03-ديسمبر-2020

لوحة للواسطي

"دعوة إلى العقلانية: حوار الفلاسفة المسلمين مع التراث الغربي" هو عنوان الكتاب الصادر مطلع هذا العام عن "الشبكة العربية للأبحاث والنشر" للفيلسوف السنغالي سليمان بشير ديان، بترجمة طلعت فاروق محمد. يمثل مشروع ديان محاولة جادة لتوفير أرضية مشتركة يمكن أن تجمع فعل التفلسف الإنساني داخل بوتقة واحدة، وتعيد صياغة تاريخ الفكر الإنساني صياغة جديدة غير متحيزة وبعيدة عن النظرة المركزية الغربية التي احتكرت الفلسفة، واعتبرتها نشاطًا يخص الرجل الأبيض، مقابل إلصاقها لكل ما هو غير عقلاني وميتافيزيقي وغرائبي بالشرق: آسيا وأفريقيا وسائر الدول غير الأوروبية.

يمثل مشروع سليمان بشير ديان محاولة جادة لتوفير أرضية مشتركة يمكن أن تجمع فعل التفلسف الإنساني داخل بوتقة واحدة

وقبل ظهور هذا الكتاب الذي نتناوله اليوم، صدرت للكاتب عدة كتب أخرى تخدم الغرض نفسه، لعل أهمها كتاب "برغسون ما بعد الكولونيالي" (دار توبقال للنشر، 2019) الذي قدم فيه دراسة تقارن بين فكر الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون من جهة، وبين اثنين من أعلام دراسات ما بعد الكولونيالية من جهةٍ أخرى، وهما محمد إقبال وليوبولد سيدار سنغور اللذين حاول تتبُّع تأثرهما بالنظرة "البرغسونية" للكون وللعلوم والقيم الأخلاقية.

اقرأ/ي أيضًا: "ابن تيمية وعصره" كما تراه الأكاديمية الغربية

ومن الأعمال الأخرى التي لاقت بدورها صدىً عند القارئ الغربي والعربي على حد سواء كتاب "الجدل: حوار حول الإسلام"، الذي ضم بين دفتيه المناظرة التي جمعت الفيلسوف السنغالي بالمفكر الفرنسي ريمي براغ، وصدرت ترجمته إلى العربية مؤخرًا عن داري "الروافد الثقافية" و"ابن النديم".

أما في كتاب "دعوة إلى العقلانية" فإن مسار "التأثر" الذي يسلط سليمان بشير ديان الضوء عليه بدا كامنًا بين الفلاسفة المسلمين والتراث الفكري الغربي، أي أنه مسار جدلي تفاعلي تأثرًا وتأثيرًا غالبًا، إذ يحاول إيضاح كيفية انتقال الأفكار وتوارثها وإثرائها من حضارة إلى أخرى، وإظهار حاجة كل واحدة منها إلى التفاعل الإيجابي مع محاولات الآخر تلمُّس الطريق التي على الإنسان أن يعي عبرها ذاته، ويتواصل مع من يقاسمه إقامته داخل الكون.

أولى المعارك الفكرية

يظهر الطابع الجدلي الذي خُطَّ به الكتاب واضحًا منذ أول فصوله "كيف لنا ألا نتفلسف"، حيث يستعيد الكاتب الجدال الأشهر في تاريخ الفلسفة الإسلامية بين المعتزلة والأشاعرة، ومحاور الصراع الفكري والسياسي بينهما، أهمها العقلانية المفرطة والمبكّرة التي تبناها المعتزلة في تفسير المسائل الدنيوية والغيبية مقابل إهمال الجانب الروحي العقائدي في علاقة الفرد بالله والكون، وهو ما تولّد عنه انشقاق أبو الحسن الأشعري، أحد أتباع هذا المذهب، وتأسيسه مذهب جديد ينتصر لروحانية الدين ويعرض عن المغالاة في التفكير الفلسفي والمنطقي في الوحي، وذلك خلال خطبته الشهيرة من على منبر "المسجد الجامع": "من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي، أنا فلان بن فلان، كنت أقول بخلق القرآن، وأن الله لا يرى بالأبصار، وأن أفعال الشر أنا أفعلها، وأنا تائب مقلع معتقد بالرد على المعتزلة، مُخرج لفضائحهم ومعايبهم" (ص 27).

