01-فبراير-2023
كتاب عبد الله العروي.. من التاريخ إلى الحب

كتاب عبد الله العروي.. من التاريخ إلى الحب

يُورد الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران في كتابه "في الجماليات" مُلاحظة يتحدّث فيها عن الرواية ويؤكّد ضمنها أنّ ما تتميّز به من طبيعة عابرة للتخصصات يُعطيها قدرة استثنائية على الإحاطة بمختلف جوانب التعقيد الإنساني، وهو ما يجعلها مختلفة عن العلوم الإنسانية وتخصصاتها المتعددة، فكلّ علم من تلك العلوم يأخذ جانبًا من جوانب التعقيد الإنساني ويدرس الإنسان عبر التركيز على هذا الجانب، فهيَ بحسبه ينقصها "معرفة الإنسان في تعقيده"، والإنسان فيها "منقسم ومجزأ بين التخصُّصات".

يعتبر عبد الله العروي أن الرواية، بسبب طبيعتها العابرة للتخصصات، شكل التعبير الحرّ الأقرب إلى قلبه، لأنّها تُمكنّه من الإحاطة بمختلف جوانب التعقيد الإنساني

يُورد موران في ملاحظته تلكَ حول الرواية مقارنة بالعلوم الإنسانية وتخصصاتها المختلفة بأنّ ما يُميّز الرواية هو إبرازها للتعقيد الإنساني، فهي بحسبه "تُظهر الحياة غارقة في العلاقات المتبادلة والتفاعلات، حياة مغمورة في زمان ومكان ومجتمع هنا الآن. هذا بالفعل ما تعيده لنا الروايات العظيمة التي تحدَّثنا عنها، من بلزاك إلى موسيل وبروست؛ إنها كذلك حياة بالمعنى المادي والبيولوجي للكلمة. تدعونا الرواية، بشكلٍ لا يمكن الاستغناء عنه، إلى المعرفة المبهورة بالحياة والباهرة للحياة. بالطبع، هناك تكامل مع العلوم الإنسانيّة والأنثروبولوجيا والتاريخ وعلم الاجتماع والاقتصاد وعلم النفس، والتي تكون منفصلةً في التخصُّصات، لكن الرواية توحِّدها في طبيعتها المُتمِّردة، إنها في الحقيقة ذات طبيعة عابرة للتخصُّصات".

ويُمكن أخذ ملاحظة موران السابقة والانطلاق منها في الحديث عن كتاب "عبد الله العروي: من التاريخ إلى الحبّ"، وهو كتاب تضمن حوارًا أجراه محمد الداهي مع العروي، وشاركه في طرح أسئلة الحوار عليه الروائي والناقد محمد برادة، فالعروي يظهر في الكتاب باحثًا ومفكّرًا لا في الفلسفة والتاريخ وأطرهما بل في الرواية وتنظيراتها، موضّحًا أنّه يعتبرها بسبب طبيعتها العابرة للتخصصات شكل التعبير الحرّ الأقرب إلى قلبه، لأنّها تُمكنّه من الإحاطة بمختلف جوانب التعقيد الإنساني.

يتضمن الحوار مع العروي في الكتاب ثلاثة محاور رئيسة؛ محور أول يقوم فيه العروي بالتحدّث وسرد ملاحظاته حول الرواية في الآداب العالمية، ومحور ثانٍ يقوم فيه بتقديم آرائه وانتقاداته حول تجربة الرواية العربية، ومحور ثالث يقوم فيه بالإضاءة على تجربته الروائية والنقدية (يتحدّث العروي في الحوار عن أربع روايات كان قد نشرها إلى حدود عام 1996 هي: "الغربة"، و"اليتيم"، و"الفريق"، و"أوراق").

