنظيمات، ثم احتاج مصانع وورشات حربية، ثم مستشفيات وأطباء للحفاظ على الأرواح التي يحتاجها في معاركه.. هكذا خطوة قادت إلى أخرى، تجربة فخطأ فإعادة التجربة.. وعلى أي حال فالتحديث كان محصورًا في الوسائل، أما الغاية فهي الاستمرار في السلطة وتمكينها.

اقرأ/ي أيضًا: "اللي بنى مصر".. حكاية نشأة القاهرة في ألفيتها

ولقد سعى المؤلف إلى إثبات أن عداء بريطانيا لمحمد علي لم يأت من خوفها على صناعتها وتجارتها جراء "التصنيع المصري"، وإنما كانت تخشى أن يتسبب توسع محمد علي في تفكيك السلطنة العثمانية وجعلها لقمة سائغة أمام الأطماع الروسية المهددة للسيطرة البريطانية على الهند.

يختم فهمي كتابه بهذه العبارة: "فإذا كان المرء يصدق الروايات الوطنية عن الباشا وآلته العسكرية بغير حس نقدي، فهنا فقط سيسلم بأن هؤلاء الجنود كانوا بالفعل رجال الباشا. أما أنا فليس عندي أدنى شك في أنه لم يكن يومًا رجلهم".

 

اقرأ/ي أيضًا:

السفر عبر الزمن من بوابة القلاع التاريخية في مصر

الجيل صفر.. 4 موسيقيين حرروا الأغنية المصرية من العثمانلية