24-مارس-2021

الكاتب والسياسي عبد الوهاب الجمل

يتّسع متحف التاريخ الواسع إلى شخصيّات كثيرة، وأكثرهم شهرةً الحكّام. ظهرت في خلال السنوات الأخيرة بعد سنة 2011 كتب عديدة تروي سيرة بعض السياسيّين أو الرؤساء مثل الحبيب بورقيبة أو زين العابدين بن علي أو الباجي قائد السبسي، لكن لأوّل مرّة تصدر موسوعة تضمّ شخصيّات حكمتْ بين ظهرانينا حرص مؤلّفه عبد الوهاب الجمل على إعداده طيلة أعوام وعَنْوَنَهُ "حكّام إفريقيّة وتونس: من الفتح العربي الإسلامي إلى العهد الجمهوري" (دار سمباكت 2017).

يخبرنا عبد الوهاب الجمل أنّ معدّل فترة الحكم في تونس دامت عشر سنوات وعشرة أشهر، وأنّ نصف الحكّام حكموا لأقل من خمس سنوات

يعدُّ الكاتب -المولود بمدينة صفاقس سنة 1946- من سياسيّي وديبلوماسيّي تونس الكبار، وتمّ تعيينه سابقًا مندوبًا دائمًا للجمهوريّة التونسيّة لدى مكتب الأمم المتحدة بجينيف السويسريّة وكاتب دولة لدى وزير الشؤون الخارجيّة قبل أن يتقاعد. حرص كاتبنا على توظيف خبرته في مجال السياسة والبحث للنبش في تاريخ حكّام تونس، في محاولة للاتّعاظ منه وبناء تقاليد جديدة للحكم للقطع مع ممارسات الماضي، وكأنّ عبد الوهاب الجمل يحاول قيادتنا في جولة وسط مغارة مليئة بمنحوتات وجوه لرجال ونساء حكمونا وفي يده مشعلٌ ينير لنا الطريق. 

الشخصيّة التونسيّة وكروموزم السلطة

نجهل  لماذا اختار كاتب الكتاب الحقبة التي تبدأ منذ الفتح الإسلامي لتونس، لكنّه قدّم بورتريهات متنوّعة بشكل سلس ومختصر لبعض الشخصيّات التي حكمت تونس في هذه الفترة. يعود اختياره ربّما إلى توفّر المراجع التاريخيّة وأنّ الشخصيّة التونسيّة الحاليّة قد تشكّلت في المرحلة. استغرق إعداد هذا المنجز سنوات من عمر الكاتب، وكان ثمرة جهد جبّار رافقه بعض المعلومات الإحصائيّة يلخّص مجمل الحكّام الذين مرّوا على تونس.

اقرأ/ي أيضًا: كيف ارتبط الاستعباد بتاريخ أقدم جامعة كاثوليكية في الولايات المتحدة؟

إنّ تصفّح هذا الكتاب التحفة مغامرة في حدّ ذاتها، تجعل قارئ يكتشف مع كلّ صفحة معلومة جديدة. خاض الكاتب فيه مغامرة تشبه السير على الحبال وسط الفضاء بعصا التوازن، يجب على التقدّم أن يكون محسوبًا بدقّة مع المحافظة على أكبر قدر من الحياد والموضوعيّة مخافة السقوط في الظلام. كلّ ذلك لأجل إشعال شمعة وسط الظلام، تماما وفق ما أكّده الكاتب البولنديّ-الانجليزيّ جوزيف كونراد "ثمّة ظلام أكثر سوادًا من ظلام اللّيل، هو بلا شكّ ظلام السلطة".