كان لافتًا في محاور الحوار ما أوضحه العروي من أنّ سرّ انحيازه إلى كتابة الرواية وتفضيلها على مختلف إنتاجاته الفكرية والبحثية هو إدراكه أنّ العلوم الإنسانية مهما بلغت في قدرتها على الإنتاج والتحليل تبقى عاجزة عن التعبير عن ذلك الشيء "الذي نخاف أن يضيع منا"، وهو الشيء الذي أخبر عنه محمد برادة في توطئته للكتاب بأنّه "ماثل في ثنايا النفس ومدارك الروح ومسالك الأهواء والرغائب"، ولا يُمكن الاقتراب منه إلا من خلال سلوك مسالك التعبير الأدبي وعبر طرائقه.

وفعلًا، كان هناك أكثر من موضع في الحوار عبّر فيه العروي عن اتخاذه الرواية للتعبير عن ذلك الشيء الذي ذكره برادة في مقدمته للكتاب، فقد ذكَر العروي في موضع من مواضع الحوار "إني لا أميل إلى الرواية إلا بدافع تجاوز ما يظهر من صرامة في تحليلاتي الأيديولوجية والتاريخية"، كما ذكَر في موضع آخر "ما يميّز الكتابة الروائية هو أنها تبحث عن أشياء خارج المضامين المعقلنة والمذكورة عند الفلاسفة والأيديولوجيين والمؤرِّخين. فإذن هناك تجربة نفسانية، بكيفية من الكيفيّات، تدعو المرء إلى نوع من الاستكشاف. وفي نظري، بما أنني لست شاعرًا ولست فنانًا، فلم يبق لي إلا هذا الميدان وهو ميدان الرواية الذي أبحث فيه عما لم يعبّرِ عنه الآخرون لأنهم لم يمرّوا بتجربتي".

يؤكّد العروي بأنّ تفضيله للرواية كشكل كتابي تعبيري نابع من كونها تُمثّل بالنسبة له ميدان تعبير حرًّا، تكون الكتابة فيها ومن خلالها تجربة ذهنية تتناول التاريخ والسياسة والاجتماع والاقتصاد وكافة العلوم الأخرى

العروي يؤكّد في حديثه السابق بأنّ تفضيله للرواية كشكل كتابي تعبيري نابع من كونها تُمثّل بالنسبة له ميدان تعبير حرًّا، تكون الكتابة فيها ومن خلالها تجربة ذهنية تتناول التاريخ والسياسة والاجتماع والاقتصاد وكافة العلوم الأخرى، فالروائي، بحسبه، يكتب الرواية بخبرة من يَمتلك ثقافة موسوعية، فهو يَستخدم ما يعرفه عن العلم والفلسفة والقانون واللغة وغيرها ليكتب إنتاجًا فريدًا لم يسبقه إليه أحد من قبله، حيثُ يقول في هذا السياق "هناك ملايين من الناس فكّروا مثلي.. إذا فكّرت في الفلسفة وفي أسباب المعرفة أو في العلوم فأنا تلميذ وسأبقى تلميذًا، لأنّ هناك ملايين من الناس سبقوني إلى هذا الميدان، ولهم إمكانات تفوق مئات المئات ما يمكن أن أحرزه". ويؤكّد "إذا ما كتبت في الرواية فيمكن لك، بكيفيّة من الكيفيات، أن توظِّف جميع المعلومات، وحينئذ تكون لديك، بالضرورة، نظرة موسوعيّة ليس، فقط، عن المجتمع الذي تنتمي إليه بل ربّما عن التّاريخ والإنسانية جمعاء".

في عنوان الكتاب؛ "عبد الله العروي: من التاريخ إلى الحبّ"، دلالة وتأكيد واضحان على تلك الحالة الحميمية التي تنبثق في قلب العروي وروحه كلّما أقدم على كتابة مُنتج روائي جديد، يتجاوز فيه صرامة التحليلات الفكرية والأيديولوجية، ويذهب إلى التعبير عن مكنونات نفسه وذاته منتقلًا من التاريخ إلى الحبّ، وعابرًا من الحمولات والسرديات التاريخية الكبرى إلى ذاته وذات الآخرين التي لا يُمكن التعبير عنها وتناولها بتعقيداتها ودقائقها المختلفة إلا بالرواية، تلك المرآة التي -بتعبير العروي- "نضعها على الطريق وتعكس كلّ شيء".