31-يناير-2020

إعجاز أحمد وكتابه (ألترا صوت)

يكتب المفكّر الباكستانيّ إعجاز أحمد (1932) في كتابه "في النظرية: طبقات، أمم، آداب" (المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات 2019، ترجمة ثائر ديب) عن المفكّر الفلسطينيّ الراحل إدوارد سعيد (1935-2003) انطلاقًا من فكرة أنّ كبت النقد ليس الطريقة المثلى للتضامن، كما ظنّ لسنواتٍ طويلة اعتقد فيها أنّ مخالفة سعيد قد تكون ضربًا من الخيانة له ولموقفه المحاصر وسط أمريكا الإمبريالية، ولكونه فلسطينيًا أيضًا. قبل أن يصل إلى قناعة مفادها أنّ موقف الحياد الإرادي موقف خاطئ سياسيًا، ولا مجال للدفاع عنه أخلاقيًا.

تحت عنوان "الاستشراق وما بعده: التجاذب الوجداني والموقع المتروبولي في أعمال إدوارد سعيد"، الفصل الأهمّ من بين الفصول الثمانية التي جاءت في الكتاب؛ يقدّم إعجاز أحمد دراسة نقدية لمؤلَّف إدوارد سعيد "الاستشراق" وبعض مؤلّفاته المتّصلة بكتابه هذا، لا سيما أنّه عند أحمد ليس المساهمة الباقية لسعيد، لأنّ المساهمة تمثّلت بما قدّمه عن القضية الفلسطينية وإعادة تعريفه لقضية التحرّر الوطنيّ الفلسطينيّ أيضًا.

"الاستشراق" ضمن رؤية إعجاز أحمد مُحاولة من إدوارد سعيد سعيد لحلّ مشكلة ما يعنيه بالنسبة إليه أن يكون المرء فلسطينيًا في الولايات المتّحدة

"الاستشراق" ضمن رؤية إعجاز أحمد مُحاولة سعيد لحلّ مشكلة ما يعنيه بالنسبة إليه أن يكون المرء فلسطينيًا يعيش في الولايات المتّحدة ويعلّم فيها. ولأنّه كذلك، يظهر الصوت الشخصيّ لسعيد فيه بشكلٍ حاد، يرافقه مركزية واضحة في تحديد مشروعه البحثيّ، بالإضافة إلى إلحاحه المركّز على القدر العقابي الذي ينزل بالمرء، وإعداد جرد بالآثار التي أنزلها القدر بالمرء. ولكن، ما الذي أوجب على هذا الجرد فعليًا أن يتّخذ شكل قراءة مضادة للنصوص المعتمدة المكرّسة؟

اقرأ/ي أيضًا: 6 كتب لا بد منها لمعرفة فلسطين

السبب وفقًا لأحمد هو شخصيّ، مُفسِّرًا الأمر بأنّ دربة سعيد تتركّز على قالب البحث الكلاسيكيّ في الآداب الأوروبية المقارنة، باعتبار أنّ نسيج "الاستشراق" الخاص والحاحه على النصّ المعتمد المكرّس وإعلائه من شأن الأدب وفقه اللغة في تكوين المعرفة الاستشراقية؛ مستمدّة من الطموح إلى كتابة تاريخ مضاد يمكن وضعه قبالة كتاب "محاكاة: تمثّل الواقع في الأدب الغربي" الذي يروي فيه إريك أورباخ تكوين الواقعية والعقلانية الأوروبية.

العلاقة بين أورباخ وإدوارد سعيد علاقة متناقضة بحسب إعجاز أحمد، باعتبار أنّ سعيد ضمن مجال الدراسات الثقافية هو سارد تاريخ تطوّر الإنسانوية الأوروبية في تاريخ الاستعمار الأوروبيّ. والتقارب بين المعارف الاستعمارية والقوى الاستعمارية لا يمكن أن تُحتوى داخل الدراسات الثقافية وحدها، لأنّ تواريخ الاستغلال الاقتصادي والقهر السياسيّ والفتح العسكري هي التي تؤدّي الأساس التكويني، كون هذه التواريخ تخلق الشروط التي تمكّن ما يسمّى بـ"الخطاب الاستشراقيّ".

