30-سبتمبر-2021

شهداء مجزرة حماة (Getty)

 

في كتاب "جاسوس من أجل لا أحد" (دار النخبة، القاهرة 2017) يروي باسل صنيب سيرته الذاتيّة ويحكي عن أحداث حقيقية حدثت خلال فترة انضمامه لشعبة الأمن العسكري/ جهاز المخابرات في عهدي حافظ الأسد وبشار الأسد.

في شهر شباط/فبراير من عام 1982، ارتكب النظام السوري أبشع الجرائم بحق أهالي مدينة حماة

باسل صنيب معارض ولد عام 1975 في مدينة حمص، وكما يشير في القسم الأول من الكتاب وهو بعنوان "الطفولة والبدايات" فإنّه ينتمي لعائلة مسلمة على المذهب السنّي، ويكمل أنه عاشَ طفولةً عادية في كنف أسرته وأنها ظلّت هكذا حتى شهر شباط/فبراير من عام 1982، وهو التاريخ الذي ارتكب فيه النظام السوري أبشع الجرائم بحق أهالي مدينة حماة. ويشيرُ صنيب إلى أن هذا التاريخ غيّر نظرته لكثير من الأشياء من حوله، وأنه رغم صغر سنّه وقتذاك إلا أن التغيير الملحوظ الذي لمسه في أقاربه، وداخل المنزل، جعله يتساءل عن حذرهم الشديد وأحاديثهم الجانبية التي كانت تدار بالهمس، وعن مصطلحات لم يكن يفهم معناها لكن وقعها كان كفيلًا بإسكات كل من في البيت.

اقرأ/ي أيضًا: ثقافة المخابرات: من يدفع للعازف يخترِ اللحن

وعن نقطة التحوّل في حياة الكاتب، فإنها حدثت بعد مرور عامين على مجزرة حماة، حين انتقل أبو أياد وأسرته الصغيرة للعيش في الشقة التي تعلو شقة صنيب. وأبو إياد هذا سيكون له أثر كبير في ما بعد على حياة صنيب، فهو ضابط في المخابرات ولديه ولد وحيد نرجسيّ مغرور مدلل جدًا. لكن هذا كلّه سيكون في مصلحة باسل حيث سيتخلى إياد من فرط الدلال عن كل الأشياء راكنًا إياها على جنب مطالبًا في كل مرة بالمزيد.

أحد أثمن الأشياء التي تخلى عنها الا المدلل لضابط المخابرات كانت المكتبة التي حوت مجموعة هائلة من الكتب العلمية والقصص والروايات العالمية. خلال تلك الفترة سيغرق باسل في القراءة وسيتعرف في كل مرة على عوالم جديدة ستثير دهشته، وأبرزها، وهي ما سيكون لها الأثر الواضح على حياته في ما بعد، هي الكتب التي تتناول سير وتجارب الجواسيس العالميين الذين عملوا لصالح مختلف الأجهزة الأمنية حول العالم.

بعد مرور سنوات سيتعرّف باسل على أحمد، الشاب الذي تعود أصوله إلى عائلة دمشقية، وعلى مدار ثلاث سنوات سيجتمع الاثنان على كره نظام حافظ الأسد سرًا، وسيتبادلان الكتب والمقالات الممنوعة وفي نهاية المرحلة الدراسية الثانوية سيحاولان الانتقال من الكلام إلى الفعل، وعلى صغر سنهم والرعب المحيط بهم في ذلك الحين، إلا انهم سيتجرأان على التفكير في تأسيس حزب ضد نظام الأسد.

استمرَ باسل وأحمد في العمل سرًا، وتبادل الكتب والنقاشات إلى أن بزغت تلك الفكرة في رأس باسل والتي قلبت حياته رأسًا على عقب، وهي أن ينضم بنفسه إلى المخابرات السورية، وأن يدخل في صفوفهم ليفهم أساليبهم ويدرسها عن قرب لتكون في ما بعد الأمور واضحة من أمامه، وكي يعود ويفعل ما عمل من أجله لسنوات، وما حلم به هو وأحمد في إشعال ثورة وتنظيم حزب معارض لحافظ الأسد.

يتحدث كتاب "جاسوس من أجل لا أحد" عن الأساليب التي عاملت فيها المخابرات السورية أفرادها خلال فترات التدريب، من خلال الضرب والإهانة والتحقير

يأخذنا الكتاب في الرحلة المضنية التي خاضها باسل كي يصل إلى هدفه ويتجسس على النظام وأجهزته عن قرب، رحلة قبوله كشخص مسلم ينتمي إلى المذهب السنّي، وعدم تصالح عائلته مع الفكرة وخسارته لأصدقائه. لكن هذا كلّه لم يمنعه ولو لحظة عن المضي قدمًا وعن التوغل في ذلك العالم على وحشيته وقذارته، ورغم معرفته بإن أمره قد ينكشف في أيِّ لحظة، وأنَّ ذلك قد يودي به وبعائلته إلى الهلاك، إلا أنه ظل مستمرًا طوال عشرين عامًا في سبر أغوار عالم المخابرات السورية، وحيدًا مع قليل من الخوف.

