07-ديسمبر-2022
كتاب فان غوغ منتحر المجتمع

كتاب فان غوغ.. منتحر المجتمع

الكتابة عن فينيست فان غوغ (1853 ـ 1890) بالنسبة إلى الشاعر والمسرحي الفرنسي أنطون آرتو (1896 ـ 1966)، صاحب كتاب "المسرح وقرينه"، المرجع الأول لفكره المسرحي والرافض لفكرة الواقعية داعيًا إلى التمرد عليها؛ لم تكن صعبة، بل أشبه ببراعة نحاتٍ حاذق يعرف كيف يمسك الإزميل بيسراه والمطرقة بيمناه.

عرف آرتو جيدًا أنّ في بازلت فينيست شخصيته، ويتضح ذلك من خلال رسالة كتبها آرتو إلى رئيس مجلة "New Velle" يؤكد فيها معاناته في نسيان الأفكار والعبارات التي تراوده في المرحلة الأولية من التفكير، وحتى الجمل البسيطة أيضًا. فقد كان آرتو قد أصيب بالتهاب السحايا في بداية حياته وظلت مرافقة له، وذلك ما جعلهُ عصبيًا جدًا، وسبّب له التلعثم الكلامي ونوبات اكتئاب حادة، لذا تنقل وأقام في المنتجعات الصحية.

لم تكن كتابة أنطون آرتو عن فان غوغ صعبة، بل أشبه ببراعة نحاتٍ حاذق يعرف كيف يمسك الإزميل بيسراه والمطرقة بيمناه

في بداياته الأدبية ساهم آرتو في تكوين الحركة السريالية، ثم عمل مديرًا للمكتب المركزي للبحوث السريالية، لكنه طُرد منها بعد خلافٍ مع أندريه بريتون مؤسس ومنظر الحركة وكاتب بيانهِ. بعد ذلك قام بتأسيس مسرح ألفريد جاري، ثم قام بإخراج سلسلة من المسرحيات، وحينها نشأ مسرحهِ الخاص الذي سمّاه بمسرح القسوة، والقسوة في قاموسهِ الخاص هي وجودية الإنسان.

كتاب "فان غوغ منتحر المجتمع" لـ أنطون آرتو، صدر لأول مرة في شباط عام 1947، ومؤخرًا صدر عن دار الرافدين في بغداد/العراق، ترجمة وتقديم الشاعر والكاتب اللبناني عيسى مخلوف. يقع الكتاب في 136صفحة، ويتطرق إلى جوانب كثيرة من حياته كرسام بارع تارة أولى، وتارة ثانية كمريض يعاني من اضطرابات نفسية حادة.

ذهب آرتو إلى متحف "أورانجوري" الباريسي الذي يعرض لوحات فان غوغ ، ليحدق في تلك اللوحات بعين رسام نافذ. آنذاك خصصت مجلة "فنون" مقالة عن حياة فان غوغ ، ضمت إحدى الفقرات دراسة طبية تحمل توقيع الطبيب فرانسوا خواكيم بير؛ إن هذا الفنان النابغة، ويقصد به فان غوغ ، يعاني من اضطرابات نفسية تزداد حدتها مع مرور الوقت.

من هنا قرر آرتو الكتابة عن حياته انطلاقًا من حالته الشخصية كفنان وكمريض عانى من نفس الاضطرابات، راغبًا في تقديم وجهة نظر مغايرة عن سيرتهم الذاتية وعن نتاجهم الفني، كاتبًا ذلك بعصبية حادة كالسكين مدينًا أولئك الذين يتهمونهم ويحاكمونهم على أنهم مرضى نفسيون في المجتمع، فيما هم في الحقيقة استلهموا من الظلم والجريمة أفكارًا لأعمالهم، مستندةً في ذلك إلى غضب الشاعرة اليونانية سافو التي عانت من نفس الاتهامات قبل 2600 سنة منصرمة، وقد عبرت عن غضبها بقولها "لأن في نفسي روحين لا أعرف ماذا أفعل: روح الصيّاد وروح الطريدة". وإلى مقولة الشاعر الفرنسي بودلير "أنا الجرح والسكين"، وإن اللغز الخالص للزهرة المعذبة تكمن في رفضهِ الامتثال للأعراف السائدة ولكل ما من شأنه أن يعرقل الإنسان في صعوده نحو الأعماق.