ولأنّ العلاقة متناقضة، واجه سعيد مشكلة تحديد ضرب ما من ضروب الفاعلية، تلك التي يُمكن أن تنقض هذه الرابطة البالغة من العمر قرونًا بين سرديات الإنسانوية الرفيعة والمشروع الاستعماري، الأمر الذي يكشف نوعًا من الانسداد القائم على أنّ ما يطرحه سعيد هو قيم الليبرالية الإنسانوية.

اللافت هنا هو أنّ الإنسانوية بوصفها شيئًا مثاليًا إنّما توقظ وتُثار في الوقت الذي تكون فيه الإنسانوية بوصفها تاريخًا ذلك الرفض الصريح. وهو ما يراه الناقد الماركسيّ تجاذبات وجدانية تتعقّد مزيدًا من التعقّد بالتسوية المستحيلة التي يُحاول سعيد إقامتها بين تلك الإنسانوية ونظرية الخطاب عند فوكو، مُتجاهلًا فكرة أنّه يتعذّر فصلها عن اللاإنسانوية النيتشوية.

يرى إعجاز أحمد أنّ العلاقة بين إدوارد سعيد وميشال فوكو ليست واضحة بما يكفي لتحديد ماهيتها، لأنّ فوكو، وإن كان يعرف كيف يكون تلميحيًا، لديه جُملة نقاط خلاف واضحة مع الماركسية، كما أنّه يضع ماركس على نحو قاطع ضمن حدود ما يسمّيه الإبستيم الغربيّ، مُعتبرًا فكره مؤطّرًا تمامًا وكلّيًا من حيث بنائه الإبستيمي بخطاب الاقتصاد السياسيّ، بمعنى أنّ هناك خلافًا على المبدأ الذي يحكم السرد التاريخيّ، لأنّ فوكو ينكر تمامًا إمكانية اقتصاد سرديات التاريخ على موقف الدولة والإنتاج الاقتصادي.

يرى إعجاز أحمد أنّ العلاقة بين إدوارد سعيد وميشال فوكو ليست واضحة بما يكفي لتحديد ماهيتها

مخالفة فوكو لماركس على هذه المنطلقات الأساسية، تلاه تحديد فوكو لكلٍّ من الحدود المكانية والتكوين الزمني المميّزين والإبستيم الذي انخرط فيه، ذلك الذي يلحّ على أنّه غربيّ من دون أن يدّعي معرفة بباقي البشرية. وإن كان فوكو يتجنّب مصطلحات ماركس إلّا أنّه يعلم ما الذي يتحدّث عنه، أي ظهور المجتمع البرجوازي الذي يمتد من بالتراكم البدائي حتّى الثورة الصناعية الأولى.

اقرأ/ي أيضًا: كتاب "في تشريح الهزيمة".. نكسة 1967 كمحصلة لسلسلة من الهزائم

أمّا السرديات التي جمعها فوكو، لا سيما الواردة عند إدوارد سعيد، فهي تنطلق من بوتقة تلك البدايات البرجوازية. وإذا كان سعيد قد استخدم المصطلحات الفوكوية على أنّها عناصر منفصلة في جهاز، إلّا أنّه رفض قبول العواقب المترتّبة عن خريطة التاريخ التي يرسمها فوكو.

دفعت الضغوط الفوكوية إدوارد سعيد، وفقًا لرؤية إعجاز أحمد، لأن يُعيد بدايات الخطاب الاستشراقيّ إلى القرن الثامن عشر، كما دفعته ضغوط الإنسانوية الأورباخية الرفيعة إلى إعادة أصول هذا الخطاب ذاته إلى اليونان القديمة. وبدلّا من اختيار موقفٍ منهما، قدّمهما سعيد كتعريفين متضاربين للاستشراق، بحيث يجنّدهما معًا.

إنّ الفكرة القائلة بإمكانية وجود خطاب يطول كامل اتّساع التاريخ الغربيّ ونصوصه ليست ماركسية ولا فوكوية أيضًا، لأنّ فوكو لا يقبل بأي نوع من العلاقة التكاملية بين كلٍّ من أوروبّا اليونانية القديمة، وأوروبّا الغربية الحديثة، عدا عن أنّه لم يتكلّم قط على خطاب ناضج قبل القرن السادس عشر. أمّا فكرة سعيد القائلة بأنّ أيديولوجيا المركزية الأوروبية الإمبريالية الحديثة منقوشة أصلًا ضمن التراجيديا اليونانية ومسرحها الشعائري، فلا تقتصر على كونها لا تاريخية فقط بل لا فوكوية أيضًا.

