27-أكتوبر-2020

جان ماري غوستاف لوكليزيو (1940)

أصدرت كلّ من "دار سرد" و"دار ممدوح عدوان" كتاب "ثلاثة مُدن مُقدّسة" للكاتب الفرنسيّ جان ماري غوستاف لوكليزيو (1940)، ترجمة معن السهوي، وهو واحد من بين مجموعة كُتب دوّن فيها مُشاهداته وأفكاره حيال ثلاث مُدن مكسيكيّة شاهدة على حضارة وتاريخ السكّان الأمريكيين الأصلين الذين يصف لوكليزيو دخول عالمهم بالقدر الذي قلب حياته رأسًا على عقب من جهة، والاكتشاف الهائل الذي غيَّر جذريًّا أفكاره عن العالم والفنّ وطريقة وجوده مع الآخرين من جهةٍ أخرى.

سيكون قارئ "ثلاث مُدن مُقدّسة" على موعد مع بيئة مُختلفة، يُحاول لوكليزيو أن ينقل تفاصيلها من خلال صورة بانوراميّة واسعة

يقول الروائيّ الحائز على جائزة "نوبل للآداب" في وصف تلك التجربة وتأثيرها عليه: "منذ مراهقتي وحتّى الستينيّات، في السنوات التي تبعت نشري لرواية "المحضر"، كنت أحيا بذهني وفكري فحسب، وكنت أشعر بالحاجة إلى صدمة حسّيّة. ومنذ تلك اللحظة، منذ أن لمست هذا العالم وهذا المجتمع، وانطلاقًا من تلك التجربة، توقّفت عن كوني ذهنيًّا وفكريًّا محضًا. في ما بعد تغذّت كلّ كتبي من هذه اللاذهنيّة، من هذا التغيير الكبير، من هذا الفعل الحسّي".

اقرأ/ي أيضًا: رياض الصالح الحسين.. اللغة كمعادل وحيد للحياة

سيكون قارئ "ثلاث مُدن مُقدّسة" على موعد مع بيئة مُختلفة، يُحاول لوكليزيو أن ينقل تفاصيلها من خلال صورة بانوراميّة واسعة، ووصف مُسهب لتفاصيل أخرى مُتعلّقة بطقوس المكان ونمط الحياة فيه، خاصّةً وأنّه مكان شُيِّدت حضارته انطلاقًا من إدراك الكون ودور الإنسان فيه بطريقة روحانيّة مُرتبطة بطقوس دينيّة وفلسفيّة مُتأصّلة في كلّ مظاهر الحياة عند هذه الفئة من البشر المُنجذبين إلى الماورائيّات. ولعلّ تعمّق جان ماري غوستاف لوكليزيو في تاريخ وطبيعة هذه الحضارة بمُختلف تفاصيلها، قد يكون السبب وراء اتّخاذه موقفًا نقديًّا لاذعًا من الحضارة الأوروبيّة التي تظهر رغبة الانعتاق من الانتماء إليها في بعض أعماله، إذ يراها حضارة هشّة شُيَّدت أمجادها على أنقاض الشعوب التي استعمرتها ودمّرتها أيضًا.

يُدرك لوكليزيو بأنّ المُدن الثلاث المُقدّسة لم تعد موجودة، ولذا يطرح سؤال: "أين هي المدن، المدن المُقدّسة الحقيقية؟ (...) ماذا حلّ اليوم بهذه الحواضر السريّة والعظيمة (...) حيث لم يكن يتوقّف هدر الأساطير؟ ماذا أضحت اليوم؟"، ثمّ يجيب بقوله إنّه لم يبقَ منها شيء، ولا حتّى مُجرّد ذكرى، إذ لم تعد اليوم أكثر من مُجرّد نقطة بيضاء على وجه الزمن، لطخة أو ندبة ورم استؤصل وانتهى. أو بجملةٍ أخرى؛ مكان للبشاعة والضوضاء فقط، ومركز عديم الحسّ، وبقعة جغرافيّة وصل إليها الشياطين الجُدد بحسب وصفه، بشاحنات مُدرّعة حوّلت الأماكن المُقدّسة إلى مساحة لاستعراض أسماء يقول إنّها تنضح ازدراءً وكراهيّة.

يرى لوكليزيو الحضارة الأوروبية حضارة هشّة شُيَّدت أمجادها على أنقاض الشعوب التي استعمرتها ودمّرتها أيضًا

تغيب المُدن المُقدّسة حين تُعمر بالإسفلت والأكواخ والحوانيت، وحين تتحوّل إلى أيضًا إلى شوارع لعجلات السيّارات التي تُشير بحسب لوكليزيو إلى تبدّل الأزمنة بشكلٍ يبعث الأسى في النفس، إذ إنّ ما بقي من العالم "فارغٌ من دون شكّ، فارغ بشكلٍ ميؤوس منه، عالم أبكم وأعمى". وعلى العكس من هذا العالم يرى الكاتب الفرنسيّ أنّ المُدن المُقدّسة، رغم اندثارها، إلّا أنّها لا تزال تتيح نوعًا من الطاقة الهادئة والقوّة الصامتة والإرادة والأمل والحريّة والحياة التي لا يُمكنها أن تعود.

اقرأ/ي أيضًا: توماس برنهارد في "صداقة مع ابن فيتغنشتاين".. التأمل من منظور المصحات

بينما يتحرّك الناس في أماكن أخرى مدفوعين بالرغبة بالتدمير والسحل والقتل وسط مشهد مُفزع عنوانه ضجيج المُحرّكات وزعيقها، وجد أنّ ذلك كلّه لا يُثير أي انفعال على وجوه رجال شانكا، إحدى المُدن الثلاث المُقدّسة الأكثر يقظة على وجه الأرض، وحيّز الإدراك الأعلى أيضًا، والمكان الذي تنتصر فيه الحقيقة الدائمة والهادئة، حيث "لم يعد هناك من كلمات وأفكار ولا آلهة وقوانين؛ هناك فقط حركات الأيدي والجسد تلك ونظرة العين"، لأنّ المدن المُقدّسة ذاتها لم تعد موجودة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"تمارين في الإعجاب".. إميل سيوران في مقعد القارئ

مع جوليا كاميرون.. نحو كتابة إبداعية دون رجم