آرتو ينتصر لفان غوغ . كان سليم العقل على مستوى الصحة العقلية، أما على المستوى الجسدي فقط صلم أذنه اليسرى وشوه إحدى يديهِ. ثم يبدأ بانتقاد الواقع والبيئة البرجوازية والاضطرابات والهذيان والتفكك والشذوذ الفكري الذي ساهم في اختراع الطب النفسي. بعدها ينتقد علماء النفس والغطاء الاجتماعي الذي يحمي هؤلاء الأطباء النفسانيين ويحملهم مسؤولية انتحاره، وقبله جيرار دو نرفال، داعيًا هؤلاء إلى تشريح عدد من لوحات فان غوغ لما تحتوي من الأسرار؛ منها لوحة "حقل قمح وغربان "، "كرسي غوغان"، "حديقة دوبينيي"، "رصيف مقهى مساءً"، "سنابل القمح "، "الليل المكوكب"، "دوار الشمس". هذهِ الأعمال كلها مدخل إلى عالم فان غوغ الذي منه يتسرب إلى أعماقنا، ويؤكد آرتو في الكتاب أن تلك الأعمال لا تهاجم الأعراف السائدة فحسب، بل المؤسسات نفسها، وحتى الطبيعة الخارجية مع مناخها ومدها وجزرها وعواصف اعتدال المناخ، وهي بمثابة نقدًا اجتماعيًا. وذات مرةٍ كنت متهمًا من قبلهم "أتحداك أن تكتشف عنصرًا واحدًا من العناصر التي تستند إليها لتطلق اتهامك".

إلى من تتوجه هذهِ الأعمال؟ سؤالٌ يطرحهُ عيسى مخلوف مقدم ومترجم العمل على آرتو، ويجيب نيابة عنه بالشكل التالي: "ليس لهذا العالم وليس لهذهِ الأرض، عَمِلنا كلّنا دائمًا، وصارعنا وصرخنا من الرعب والبؤس والحقد والفضيحة والاشمئزاز، ومن هذهِ الأشياء كلّها تسممنا جميعًا، مع أننا كنا جميعًا مسحورين بها، وانتحرنا أخيرًا لأننا كلنا جميعًا كفان غوغ المسكين نفسه؛ مُنتحر المجتمع".

احتلت رسائل فان غوغ مكانة مرموقة في عالم الكتابة، كونها خرجت من خصوصيتها الذاتية لتندرج في إطار فني بحت يسرد فيها لأخيه ثيو عن لوحاته وأسلوبه التقني والمشهد الفني في زمنه

احتلت رسائل فان غوغ مكانة مرموقة في عالم الكتابة، كونها خرجت من خصوصيتها الذاتية لتندرج في إطار فني بحت يسرد فيها لأخيه ثيو عن لوحاته وأسلوبه التقني والمشهد الفني في زمنه، ليذهب بصيغة مباشرة نحو عمق تأملاته وأفكاره وحياته الداخلية ونظرته إلى العالم، وقد بلغ عدد الرسائل ستمائة وخمسين رسالة، وآخر رسالة وجدت في جيبه بعد أن أطلق النار على نفسه كانت غير مكتملة، مكتوبة إلى أخيه، ولأول مرة في أمستردام 1914، طبعت الرسائل لتصبح مرجعًا أساسيًّا يعتمد عليه مؤرخو الفن والفنانون والنقاد والكتّاب للاقتراب من حياة الفنان ونتاجهِ.

للكلمة المكتوبة أهمية خاصة في حياة فان غوغ ، لذا كان مواظبًا على القراءة وكان لإميل زولا، وألفونس دوديه، وجون كيتس، وفيكتور هوغو، وفولتير وشكسبير، مكانة خاصة في حياتهِ القرائية.

على بعد قرابة الثلاثين كيلو مترًا من باريس، هناك تقع بلدة أوفير سور واز، بالقرب منها في حقل مجاور أطلق فان غوغ الرصاص الحي على نفسه من مسدسٍ تم بيعه فيما بعد في مزاد  علني ضمن معرض البازرات الذي أُقيم في مركز "دردو" البارسي بـ 162500 يورو، وأما الشفرة التي صلم بها أذنه فهي لا تزال موضع بحث جار.

بذلك أنهى فينيست فان غوغ حياته الفنية والشخصية.