وإذا كان سعيد يردّ هذا النوع من الخطاب الاستشراقيّ إلى ما كان يُمكن أن يَسِمها بأنّها مواقع كبيرة للدولة، فإنّ المواقف الفوكوية نفسها كانت قد أعلنت عن عدم أهليتها لأن تكون مواقع مكوّنة للخطاب، وذلك بناءً على تمييز فوكو بين الخطاب والتراث المعتمد المكرّس، لا سيما وأنّ تمييزه الفلسفيّ بين الانتظام الخطابيّ والقول الشخصيّ وانشغاله التأريخيّ بتحديد شكل الخطاب وحدوده ورفضه كذلك إسقاط خطاب على خطاب آخر، هي من أساسيات فكره.

يقصد إعجاز أحمد بذلك أنّ إدوارد سعيد لم يلحظ ضروب الصرامة أو التقشّف عند فوكو، لا سيما تلك التي شيّدها ضدّ الإنسانوية، الأمر الذي يجعل من إجراءات المفكّر الفلسطينيّ لا فوكوية بشكلٍ جذري، لأنّها مستمدّة من الأساس من التقاليد الإنسانوية الرفيعة في الأدب المقارن وفقه اللغة التي شكّلت منجه السرديّ واختياره للنصوص أيضًا، بمعنى أنّ مؤلّف "العالم والنص والناقد" قد كرّر تلك الإجراءات جميعها حتّ وهو يفضح زيف ذلك التقليد الذي استعارها منه.

الملفت للانتباه في عمارة "الاستشراق" بحسب المنظّر الماركسيّ هو أنّ جِدَّة الكتاب المسؤولة عن هيبته الأساسية في النظرية الثقافية الطليعية، هي جِدّة منهجية لا تقتصر على استعاراته الواسعة من الفروع الأكاديمية القائمة، بل يتعدّى ذلك على نحو أشدّ حسمًا بكثير إلى استحضاره فوكو استحضارًا صريحًا، وإعلانه أنّ موضوع دراسته خطاب يقول إنّه الخطاب المؤسِّس للحضارة الغربية، سواء زمنيًا أم حضاريًا.

ويخلص أحمد إلى القول بأنّ ما ترتّب على هذه الجِدّة عاقبتان واضحتان، إحداهما التحوّل الجلي من ماركس إلى فوكو، وهو تحوّل يتّسق على نحو شديد وواضح مع اللحظة ما بعد الحداثية. فالحقيقة التي لا مراء فيها بشأن المرحلة السابقة على تدخّل سعيد تتمثّل بأنّ الأغلبية الساحقة من الانتقادات المستنيرة اجتماعيًا والتقدمية سياسيًا، تلك الموجّهة إلى الاستعمار كانت إمّا ماركسية، أو تقف في صفّ المناهضة الثقافية للإمبريالية.

الملفت للانتباه في كتاب "الاستشراق" أنّ جِدَّة الكتاب المسؤولة عن هيبته الأساسية في النظرية الثقافية الطليعية، هي جِدّة منهجية

والحال أنّ قطيعة سعيد مع ذلك التقليد السياسيّ كانت تامّة بالفعل وفقًا للكاتب الباكستانيّ، حيث نُبذ كارل ماركس نفسه في الكتاب بوصفه مستشرقًا آخر، وأزيحت الماركسية كذلك جانبًا، والسبب أنّها ابنة كريهة للتاريخانية. ويرى أنّ أحد تناقضات الكتاب الكثيرة هو تعريف سعيد للاستشراق بأنّه "أسلوب تخريبي للسيطرة على الشرق وإعادة بنائه والتسلّط عليه".

اقرأ/ي أيضًا: زيجمونت باومان.. نقد صلب لـ"الحب السائل"

يُحدِّد المؤلِّف التناقض في التعريف بأنّ الاستشراق أسلوب كثيرًا ما تكلّم على الغرب والشرق على أنّهما منتصر ومهزوم، وخطاب كثيرًا ما كانت لديه إرادة القوّة لكنّه لا يعبّر عن أي مخطَّط إمبرياليّ، وهو مترع بالعنصرية والشوفينية والتعصّب الدينيّ، لكنّه لا ينطوي على إرادة إخضاع أحد. هكذا، يصير من الصعب معرفة ما الذي يعنيه إدوارد سعيد حقًّا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

كتاب "فكرة الثقافة".. ما نحيا لأجله

كتاب "العنف: تأملات في وجوهه الستة".. في تثقيف السياسة