أما سياسيًا، فقد تواصلت القطيعة بين المذهبين، بل وتطورت لتصل إلى ممارسة الاضطهاد والتغييب والاقصاء، وذلك حسب عقيدة الطرف المقرب من السلطان آنذاك، ولعل أشهر تلك الممارسات هي محنة الإمام أحمد بن حنبل الذي تعرض للسجن والتعذيب في عهد المأمون العباسي، نتيجة معارضته مبدأ "خلق القرآن" الذي يمثل ركنًا أساسيًا في عقيدة المعتزلة التي كانت العقيدة الرسمية للخلافة العباسية.

يتناول كتاب "دعوة إلى العقلانية" تطوير اللغة العربية وتحولها من لغة محاطة بهالة مقدسة إلى لغة فلسفية مؤهلة للخوض في تساؤلات العقل الكبرى حول الوجود وماهيته

في ثاني فصول الكتاب، يتناول ديان مسألة تطوير اللغة العربية، وتحولها من لغة محاطة بهالة مقدسة باعتبارها لغة النصوص الدينية المؤسِّسة، إلى لغة فلسفية مؤهلة للخوض في تساؤلات العقل الكبرى حول الوجود وماهيته، بالإضافة إلى التفكير في حياة الفرد البسيطة، قبل أن يسلط الضوء على جدالاتٍ فكرية عديدة دارت في هذا الصدد منذ تأسيس المأمون لبيت الحكمة عام 832 م، وهو البيت الذي اضطلع بمهمة ترجمة الفلسفة الهيلينية، اليونانية، إلى اللغة العربية.

اقرأ/ي أيضًا: مُرافعة دفاعية في كتاب "سقوط الدولة الإسلامية ونهوضها"

ولعل أشهر هذه الجدالات هي المناظرة التي دارت، بحسب رواية أبي حيان التوحيدي، بين الفيلسوف المسيحي المناصر لحركة الترجمة أبي بشر متى ابن يونس المنطقي، وأبو سعيد السيرافي الذي يعتبر أحد أشهر النحويين العرب الذين حملوا على عاتقهم مهمة حماية اللغة وأصالتها من التهجين الذي قد يلحق بها نتيجة نقل مصطلحات من الفلسفة القديمة إليها بطريقة تعسفية.

ولكن، من جهةٍ أخرى، برزت شخصيات وأصوات نيِّرَة من داخل حقل علم الكلام والنحو، أبرزها المتكلم المعتزلي أبو عثمان الجاحظ الذي قدّم كتابات شديدة "الحداثة"، كما وصفها سليمان بشير ديان، حول الترجمة وأهميتها، رغم كونها تتسبب وبالضرورة بإلحاق الضرر بإحدى اللغتين.

الفلسفة مكرّسةً داخل الخصوصية

يستحضر الكاتب السنغالي ما ورد في فهرس ابن النديم عن رؤيا الخليفة المأمون للفيلسوف أرسطو طاليس في منامه، والحوار الذي دار بينهما بعد أن بادر الخليفة بالسؤال عن أولويات الحاكم في حكمه، فرتبها له الحكيم اليوناني: العقل، ثم الشرع، وبعد ذلك الجمهور، بالإضافة إلى أنه أوصاه في نهاية المنام بالتوحيد.

