14-ديسمبر-2020

كتاب #ستّي_ الفلسطينية

فاتنة الجمل ومحمد الزقزوق

كتاب #ستّي_ الفلسطينية قصة لليافعين كتبتها هدى الشّوا ورسمت غلافها حنان القاعي، صدرت مؤخرًا عن مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي في فلسطين. يقع الكتاب في 107 صفحة من القطعِ المُتوسط، ويتحدث عن فتاةٍ فلسطينيّة من الجيلِ الفلسطيني الثالث بعدَ نَكبةِ العام 1948، تُدعي فريدة، لأسرةٍ فلسطينيّة هاجرت للمرّةِ الأولى من مدينةِ حيفا بعدَ النكبة، لتستقر في حلب، إلا أنها تهاجرُ للمرّةِ الثانية، بفعلِ الحربِ السورية إلى باريس، حيثُ تقيمُ هناك كلاجئة، وتعمل، ناسخة للّوحات الفنيّة الكلاسكيّة وخاصة أعمال هنري ماتيس، والتي رَسَمها أثناء رحلاته الاستشراقيّة إلى المغربِ العَربي. تتعرفُ فريدة في منفاها الباريسي على مازن، شابٌ فلسطيني من الجيل الثالث أيضًا ومن أسرةٍ  مُهاجرةٍ من نفسِ المدينة، تنشأُ علاقةٌ بينهما، يتبادلان من خلالِها الذاكرة الفلسطينيّة إلى أن تنتهي القصة بعدَ مسارٍ من المُقاربات والمفارقات، بحلم العودة إلى مركز السيرة الأولى، فلسطين.

الزمان والمكان، الشخصيات والسرد

تقع أحداث القصة في حقبة معاصرة، يدل عليها استخدام مفردات مثل سكايب وواتساب، وبصريًا نجد أن العنوان يأخذ شكل هشتاق على غلاف الكتاب #ستّي_ الفلسطينية، وهناك إشارات لأزمنة أخرى في العمل في الفترة الزمنية قبل وأثناء وبعد وقوع النكبة العام 1948.

بينَ الشرقِ والغرب دارت أحداثَ كتاب "ستي الفلسطينية". في تجوال بين الأمكنة والأزمنة

راوحت الكاتبة في أسلوبها بين السرد المباشر على لسان راوية القصة وهي فريدة عند تناولها الأحداث في الوقت الحاضر، وبين أسلوب الاسترجاع الـ flashback في سرد الأحداث التي وردت في الماضي على لسان الجدات. مكانيًا، تقع أحداث القصة في باريس-فرنسا حيث تعيش فريدة وتمارس عملها وتلتقي بمازن، لكن القصة تناولت أحداثًا وقعت في حلب- سوريا وفي القدس- فلسطين ما قبل النكبة.

اقرأ/ي أيضًا: رواية "قلب أبيض جدًّا".. الماضي جحيم الغد

تضم شخصيات القصة فريدة معلوف اللاجئة التي تعيش في باريس، وجدتها فريدة اللاجئة إلى حلب- سوريا ومسيو جواكيم وهو رجل أعمال فرنسي، ومسيو رينيه باسكال الذي يعمل مع مسيو جواكيم. وهناك مازن سلوم الشاب اللاجىء لأوروبا أيضا وجدته ليلى، تُشكل فريدة الشخصية المركزية في القصة، حيث تبدأ القصة بها، "اسكبي فيها ألوان الشرق يا فريدا"، بهذه العبارة تفتتح الكاتبة القصة حيث تبدأ بحياة فريدة التي تقلد لوحات الفرنسي هنري ماتيس وتسكب فيها ألوان الشرق وتجعلها نابضة بالحياة.