يخبرنا عبد الوهاب الجمل في كتابه أنّ معدّل فترة الحكم دامت عشر سنوات وعشرة أشهر، وأنّ نصف الحكّام حكموا لأقل من خمس سنوات وثلثهم تقلّدوا السلطة لفترة تتراوح بين عشرة وأربعين عامًا. يحمل السلطان الحفصي أبو عمر عثمان والملقّب بالمتوكّل على اللّه الخامس الرقم القياسيّ لأطول فترة حكم  والمقدّرة بثلاثة وخمسين سنة. أهمّ ما في هذه المعلومة الإحصائيّة أنّ ثمانية وأربعين في المائة من الحكّام أنهيت مهامّهم بشكل عنيف: انقلاب أو اغتيال أو انتفاضة أو أجبروهم على الفرار، كما أنّ خمسهم تقريبا قتلوا أو أغتيلوا أو أعدموا. كان كلّ من تداول على حكم تونس من جنس الذكور، باستثناء ديهيا، الملكة الأمازيغيّة اليهوديّة التي كان العرب يلقّبونها بالكاهنة. لن ندخل في نقاش جندريّ حول من حكموا، لأنّ السلطة نفسها لا هويّة محدّدة لها، مثلما بيّنه الكاتب والسياسي التونسي الصافي سعيد في كتابه الخالد "الحمى 42" إذ يقول "إنّ كروموزم السلطة لم يحدّد جنسه بعد. فالسلطة مثل الفنّ. فهي مخلوق بلا جنس محدّد، بل أنّ أيّ حاكم حالما يجلس فوق كرسيّ الحكم يصبح غير قادر على تحديد جنسه ما إذا كان رجلًا أو امرأة كما لا يعود يعرف ماهيّة الشعب الذي يحكمه".

"الماليخوليا" والانتقام والإيغال في التطرّف

تتغيّر لغة السلطة من عصر إلى عصر، لهذا السبب يتغيّر قاموسها بدوره بعد الثورات أو الأوبئة أو الحروب الأهليّة. كان صانعوا الفتنة والشغب فاعلين في تاريخ هذه الربوع، وكانوا باحثين عن التفرّد عبر صنع انجازات موغلة في التطرّف أحيانًا، مثل الباي مراد باي الثالث المرادي والملقّب بـ"بوباله" نسبة إلى سيفه البتّار الذي كان مثالًا في التطرّف والقمع بسبب غريزة الانتقام لديه بعد خلعه عن السلطة من طرف عمّه وسمل عينيه. بعد أن استرجع العرش عاث في تونس فسادًا. أخرجَ جثّة عمّه من القبر وأحرقها ثمّ ذرّ رمادها في البحر، كما أبقى على رماد جثّته في قرطاس فكان إذا شرب الخمر يجعله فيه ويشرب ويعطي أهل مجلسه من ذلك. قتل مغنّيه مزهود والفقيه المفتي أبو عبد اللّه محمّد العواني. عاقب داي الجزائر الحاج مصطفى لأنّه رفض هديّة أرسلها إليه، وأباح القيروان لحاكم طرابلس لينهبها جنوده ويسبوا نساءها وأطفالها. وأشتهر بقولته الشهيرة "الباله جاعت" التي يقولها عندما يريد إشباع غريزة القتل لديه. جلب مراد الثالث بسياسته هذه كثيرًا من الأعداء الذين أرادوا الإطاحة به. أوعز السلطان العثمانيّ إلى "آغة صبايحيّة الترك" بتونس حينها إبراهيم الشريف للقضاء على بوباله فرماه بالرصاص ثمّ أجهز عليه بالسيف، ثمّ قتل كلّ السلالة المراديّة الباقية على بطرة أبيهم لمحق سلالتهم والقضاء جذريًّا على دولتهم قبل أن ينفرد بالحكم. 