وإن كان أرسطو قد تجلى للمأمون بهيأة رجل أوروبي أشقر ذي عينين زرقاوين، إلا أن فحوى ما أوصاه به يحيل إلى أن الفيلسوف في مخيلة صاحب الرؤيا كان موحِّدًا مؤمنًا بالوحي والشرع الإسلاميَين. وإذا بدا الأمر للوهلة الأولى سخيفًا، إلا أن الدلالة الأبعد لما صورته مخيلة المأمون له بدت نابعة من إيمانه المسبق بأن الحكمة يمكن أن تكون إسلامية، وأن التمنطق والتحليل العقلي للخلق والمسائل الغيبية كذلك ليس بالضرورة أن يكون على حساب الإيمان بها.

يصف الباحث الفلسطيني جورج زيناتي في كتابه "الفلسفة في مسارها" هذا الحلم بـ "الحدث المؤسس" الذي استطاعت الفلسفة من خلاله أن تجد لنفسها موطئ قدم داخل الثقافة العربية الإسلامية، إذ تمكنت حينها من توفير طريقٍ لمن انشغل بها يتيح له البحث والتفكير والتساؤل خارج الإطار النمطي للتفكير داخل هذه الثقافة.

بالنسبة للخليفة المأمون، الحكمة يمكن أن تكون إسلامية، والتمنطق والتحليل العقلي للخلق والمسائل الغيبية ليس بالضرورة أن يكون على حساب الإيمان بها

ويضع زيناتي في هذا السياق الحلم أعلاه داخل مسار متكون من ثلاث أحلام مفصلية في تاريخ الفلسفة الإنسانية عامة، أولها حلم سقراط في سجنه، كما ورد في محاورة قريطون لأفلاطون، بـ "امرأة جميلة مهيبة ترتدي زيًا أبيضَ وتناديني قائلة: بعد ثلاثة أيام ستكون في الأرض الخصبة". أما الحلم الثاني فهو حلم المأمون بأرسطو، ثم حلم أو أحلام رينيه ديكارت الثلاثة التي أنبأت بنهاية ماض فكري مهيمن تمثل في السكولائية الإكوينية والأرسطية.

اقرأ/ي أيضًا: كتاب "معضلات العدالة الانتقالية".. قصة التحول الديمقراطي التي لم تكتمل

وإن كان أصحاب الرؤى الثلاث السابقة اعتُبروا روادًا في عصورهم لحركة التحرر من طغيان المسلّمات والعقائد الميتافيزيقية المكبلة للعقل وللتحليل المنطقي للظواهر والكون؛ إلا أننا نلاحظ أنهم احتاجوا في مسعاهم هذا إلى توظيف الرؤيا والأسطورة المنافية بطبيعتها للعقلانية، وذلك بهدف إضفاء قدر من القداسة اللابشرية على الأفكار التي بشروا بها.

وبغض النظر عما إذا كانت هذه الأحلام قد حدثت أم أن أصحابها قد اختلقوها، إلا أنها نجحت إلى حد كبير في إيجاد طريقٍ وسطيٍ تراوح بين الدعوة إلى العقلانية وبين ضمان قبول المجتمعات لأفكار جديدة أو دخيلة عليه دون صدام.

يكمن جوهر هذه المراوحة وأهميتها في جعل السماء، لأول مرة، تتجلى في الأرض على شكل حكمة إنسانية. بتعبير آخر أوضح، أثبتت هذه المراوحة أن "العقلانية لا تستبعد بالضرورة الأسطوري، بل تحتويه وتجعل منه نقطة انطلاقها. كل العلوم قد أعطيت للعقل الإنساني ويكفي أن يجرؤ في الذهاب حتى آخر الحدود كي تحدث المعجزات الحقيقية للعلم والتكنيك"(1).