عن الشرق والغرب، حلب وباريس

بينَ الشرقِ والغرب، أدارت الكاتبة أحداثَ الكتاب، بسرديّةٍ تتجوّلُ في باريس، بِمتاحِفِها وفنانيها وشوارعها ومقاهيها وأنوارها، في متحفِ الّلوفر والحيّ اللاتيني ونهر السين ومقهى شكسبير وشركاه، في سموات باريس الحالِكة والمُبلدة، ثم حلب ومساجِدِها وكنائِسها وأزقتِها القديمة، وجامِعِها الأُومويّ ومِعمارِيتِها المَمْلوكيّة وأسواقِها وعطاريها وسمواتها الساطِعة المُشرقة، بين هاتين المشهديتين، تُديرُ الكاتبةُ حوارَ الشَرقِ والغرب، الغرب الّذي ينظرُ من أعلى، بعين المُستكشف والباحث، حيثُ يتحوّلُ الشرقُ إلى موضوعٍ بالنسبةِ للمستشرقِ، الّذي يحددُ سَلفًا كيف يرى هذا الشرق، لذا فإنَهُ يتوقعُ منَ الدراسةِ الاستشراقيّة أن تُدّعمَ هذه النظرة، وعنها يقول إدوراد سعيد في كتابةِ الاستشراق "الشرقُ الّذي رآه وزاره لتوه في صورة "أممٌ بلا أراضٍ ولا أوطان ولا حقوق ولا قوانين ولا أمن، تنتظرُ في قلقٍ حماية الاحتلال الأوروبي لها" (1)، ووفقًا لنفسِ المَنطق يتعاملُ مسيو جواكيم، صاحب جاليري اللوحات والتُحف والإنتيكات مع فْريدا، التي يرفضُ حتى أن يكلّفَ نفسه عناء لفظِ اسمها بالطريقةِ الصحيحة، تقول فريدة في  القصة "كم أكره أن يناديني فْريدا، يستسهل تهجئة (فريدا) لقربِ الاسم من أسماء اللغات الأوروبية، بتسكين حرف الفاء" (2).

تقولُ هذه العبارة، أنه ببساطة لا يُمكِنهُ أن يرى فريدة من الشرق، لاجئة فلسطينية سورية، فنانه وتستطيع أن ترسمَ اللوحات بدقةٍ عالية، لذلك يقول فْريدا، يُسقِطُ اسمًا جديدًا غربيًا، حيثُ الأجدر أن يكون المبدع غربيًا، ووفقًا لذات المنطق أيضًا يعتني ميسو جواكيم بالقط ميلو أكثر من فريدة التي تشعرُ بتسلطِ القط الأوروبي عليها، ووفقًا لذات المنطق مرّة أخرى يري هنري ماتيس الشرق، من خلالِ لوحاتِهِ التي رَسَمَها أثناء رحلته إلى الشَرق، إلى طنجة، إلى بلادِ الشَمسِ العالية، والألوانِ الصاخِبة، والقصور ذاتِ الأعمدةِ الرُخاميّة المُرصعَة والمزخرفة، والنساء المثيرات المُتكئاتِ على السجاجيد والأرائك في القصور والحرملك. 

وعلى ذاتِ المِنوالِ تنسِجُ الكاتبة في تاريخ العلاقةِ التي بين الشرقَ بالغرب، ذاكرةُ الجدة الحيفاوية في حلب، والتي ترفضُ أن تصبحَ لاجئةً للمرّةِ الثانية، الجدةُ ذاتِ العيونِ الخضراء والشَعر المُتعرج كشَعرِ اسمهان، والماكِثة في ذاكرتها، إلى جوارِ ما تبقى من مفراد هذه الذاكرة، البيت القديم، وصورة الزوج على الحائط، ومزهريّة أعواد الرياح على الطاولة من جهة، وذاكرة ليلي جدة مازن صديق المنافي والاغترابات والبحث عن منابع السيرة الأولى من جهة أخرى، من خلال صندوق ليلى الذي ورثّتهُ لحفيدها مازن والّذي يحتوي مجموعة من الرسائل عن قصة حب قديمة بين الجدة ليلي وفنان مستشرق بريطاني يزور حيفا، بُعدٌ جديدٌ في العلاقةِ بينَ الشرقِ والغرب تقدمهُ هذه الرسائل، حيثُ وليام ديكسون الرسّام البريطاني القادم إلى الشرق والعلاقة مع ليلي الفتاة الحيفاوية، علاقةُ حبٍ طارئِةٍ تنشأُ مع الّلوردِ البريطاني، الّذي يرى ليلي الفتاة الجميلة، كما يرى الغربي جمال الشرق، بنفس تلك النظرة التي رأى فيها ماتيس جمال طنجة وبحر ضجة وألوان طنجة يقول في وصفها "تبدين كغزالةٍ بريّة" تشبيه يغوصُ في نظرةِ المُستشرق، وجدَ فيها النقيض لحالةِ الثباتِ والتَمركزِ والمُكوثِ الأوروبي الطويل والكئيب، وجدَ فيها غزالةً نَشِطةً وثّابةً دائمةَ الحركة، تفيضُ بالحياةِ كما هو الشرق المتقدة بروحِ الحياةِ وأشكالِها المُختلفة، ثم يقول "تبدين أكثر جمالًا بهذا الثوب التقليدي" الثوبُ المطرز والمليئ بالألوانِ والتفاصيل، التي هي ألوان مفرادات حياة هذا الشرق.