اقرأ/ي أيضًا: مقتل ألبير كامو.. سر المخابرات السوفييتية

أكثر ما لفت نظري في الكتاب هي الفصول التي يتحدث فيها الكاتب عن الطريقة التي تقوم بها الجهات العليا بتدريب وتهييئ العناصر لِما سيلاقون في ما بعد.

وقد تحدث صنيب عن الأساليب غير البشرية التي كانوا يعَاملون بها، وعن المراحيض القذرة التي تستخدم فيها نفس الفوط التي تستخدم لمسح طاولات الطعام، وعن الضرب والطرق الهمجية في التعامل، وعن الهلاوس والاضطرابات السيكوسوماتية والسيكولوجية، وقد ذكر صنيب في كثير من الحالات أنّه كان ثمّة أشخاص يعانون من أمراض نفسية خطيرة بسبب ما كانوا يتعرضون له من إهانة وعنف وتحقير.

هذا كلّه أعادني إلى بداية الثورة حينَ بدأ الناس يعرفون أكثر فأكثر عن وحشية النظام وعن أساليبه القمعيّة وانتشرت في ذلك الحين إشاعات مفادها أنَّ عناصر الأمن يتعاطون حبوب تجعلهم يفقدون الشعور بكل شيء، ويغتصبون النساء ويقتلون الأطفال بدون أدنى رحمة أو شعور، وهذه الحبوب مفعولها يستمر لمدة أيّام. طبعًا كانت هذه كلها مجرد إشاعات وأقاويل تنتقل بين الناس بدون جهة موثوقة أو محددة.

لكن الحقيقة أنّ ما كان يستعمله النظام لتحويل العناصر إلى آلات سايكوباتية تتغذى على الإجرام كان مفعوله ساري لأمد طويل. هذه الطريقة في خلق الكره في النفوس وتهيئتها لسنوات لكي تقوم في ما بعد بأعمال غير آدمية بدون أدنى شعور، هي طريقة مدروسة جدًا من قبل النظام واتباعه.

يكمل صنيب في فصل آخر من فصول الكتاب "سنوات العمل في فرع الأمن العسكري بمدينة حماة"، ويتحدث عن الفترة التي عمل فيها في قسم المعلومات. وكما يشير أنه كان الوحيد في القسم الذي يعمل بجدّ، أما الآخرون فقد كان اهتماماتهم كلها تتمحور حول تعاطي الخمور طوال ساعات العمل واستدعاء النساء لممارسة الدعارة في مكاتبهم وعلى العلن. وقد ذكر أيضًا أنه من ضمن الأشياء التي كانوا يستمتعون بالقيام بها هي جلساتهم التي يتناوبون فيها على ذكر مواقفهم التي تبعث بالنسبة لهم على الفخر، حينَ اقتحموا مدينة حماة وقتلوا أبناءها واغتصبوا نساءها، وقد كان كل واحد منهم يتباهى ويذكر بالتفصيل الممل كيف جرى الاختيار وكيف اغتُصبت المرأة وما إلى ذلك.

لطالما عمل النظام السوري على تحويل عناصر الأمن إلى آلات سايكوباتية تتغذى على الإجرام والتوحش

رحلة مليئة بالمخاطر خاضها باسل محمد صنيب خلال عشرين عامًا، وكان قد ذكر في أحد فصول الكتاب عن خوفه من فقدان عقله لما كان يراه ويسمعه من قصص في ذلك الحين.

اقرأ/ي أيضًا: استجواب في رومانيا.. جولة في بازار المخابرات

خلال قراءتي للكتاب تذكرت أيضًا قصّة جارنا الذي اتهم بانضمامه لجماعات إسلامية والذي جرى اختطافه من أمام منزله أواخر عام 2003 على إثر مشاركته في حرب العراق. وفي عام 2004 حكم عليه بالسجن مدى الحياة، وبعد ذلك بسنوات تم تخفيف الحكم إلى أن صدر في عام 2011 عفوًا رئاسيًا يشمل المعتقلين السياسيين والجماعات الإسلامية.