العقلانية لا تستبعد بالضرورة الأسطوري، بل تحتويه وتجعل منه نقطة انطلاقها

وبالعودة إلى حلم المأمون، نجد أنه يدرك أن معارضة قوية قد تجابه مشروعه الحضاري، وترفض الفلسفة والعلوم المتعلقة به بحجة أنها بضاعة غربية دخيلة، خصوصًا وأن هذا المنام بدا تأكيدًا لمنزلة أرسطو من جهة، ولفكرة أن السماء تؤيد حكمة الأقدمين، وإن كانوا وثنيين من جهةٍ أخرى.

حين تجعل السلطة من الفلسفة عدوة لنفسها

تتطور العملية الجدلية في الكتاب بين الفلسفتين الإسلامية والغربية لتبلغ أوجها في عصر الفلاسفة المعلِّقين والشارحين، مثل ابن سينا والفارابي وصولًا إلى زمن ابن رشد. فأبو نصر الفارابي المعروف بتفسيره لقصة المعراج النبوي على ضوء كتاب الروح لأرسطو "De Anima"، كان قد أحدث ثورة في طريقة قراءة النصوص المقدسة، بغض النظر عن درجة تقبّل المجتمع آنذاك لها، وتعاطي المشتغلين في الفكر والاجتهاد معها.

اقرأ/ي أيضًا: خليل العناني.. داخل الإخوان المسلمين

وما ينطبق على الفارابي ينطبق أيضًا على ابن سينا الذي قدّم مقاربة منطقية للمعراج، وجعله عملية متاحة لكل نفس مؤمنة، بحيث تصير الملكات والحواس هي درجات ارتقاء كل ذي حواس إلى السماء، وهو ما يجعل بلوغ العرش ترميزًا لبلوغ الإنسان أعلى درجات سمو العقل، عدا عن أنه يوازي العقل الكلي الكامل، أي العقل الإلهي.

وقد تلقى أغلب معاصريه هذا التفسير كبدعة على كل حال نتيجةً لاقتصار أغلب المسلمين حينها، عامةً ومفكرين، على الجانب الإعجازي للمعراج وغيره من القصص القرآنية باعتبارها شرطًا لوجود الأنبياء والوحي، على العكس من النهج الذي تبناه ابن سينا في تفسيرها، حيث جعل منها عملية مشتركة بين جميع البشر، وهو بذلك ينفي أي حاجة لهما، أي النبي والوحي.

ويعد أبو حامد الغزالي من أبرز المناهضين الشرسين لعملية مَنطَقة النص المقدس والموروث التي اشتغل عليها عدة مفكرين مثل الفارابي وابن سينا، وقد خصّص له المؤلف صفحات كثيرة في كتابه لتبيين دوره المفصلي تاريخيًا وفكريًا في تطور الفلسفة الإسلامية ودرجة التحامها وتلاقحها مع ما سبق ولحق من الفكر الإنساني.

وبالرغم من محاولته التوفيق بين روحانية التصوف والعقلانية، بحسب الكاتب، إلا أن ذكر الغزالي سيظل مقترنًا بكتابه "تهافت الفلاسفة" الذي شن من خلاله حربًا لا هوادة فيها على حركة استيراد الفلسفة اليونانية، وذلك عبر ترجمتها والتعليق عليها والاعتماد على مناهجها في تحليل و"تحريف" مسائل ذات خصوصية في الثقافة والدين والعادات العربية الإسلامية.

يبين المفكر العربي البارز محمد عابد الجابري أن الإمام الغزالي لم يكن يعبّر عن رأيه فعلًا حين كتب "تهافت الفلاسفة"، وأنه: "لم يكن مخلصًا فيما كتبه ضد الفلاسفة"، وإنما كان موقفه، بتعبيرنا اليوم، موقفًا أيديولوجيًا صرفًا يحكمه الانحياز لفرقة بعينها في ضوء فترة مضطربة سياسيًا وفكريًا في التاريخ الإسلامي.