تتغيّر لغة السلطة من عصر إلى عصر، لهذا السبب يتغيّر قاموسها بدوره بعد الثورات أو الأوبئة أو الحروب الأهليّة

لم يشذّ إبراهيم الثاني الأغلبيّ عن هذه القاعدة، رغم أنّه كان حاكمًا عادلًا أوّل عهده. فقد شيّد مدينة رقّادة وأتمّ ترميم جامع الزيتونة بتونس، وأنشأ معلمًا ثقافيًّا سمّاه "بيت الحكمة" وجعله جامعة علميّة لتدريس الفلسفة والطبّ والرياضيّات وعلم الفلك وتقويم البلدان. كما أتمّ فتح جزيرة صقليّة. لكن أصيب بعد اعتلائه العرش بمرض الماليخوليا، الذي يجعل المريض به يتميز بالانطواء والشعور  بالدونيّة احتقار الذات والقلق والرغبة في الانتحار. فسد مزاجه بالتدريج وشرع في سفك الدماء بلا حساب، فقتل ابنه وبناته وجواريه وفتيانه وجنوده والعمّال والعلماء والوجهاء، باستثناء الأولياء الصالحين الذين كان يؤمن بكراماتهم ويهابهم، وكان يقتل وفق أقوال المنجّمين وقارئي الغيب.

اقرأ/ي أيضًا: يوميات الإنسان العادي.. تاريخ بلا نياشين

يقال إنّه قتل بناته من الجواري واحدة بعد أخرى، وهنّ ينظرن بعضهنّ إلى بعض. كان يتلذّذ ببناء حائط على جواريه -وهنّ على قيد الحياة- إلى أن يختنقن. أورد ابن خلدون أنّه افتقد ذات يوم منديلًا لشرابه، فقتل بسببه ثلاثمائة خادم. يروى عن إبراهيم الثاني أيضًا أنّه أسر أحد شيوخ قبائل نفوسة مع جماعة من عشيرته الذي لعنه في مجلسه، فقتلهم جميعًا ونظم قلوبهم في حبال ونصبها على باب تونس. قتل حامية عسكريّة بطمّ طميمها. يعتقد المؤرّخون أنّ أغلب ما روي عن هذا الحاكم أقرب إلى الخيال القصصي والافتراءات نسبت إلى الأغالبة من قبل خصومهم الفاطميّين.

السلطة في قدرتها على تحويل المثاليّة إلى واقع

يقول الصافي سعيد: "كان أفلاطون يعتقد أنّ السياسة هي فنّ يمكننا من خلالها تحويل المثاليّ إلى واقع وذلك لاستيعاب الأبديّة في نهر الزمن. ومن هذه الناحية، فإنّ أكثر السياسيّين عنادا هم أكثرهم استغراقًا في الأفلاطونيّة".

مثلما ذكر عبد الوهاب الجمل في كتابه تسلّم مقاليد السلطة في تونس أشخاص شهدت عهودهم رخاءً وقوّة مثل حمودة باشا الحسيني الذي كان شهمًا عزيز النفس لا يحتمل العار، وعرف عنه تعلّقه الشديد باحترام القوانين والأعراف ولم يعيّن وليّ عهد بعده، وكان عهده العصر الذهبي للدولة الحسينيّة آخر سلالة قبل التحوّل للنظام الجمهوريّ. سنة 1799، وبعد التوقيع على معاهدة سلام وصداقة تهدف إلى التعاون بين تونس والولايات المتحدة الأمريكيّة، أرسل هذا الباي هديّة متمثّلة في قطيع من الخرفان من السلالة البربريّة إلى الرئيس الأمريكي جورج واشنطن وبقيت إلى الآن من أفضل سلالات الخرفان في أمريكا وفخرًا للفلاّحين هناك. أقبل الناس في عهده على الفلاحة والتجارة والصناعات، كما كثر العمران وظهرت الثروة بين السكّان رغم ما أصاب البلاد من الأوبئة والمجاعات وحروب تونس مع جيرانها وبعض البلدان الأوروبيّة. أظهر حمّودة باشا شغفه بمبادئ الثورة الفرنسيّة الوليدة آنذاك وإعجابه بالإمبراطور نابوليون بونابارت. قال عنه القنصل البريطانيّ بتونس في عهده: "كان أقوى حكّام أفريقيا، غير أنّه لا يرغب في الظهور بذلك المظهر".