رحلات الاستشراق الطويلة أورثت الاستعمار ثم ورّثَ الاستعمار الاحتلال، والآن يورّثُ الاحتلالُ الشفقة على فلسطيني الجيل الثالث

وهذا الإعجاب وإن سكبَ مشاعرَ حبٍّ في كيانِ وليام ديكسون، ظلَّ حبيس إعجابِ عيونِ المُستشرق وعقلهُ الّذي لا يُمكِنّهُ أن يطوّرَ هذا الإعجاب إلى استحقاقِ الحبِّ المُتكافئ والنِديّ، ومن دولةِ وليام ديكسون أصدرَ بلفور وعدَهُ لليهود في وطنٍ قوميّ لهم في فلسطين، التي يعتبرها بلفور وزير خارجيّة وليام ديكسون أرضًا بلا شعب، نفسها الأرض التي يهيمُ فيها أحدُ مواطني بريطانيا باحدى فتياتها.

اقرأ/ي أيضًا: أليس ووكر في رواية "اللون الأرجواني".. نُدوب من الداخل والخارج

ثم تأتي حرب الـ 48 وتضع العلاقةَ بينَ الشرقِ والغربِ على المحكِ الحقيقي، العلاقة بين فكرةِ الإعجابِ بالموضوعِ الشرقي مقابل استحقاق الحب، تقول ليلي في واحدة من الرسائل إلى وليام "هذا يوم لا يُنسى... يوم قيامة البحر، بحر حيفا الأزرق الوديع أصبح وحشًا غدّارًا قاسِيًا يلفظُ أهله إلى موانئ المجهول". تقول له أن بحرَ الشرق الّذي جئته ُباحثًا عن الروح، عن الألوان والطاقة، أصبح مُوحشًا وغدّارًا، لقد تغيرَ جمالُ الشَرق، بفعلِ ما جاءَ منَ الغرب، من حيثُ أتيت.  

ووليام على الضفةِ المقابلة، يعيدُ ترتيبَ الحالةِ بِمحدداتِ المُستشرق وبتصوراتِهِ السابقة، يُنِهي القصة بترضيةٍ ووداعٍ سريعين. يقولُ في الردِ على الرسالةِ "أتفهمُ أنَ عائلتك لن تتقبل أن تتزوجي من أجنبي، هم يودون لك زوجًا من ملّتك ودينك، وأنا أحترم عاداتكم وتقاليدكم". يقابل وليام القادم من الغرب استغاثة الحبيب الشرقي، بالتفَهم والاحترام، دونَ أن يُقحِمَ نفسه في آتون النار، كما فعل قيس بن المُلّوح الشاعر الشرقي الّذي أُعجِبَ وليام في اشعاره، لكنه رفض أن يكون مثله.

والنظرةُ إلى الشرق هي امتدادٌ لتاريخِ طويل، رحلات الاستشراق الطويلة أورثت الاستعمار ثم ورّثَ الاستعمار الاحتلال، والآن يورّثُ الاحتلالُ الشفقة على فلسطيني الجيل الثالث، الّذي تسبب هو في تحويله إلى مُهجّر المرّة تلو الأخرى.

عن الهوية وتشكلاتها، بين الماضي والمستقبل

تعالج القصة ثيمة الهوية، الفردية والجمعية، حيث تقدم الكاتبة هذه الفكرة من خلال حياة الشابة فريدة التي لجأت لباريس بعد أن لجأت عائلتها لحلب من فلسطين، بكل تناقضات هذه الحياة. فريدة الشابة، تقلّد لوحات رسمها فنان فرنسي. فمع أنها موهوبة، إلا أنها وفي بداية تشكل موهبتها آثرت أن تقوم بتقليد الفن بدلًا من صناعته وإنتاجه ذاتيا؛ لحاجتها لكسب عيشها في بلد لم يعد يرحب بالغرباء، تركز القصة على الاغتراب الذي يسبب مزيدًا من الإرباك في العثور على الهوية، حيث إن فريدة الشابة، هي لاجئة فلسطينية عاشت عائلتها في حلب السورية وتعيش هي الآن في باريس الفرنسية. وبالتالي هناك تعاقب منفيين في حياة فريدة القصيرة زمنيا، أي أن حضور المنفى كثيف للغابة في هذه الفترة الزمنية القصيرة التي هي حياتها، بكل ما يعنيه المنفى. تشكل فريدة حالة فردية وجماعية للاجئين السوريين والفلسطينيين، حالة يسمها الضعف والتشرذم والفقر والشعور بالنبذ والدونية، وتعاني فريدة بشكل كبير من مظاهر التمييز الذي يمارسه الأوروبي ضد اللاجئين، ويشكل لها القط ميلو تذكيرًا بهذا الغربي الأبيض. تلمس فريدة الشابة مظاهر هذا التمييز والدونية والقسوة التي يعامل بها الغربي اللاجئين في كل ما حولها، "ثمة قسوة في سحنة مسيو (رينيه باسكال) وتصفه بالزائر الثلجي في إشارة إلى بروده.