تكتسي ردود الغزالي على الفلاسفة أوج خطورتها حين يعمد إلى تفسير الحديث النبوي عن الفرقة الناجية بشكلٍ يجعل من المذهب الأشعري الذي ينتمي إليه الفرقة المقصودة فقط، وكل ما عداها وخالفها في النار، وهو بذلك ينتقل بخطابه من الرد على الحجة بالحجة، إلى إهدار الدم والتكفير.

يعد أبو حامد الغزالي من أبرز المناهضين الشرسين لعملية مَنطَقة النص المقدس والموروث التي اشتغل عليها عدة مفكرين مثل الفارابي وابن سينا

هذا الهجوم المتطرف في حدته كان ليكون مفهومًا، في خضم مسيرة فكرية غنية ومتنوعة، من متكلم أشعري حادَ عن سبيل المتكلمين وسفّههم، ثم التفت إلى الفلاسفة وحقّرهم، قبل أن يستكن إلى التصوّف ويعتنقه إلى آخر عمره، إلا أن الدوافع السياسية التي جاء الكتاب كنتيجة لها، أفقدت صاحبه الكثير من مصداقيته وقيمته الفكرية، وهو ما يقر به الغزالي نفسه لاحقًا في أكثر من موضع، إذ يقول صراحةً: "وكنت في ذلك الزمان أنشر العلم الذي به يكسب الجاه وأدعو إليه بقولي وعملي"، وأن نيّته في ذلك لم تكن: "صالحة لوجه الله بل باعثها ومحركها طلب الجاه"(2).

اقرأ/ي أيضًا: عزمي بشارة مشخصًا حال الخيار الديمقراطي العربي

وبغض النظر عمن يقرؤون الدور الذي لعبه الغزالي خلال تلك المرحلة الناشئة للتفكير العقلاني عند العرب والمسلمين، كونه كان يسعى جاهدًا إلى "الإنقاذ من الظلال" والتشتت في العقيدة، خاصةً في ظل الصراع السياسي بين الاسماعيليين الشيعة والسلاجقة السنة، بالإضافة إلى اعتبار أن ما كتبه كان رد فعل دفاعيٍ أكثر منه هجومي، طالما أن تقويض المذهب الباطني الذي سعى الاسماعيليون والفاطميون من ورائهم إلى نشره في العراق، كان يتطلب زعزعة الاسس الفلسفية التي ينبني عليها (3)؛ إلا أن منهج الخنوع والاستكانة ظل مصاحبًا لسيرة أبي حامد الفكرية، متكلمًا وفقيهًا وفيلسوفًا وحتى متصوفًا.

فالغزالي: "لم يعرض في مؤلفاته على كثرتها سطرًا واحدًا عن الجهاد. وهو أمر يدعو إلى الدهشة. وكان رد فعله إزاء الخطرين معًا، ضعف الخلافة العباسية والسلطنة السلجوقية وتعرض الشرق الاسلامي لحملات الصليبيين وتفاقم خطر حكة الاسترداد النصرانية في الأندلس، يتمثل في الدعوة الى التصوف. ومعلوم أن تصوفه كان يقتصر على التعبد والتنسك والتواكل. على خلاف التصوف العرفاني الذي أعطاه "ذو النون المصري" بُعده الفكري الفلسفي المؤسَّس على العلوم والمعارف النظرية. كما أعطاه الحلاج بُعده النضالي الثوري في الشرق الاسلامي"(4).

في خضم هذا الجدل حامي الوطيس في الداخل، أي بين مفكِّرين مسلمين، لا يفوت سليمان بشير ديان أن يذكرنا بمسار آخر خارجي تثاقفي، وهو وصول كتاب الغزالي السابق للتهافت "مقاصد الفلاسفة" إلى الغرب، حيث تمت ترجمته إلى اللاتينية في نهاية القرن الثاني عشر، ثم نُشر في فينيسيا سنة 1506م بعنوان "Logica et Philosophia Algazelis Arabis"، أو "منطق الغزالي العربي وفلسفته"، وهو الكتاب الذي ألّفه ليفسر ويشرح للناس مناهج الفلاسفة وطرقهم في التحليل تمهيدًا لتبيان تهافتهم في كتابه اللاحق.