وردت في عهد حمّودة باشا الحسيني إلى تونس رسالة مهدّدة ومتوعّدة من الداعية محمّد عبد الوهّاب صاحب المذهب الوهّابي بالجزيرة العربيّة، والتي دعا فيها ساسة البلاد ومتساكنيها إلى اعتناق مذهبه الذي يرفع شعار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع إنكار الشرك والدعوة إلى التوحيد بمحاربة التبرّك بالرسل والأنبياء والأولياء والدعوة لهدم الأضرحة والقباب التي تعلو القبور. كان الردّ التونسيّ شديد اللّهجة وأشرف حمّودة باشا الحسيني بنفسه على إعداده وصياغته بمساعدة الفقيه المالكي عمر بن قاسم محجوب، دحض فيها ما دعا إليه شيخ الوهابيّة الأوّل خاتمًا رسالته بـ"فالنصيحةُ النصيحةُ، أن تنزع لباس العقائد الفاسدة، وتتسربلَ العقائد الصحيحة، وترجع إلى اللّه وتؤمن بلقاه، ولا تكفّر أحدًا بذنب اجتناه. فإن تُبْتُمْ فهو خير لكم، وإن تولّيتم فاعلموا أنّكم غير معجزي اللّه".

من الحكّام البارزين الذين وصفوا بالعفاف أبو فارس عبد العزيز الحفصي، الذي نجح في إدماج المسلمين الأندلسيين الفارّين من بطش المسيحيّين الإسبان

من الحكّام البارزين الذين وصفوا بالعفاف من صغره إلى كبره أبو فارس عبد العزيز الحفصي، الذي نجح في إدماج المسلمين الفارّين من بطش المسيحيّين الإسبان في القرن الثالث عشر الميلادي، والذين اتّخذوا من تونس ملاذًا من محاكم التفتيش. انصهر المورسكيّون القادمون بسرعة في مجتمعهم الجديد وأسهموا في الحركة الاقتصاديّة والثقافيّة وجلبوا معهم تقنيات متطوّرة في عديد المجالات.حظي العلماء والمشايخ والعلماء والأدباء والمفكّرون بالعناية والتقدير من طرفه، حتّى أنّه كان صاحب فكرة إنجاز كتاب "الروض العاطر في نزهة الخاطر" الكتاب العربيّ التعليميّ الأشهر في الجنس حول أساليب الجماع وأسراره لصاحبه الشيخ النفزاوي، وأصبح معه الاحتفال بالمولد النبوي الشريف حدثًا رسميًّا.

اقرأ/ي أيضًا: التيار الأساسي للأمة في ظل الدولة العربية

إنّ كلّ شيء قابل للتجزئة إلاّ السلطة، إنّها بمثابة تلك المرأة الرائعة الجمال والنسب التي يرغب الجميع بامتلاكها وهو ما يبيّنه كتاب "حكّام إفريقيّة وتونس" لعبد الوهاب الجمل عبر سرد ملخص للصراعات بين رؤوس السلطة في تونس منذ الفتح الإسلاميّ إلى الآن، وتعمّد الكاتب المرور بصفة برقيّة على رؤساء تونس ما بعد 2011 الذين سحبت منهم السلطة لتمنح للبرلمان – العاجز حاليًا عن فعل أي شيء- وفق الدستور الجديد. يبقى السؤال يتجدّد هل السلطة التونسيّة الحاليّة قادرة على دخول التاريخ، لأنّ الحريّة التي بملكها التونسيّ الآن عاجزة عن إطعام الجوعى وعلاج المرضى. يقول جون بول سارتر "لا تكمن الحريّة في قدرتك على فعل ما تريد، بل في إرادة فعل ما تقدر عليه".

 

اقرأ/ي أيضًا:

عزمي بشارة.. في تفكيك السلفية وتدقيق مفهومها (1-2)

بلدان غير مكتوبة.. بلدان أُميّة