في ذلك الوقت كانت المحادثات تدور بالسر بين قلّة قليلة من الناس، وكانوا يحذرون من التعامل مع هؤلاء الذين صدر بحقهم عفوًا فجائي، وقد قيل في ذلك الوقت أنَّ النظام مارس أشنع الفظائع على هؤلاء وانّهم رأوا ما قد يفقد المرء صوابه، وأنّه من المحتمل أن يمارس هؤلاء ما تمت ممارسته عليهم خلال كل تلك السنوات، وفي ما بعد وحين ظهر تنظيم داعش وبدأ بالانتشار، أكدَّ البعض نظريتهم، بإنَّ كلّ الفئات التي مارست العنف خلال الثورة، هيَ في الأساس من صنيعة النظام.

وحين سيطرت عناصر "داعش" على مخيم اليرموك جنوب دمشق، كان هناك جزء مما يسمى "أمراء داعش" من ضمن الذين ذهبوا إلى العراق في عام 2003 بترتيب مسبق مع المخابرات السورية، والذين اعتقلوا في ما بعد وخرجوا أوائل الثورة بعد صدور العفو الرئاسي. وقد نفذَ العديد منهم إعدامات ميدانية وقاموا بارتكاب جرائم لا تعد وثمة شهادات كثيرة على لسان من بقوا في المُخيّم وحوصروا في ذلك الوقت.

سلّط الكتاب الضوء على ملف مجزرة حماة، الملف الذي ظلَّ مغلقًا إلى أن قامت الثورة وصار باستطاعة أهل حماة الظهور والحديث عن شهادتهم المروعة عن المجزرة. يذكر باسل صنيب كيفَ قامَ فرع مخابرات مدينة حماة بعد المجزرة بتحديث أضابير وملفات بعنوان "دراسات الفارّين"، والتي تحتوي على معلومات وبيانات كاملة عن عشرات آلاف المواطنين الحمويين الذين تمكنوا من الهرب والنجاة بحياتهم من الموت.

قامت المخابرات السورية بتلفيق ستّة آلاف إضبارة تتهم سكان حماة الناجين من المجزرة بالانتساب لجماعة الإخوان المسلمين

في ستّة آلاف إضبارة جرى تلفيق تهمة الانتساب لجماعة الإخوان المسلمين لجميع سكّان حماه الذي نَجوا من المجزرة. وكان عقاب هذه التهمة الذي وضعه حافظ الأسد حينها هو الإعدام ميدانيًا وفورًا دونَ تحقيق أو محاكمة. وعلى أثر ذلك ولمدّة أكثر من خمسة وعشرين عامًا تعرّض معظم سكّان مدينة حماة الواقعة في وسط سوريا، بشكل دوري للاستدعاء إلى فرع الأمن العسكري الذي كان يمارس عليهم الابتزاز والعنف والإذلال والتخويف، والمدهش في الأمر أنه كان يجري التحقيق مع أشخاص لسؤالهم عن الفارّين من أقاربهم من الدرجة الخامسة مثلًا. ويذكر أيضًا أنه طوال حكم حافظ الأسد كان الحمويون يعاملون في أنحاء سوريا كمواطنين درجة ثانية، فلم يكن يُسمح لهم بالتوظيف في معظم الوظائف المدنية وكانوا عرضة للاضطهاد والمعاملة السيئة والاحتقار من أتباع النظام، وكان مجرد انتماء الشخص لمدينة حماه يشبه كونه تهمة أو جريمة.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "Damascus Cover".. سوريا في قبضة الموساد

في آخر فصل من الكتاب، يروي باسل صنيب أحداث مروعة عن اعتقاله في سجن تدمر العسكري، وذلك بعد مرور عشرين عام على التجسس في أفرع المخابرات السورية، ويذكر أنه كان قد قرر أن ينشّقَ أخيرًا ويعلن انضمامه لصفوف الثورة على العلن، وقد قام بالتحضير لتنفيذ انشقاق جماعي كبير لعدد من العناصر والمجندين والضباط ممن كانوا معارضين أيضًا لكل الجرائم التي يرتكبها عناصر الأمن الآخرين ضد المدنيين.

وفي تاريخ 11/5/ 2012 جرى اعتقال جميع الضباط والعناصر من غير العلويين، من جميع قطعات الجيش السوري، وقد كان صنيب من بين هؤلاء.

وفي سجن تدمر يروي عن الإذلال الذي تعرض له من تعرية أمام الجميع والضرب بالسياط والأكبال والإهانات والشتائم، وعن الطعام الفاسد الذي كان يتم خلطه بالفضلات البشرية، ويتحدث عن جميع أنواع العنف التي يمكن أن يمارسها شخص تربى ونشأ في معسكرات النظام السوري.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حافظ الأسد وساسوكي

عبد الباسط الساروت.. أيقونة الأيقونات السورية