هذا الإلمام بالمنطق وأساليبه الذي جعل من "المقاصد" أحد أهم المراجع لدراسة الفلسفة في الشرق والغرب آنذاك، يؤيد إذًا ما قاله ابن عربي الأندلسي بأن: "شيخنا أبو حامد بلع الفلاسفة وأراد أن يتقيأهم فما استطاع"(5).

أسبقية فكرية ما قبل حديثة

بعد الإتيان على الصراعات الفكرية بين من تعاطوا الفلسفة ومناهضيهم مثل الغزالي، ينتقل بنا صاحب "برغسون ما بعد الكولونيالي" إلى وسط آخر مغاير مكانيًا وزمانيًا، وهو الأندلس أواخر القرن الثاني عشر، حيث يرى أن الفلسفة عادت لتشع مع أعلام ذاع صيتهم ولا يزالون محل نقاش إلى اليوم، أولهم أبو بكر بن طفيل الذي تنسب إليه رواية "حي بن يقظان"، والتي تمثل حسب تعبيره: "درسًا في الفلسفة البيئية".

ينشأ حي بن يقظان، بطل الرواية، وسط الطبيعة دون أن يكون متأكدًا إن كان ثمرة لعلاقة بين زوج بشري، أو إن كانت الظبية التي أرضعته هي أمه، أم أن أمه شجرة، أو أن يكون ابنًا للأرض مباشرة، وأن كينونته نتجت عن تفاعل لعناصر أرضية كالحمم الساخنة والماء، قبل أن يشرع في تلمّس طريقه نحو الكمال والمطلق، محاولًا بنفسه الإجابة عن الأسئلة الوجودية التي تؤرقه، وذلك في امتداد واضح للفلسفة السينوية التي تدعو إلى الارتقاء إلى الله باستخدام الملكات.

تعتبر الفلسفة الإيكولوجية اليوم من أكثر المجالات الفكرية نشاطًا، كونها تسعى لصياغة مفهوم جديد لعلاقة تفاعل صحّي بين الإنسان والكائنات غير العاقلة

يقارن سليمان بشير ديان بين الرسالة التي تسعى رواية "حي بن يقظان" إلى إيصالها، وبين المشروع الديكارتي، إذ إن الإنسان حين يتأمل الطبيعة ويدرك ماهيته ودوره داخلها، كما فعل بن يقظان، يمكن أن يقيم علاقة تعايش وتكامل بينه وبين سائر المخلوقات الحيوانية والنباتية على حد سواء، حتى دون أن تأخذ العلاقة بعدًا دينيًا من خلال مفهوم "خليفة الله في الأرض"، و ذلك عل عكس التنوير الديكارتي الذي يرى الإنسان "سيدًا ومالكًا" للطبيعة، يطوعها ويكرسها من خلال العلم والتجربة لصالحه هو فقط، وهو المشروع الذي جعل من تنوير أوروبا ومن ثم حداثتها تصلان بالإنسانية والكون إلى أكبر المآزق التي وصلتا إليه حتى الآن، و نقصد المأزق الإيكولوجي وخطر الفناء الوشيك للأنواع الحية.

اقرأ/ي أيضًا: 4 كتب لا بدّ منها حول الحرية

تعتبر الفلسفة الإيكولوجية اليوم من أكثر المجالات الفكرية نشاطًا، وذلك في مسعى حثيث لإعادة صياغة مفهوم جديد لعلاقة تفاعل صحّي بين الإنسان والكائنات غير العاقلة التي لا تملك تجربة ذاتية.