تصر مؤلفة "ستي الفلسطينية" على تقديم فسحة من الأمل والتفاؤل باستمرارية الأجيال الشابة وقدرتها على المضي قدمًا

تبدأ ملامح الهوية تتشكل لدى فريدة الشابة عند لقائها بمازن، حيث يجمعهما الماضي المشترك، حيث يبرز التداخل وأحيانا الصدام بين الماضي والحاضر، فالماضي حافل باللجوء والمنافي الأولى والمنافي الثانية، والشتات والذكريات والحنين للجدات والأسواق وملامحها ذات الطابع العربي الأممي، وهناك الحاضر وكل ما فيه من مظاهر الحداثة والعولمة والمتجه لتشكيل هوية جمعية عالمية تذوب فيها الأممية والقومية والعرقية وتحتل فيها التكنولوجيا مكانة بارزة بأدواتها المختلفة التي وردت لها إشارات عدة في النص "تحيط بنا لغات العالم" تقول فريدة الشابة في إشارة لكل هذا التنوع الذي يزخر به العالم الحديث وكأنه يحيط باللاجئين الشابين الذين يحاولان العثور على ملامح لهويتهما.

اقرأ/ي أيضًا: الشاعرة نائلة أبو طاحون.. الشعر وخطورة التجربة الأولى

يشكل الأجداد قاعدة أساسية في الانطلاق لتشكيل الهوية في الذاكرة الفردية والجماعية، "كانت جدتي فريدة هي خازنة مرويات النكبة وتفاصيلها"، غير أن الأجيال الشابة ممن تعاقبت عليها مناف عدة، تبحث بشكل محموم عن هويتها بكل ما في عملية البحث هذه من إرباك تخلقها النظرة الاستشراقية للاجئين من جهة والعولمة والحداثة من جهة أخرى يضاف لها الإرث التاريخي والاجتماعي الذي تحمله الأجيال الشابة وتصرّ عليه، كل هذه العوامل تجعل المهمة في تشكيل هويتها مخاضا عسيرًا.

غير أن الكاتبة تصر على تقديم فسحة من الأمل والتفاؤل باستمرارية الأجيال الشابة وقدرتها على المضي قدمًا، وهدم الصور النمطية وتكسير الحواجز والعثور على طريق ما تكون لهم فيه ملامح وهوية تشبههم.

وتتكرس هذه الفكرة في غلاف القصة الذي يسلط الضوء على هذه المهمة الشاقة للأجيال الشابة، حيث تُلبس الجدة الحفيدة عقدها فيما ترتدي الشابة ملابس عصرية حديثة. الجدة في الغلاف تنظر للشابة بينما تنظر الشابة للأمام وفي ذلك إصرار على رسم طريق لمستقبل حديث مبني على إرث الماضي وتراثه وهويته.

وفي نهاية القصة، تتمكن بطلة القصة فريدة الشابة من رسم لوحة لامرأة تشبهها هي، والتي تجسد هويتها، مستقبلها، ومستقبل جيل كامل من الأجيال الشابة للاجئين، "امرأة تكاد تحرقني بشعاع نظراتها، منتصبة القامة، تحدق بثبات وثقة، بجموح. أحدق مجددا باللوحة التي أنجزتها. أكاد أرى ملامح لهيئة لم أكن قد رسمتها، كأنه طيف أو شبح تسلل إلى اللوحة. هل رسمته دون أن أعي ذلك؟ أعيد النظر فأرى جناحين من الريش الأبيض قد نبتا من كتفي الأنثى الواقفة.

هذه لوحتي، هذه أنا!".

 

هوامش:

  1. إدوارد سعيد، الاستشراق، دار بنجوين، 1995
  2. هدى الشوا، #ستّي_الفلسطينية، مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي، رام الله، 2020

 

اقرأ/ي أيضًا:

رواية "عن إخواننا الجرحى".. بين أسنان الماكينة الاستعمارية

رواية "لم يصل عليهم أحد".. العشق بحد ذاته صلاة