"هل من المعقول الشعور بالامتنان تجاه شيء لا يمتلك إرادة أو قصدًا؟"(6)، تطرح الباحثة في الأخلاق البيئية كارين باردسلي في مقالتها الشهيرة عن "عقلانية الشعور بالامتنان نحو الطبيعة" هذا السؤال الذي يعارضه شكلًا ومتنًا البروفيسور وائل حلاق، بحجة أن استحالة بلوغنا أي نوع من الإقامة السليمة داخل الطبيعة نابع من الفكرة التي بلورها عصر التنوير، ثم الحداثة، عن الطبيعة بوصفها: "مجرد غرض مادي جامد، بل وغبيّ"(7)، لا دور له سوى خدمة بقاء ورفاهية و"تقدُّم" الإنسان.

في الفصل الذي عنونه المؤلف بـ "فريضة التفلسف"، يسعى الكاتب الى تبيان ما نجح فيه أبو الوليد ابن رشد، تلميذ ابن طفيل، في تقديم الفلسفة على أنها، في أحد تعريفاتها: "هي النظر في الموجودات، وهنا يكمن الدليل على ما أكده (...) على أن دراسة الفلسفة، في نهاية المطاف واجب شرعي، وهذا على الأقل ما يعتقده من لديهم الميول والاستعدادات الروحية" (ص 81).

ابن رشد الذي كان فقيهًا وفيلسوفًا، كان بارعًا أيضًا في التوفيق بين العقائد والعقلانية، وذلك خدمةً للأخيرة، خاصة من خلال مؤلَّفه "فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من اتصال"، ولعل أكثر ما اشتهر به هو رده على "تهافت" الغزالي بعد حوالي قرنٍ على تأليف أبي حامد لكتابه الذي هاجم فيه المشتغلين بالفلسفة.

غير أن بشير ديان في هذا الفصل، وفي سياق انشغاله بتهافت التهافت، يغفل أهم ما في فلسفة ابن رشد، وهو تأثيرها على فلاسفة العصر الوسيط في أوروبا، أبرزهم ألبرت الكبير "Albert Le Grand"، ومن بعده تلميذه توماس الاكويني Tomas Aquinas""، ناهيك عن مسار آخر لانتشار فكر ابن رشد مرتبط بانتشاره داخل الفلسفتين اليهودية والمسيحية عن طريق تلميذيه موسى ابن ميمون وإسحاق البلاغ، بالإضافة إلى دوره في نشأة التحليل النفسي عند فرويد بحسب ما تذكره الباحثة زينب الخضيري في كتابها "أثر ابن رشد في فلسفة العصور الوسطى".

نقاش

رغم أن كتاب "دعوة إلى العقلانية" يقوم باستعراض مهم وثاقب لتاريخ حوار الفلسفة الإسلامية مع الفكر الغربي، إلا أن ما يؤخذ عليه هو كون مسار التأثر والتأثير، كما الأطر الزمنية والمكانية لإشعاع الفلسفة وأفولها داخل الفضاء العربي الإسلامي، بقيت في الكتاب حبيسة عمل تأريخي نمطي واختزالي نادرًا ما تمّت مساءلته أو إعادة صياغته.

سعت الأكاديمية الغربية إلى إخفاء أي أثر لفلسفة ابن باجة الذي أثّر في يوهان ايكهارت، كما في فكر باروخ سبينوزا لاحقًا

فعلى سبيل المثال، جاء مرور الكاتب من الفصل الذي يتناول هجوم الغزالي على الفلسفة إلى الفصل الذي يتحدث عن الفلسفة في الأندلس، مع بن طفيل وابن رشد؛ يضمر رأيًا مسلّم به بأن كتاب "تهافت الفلاسفة" كان بمثابة "ضربة قاضية" للفلسفة في المشرق الإسلامي، وهو ما يفنده الجابري مرة أخرى، ويصنفه في خانة ما يسمّيه "الصواب الموروث" الذي يجب التحرر منه، فبعد وفاة الغزالي "لبس علم الكلام وهو البديل الذي كان أبو حامد يدعو إليه، الفلسفة ولبسته، واستمر ذلك لقرون طويلة، وكما لاحظ ابن خلدون، فقد توغل المتأخرون، من متكلمي الأشاعرة، في مخالطة كتب الفلسفة، والتبس عليهم شأن الموضوع في العلمين فحسبوه فيهما واحدًا من اشتباه المسائل فيهما"10.

اقرأ/ي أيضًا: كتاب "الصوفية اليوم".. قراءة معاصرة في مجتمع التصوف ونماذجه

من ثغرات الكتاب كذلك ميل ديان في استعراضه لعملية التأثر والتأثير الفكري بين الشرق والغرب، منذ الإغريق وحتى مفكرين معاصرين من أمثال محمد عبده وعلي عبد الرازق ومحمد إقبال، ميله إلى إهمال أو غض الطرف عن التاريخ الطويل لإنكار دور الفلاسفة المسلمين في الرحلة الفكرية الإنسانية، مثل إخفاء الكنيسة وإنكارها لأي تأثر لفيلسوف المسيحية الأول توماس الإكويني، المشار إليه سابقًا، بفكر ابن رشد الذي كان ولا يزال انتمائه إلى حضارة معادية سببًا لحجب دوره التاريخي، وفي أحسن الأحوال حصر دوره كشارح، وفي أحيان كثيرة كمحرّف للأرسطية.

كما سعت الأكاديمية الغربية إلى إخفاء أي أثر لفلسفة ابن باجة الذي يغيب أي ذكر له في هذا الكتاب أيضًا، وأثره على التصوف العقلاني ليوهان ايكهارت، كما في فكر باروخ سبينوزا لاحقًا، خاصةً في مؤلَّفه الأهم "علم الأخلاق".

يظل مشروع سليمان بشير ديان مهمًا لكونه يحفر في التاريخ الفكري للأمم غير الأوربية، ثم يخضعها للتمحيص والمقارنة مع السردية الفلسفية الرسمية التي ما انفك الغرب يحاول التفرد بها، إلا أن هذه المساعي قد لا تكون ذات تأثير كبير، بل قد يكون تأثيرها عكسيًا إذا تناولناها من زاوية نظر أكثر راديكالية، مثل منظور وائل حلاق الذي يرى أن أي نشاط فكري يكون ميتًا بالضرورة، وغير ذي جدوى معرفية كبيرة، طالما أنه يستعين بوسائل معرفية ويتبنى إبستيمولوجيا هي وليدة نطاق السلطة السياسية أو المعرفية نفسها التي يدّعي نقده وتقويضه لها.

بعبارةٍ أخرى، إن نقد التسلط المعرفي وتمركزه الأوروبي لا يكون من خلال إجراء دراسات مقارنة بين مدارس فكرية غربية ومفكرين غير أوروبيين، بل عبر مساءلة البنية المعرفية الإقصائية للحداثة الأوروبية والحقول المتعلقة بها، أي الفلسفة والعلوم.

 

الهوامش:

1- جورج زيناتي، "الفلسفة في مسارها"، صفحة 145.

2- أبو حامد الغزالي، "المنقذ من الضلال"، صفحة 134.

3- من مقدمة محمد عابد الجابري لكتاب "تهافت التهافت"، صفحة 38.

4- من تقديم د. محمود حسن إسماعيل لكتاب "تهافت الفلاسفة".

5- من مقدمة محمد عابد الجابري لكتاب "تهافت التهافت"، صفحة 23.

6- Karen Bardsley "Mother nature and mother of all virtues" p15

7- د. وائل حلاق، "قصور الاستشراق"، صفحة 371.

8- من مقدمة محمد عابد الجابري لكتاب "تهافت التهافت"، صفحة 21.

 

اقرأ/ي أيضًا:

بحثًا عن جذور الجهاد في الغرب

طرابيشي في عباءة سلفية