21-أغسطس-2020

أورهان كمال (1914 - 1970)

وجد الكاتب التركيّ أورهان كمال في مواطنه ناظم حكمت (1902-1963) مثالًا ينبغي الاحتذاء به لاعتبارات مُختلفة، ذاتية أحيانًا وموضوعية أحيانًا أخرى، منها السيرة الأدبية لصاحب "أغنيات المنفى" واعتباره شاعر تركيا الأوّل تأثيرًا وقراءة بفعل ما قدّمه من قصائد حملت في داخلها بعضًا من صراعات ذلك العصر الذي أشارت إلى تناقضاته من خلال تجسيدها لأزمة الإنسان في التعامل معه بصفته زمنًا هجينًا ضحيّته طبقة معيّنة: المقهورين والمهمّشين على يد السلطة التي عارضها حكمت فسجنته لتأخذ حياته حينها منحىً مُختلف بدا قائمًا على التشظّي والترحال من سجنٍ إلى آخر، وصولًا إلى منفاه الأبدي الذي خطّ الفصل الأخير من فصول رحلته الطويلة والمليئة بالمكابدات والمتاعب.

تكمن أهمية كتاب "ثلاث سنوات ونصف مع ناظم حكمت" في واقعيّته كونه جاء حصيلة معايشته حية

الاعتبارات الموضوعية أعلاه قابلتها اعتبارات ذاتية جعلت الشاعر التركيّ مُعلِّمًا ومُلهمًا لأورهان كمال الذي يصفهُ بـ "ماكينة شعر عملاقة" عاينها عن قرب وراقب الكيفية التي تُنتج بها أيضًا خلال السنوات الثلاثة التي قضاها برفقته في سجن "بورصة" الذي دخلهُ بسبب نشاطه السياسيّ أوّلًا، وحيازته أحد دواوين حكمت ثانيًا، دون أن يعرف أنّه بدخوله السجن قد ضرب موعدًا معه، وأنّ هذا الموعد بدوره سوف يتحوّل إلى صداقة حميمية بينهما. "كنتُ كأيّ أحد مفتونًا به من بعيد، وكأيّ أحد، كنتُ ممتعضًا منه، دون معرفة سبب ذلك" يقول أورهان كمال في كتابه "ثلاث سنوات ونصف مع ناظم حكمت في سجن بورصة ومراسلاتهما التي تلتها" (منشورات المتوسّط 2020، ترجمة أحمد زكريا وملاك دينيز أوزدمير).

اقرأ/ي أيضًا: حوار | الروائية عالية ممدوح: ما زلت أتلقى الدروس

إنّ أهمّية كتاب أورهان كمال تكمن في واقعيّته باعتبار أنّ ما جاء فيه حصيلة معايشته لمعلِّمه حكمت لمدّة ثلاث سنوات ونصف، بالإضافة إلى ابتعاده عن النمط السائد في تناوله، ذلك الذي يعنيه أسطرته بالدرجة الأولى من خلال التركيز على طبيعة الحياة المُتشظّية التي عاشها، عدا عن سنوات سجنه الطويلة التي انتهت بنفيه، والتي شكّلت برفقة التفاصيل السابقة وقصائده التي لا تنفصل عن حياته، سيرة موازية تمخّضت عنها شخصية تحضر وتُقدِّم إلى القارئ بصفتها "أسطورة"، أو بجملةٍ أخرى، بصفتها شخصية مُتخيّلة مبنيّة على حكايات وأقاويل مُختلفة تفتقد للحميمية التي يتميّز بها كتاب كمال الذي سعى إلى فتح آفاق لسرديات جديدة واقعية يعنيها ناظم حكمت بصفته إنسانًا بالدرجة الأولى.

يكتب كمال عن صديقه حكمت إذًا انطلاقًا من ذاكرته الشخصية، دون الحاجة إلى عمليات بحث وتقصّي تقودهُ إلى رحلات شاقّة الهدف منها البحث عن مواد خام يُشيّد عليها كتابه الذي بدور في أكثر الأمكنة حساسية بالنسبة إلى الإنسان، وهو السجن الذي يُصادر حريّته. هكذا، وبالنظر إلى طبيعة المكان، لن يكون قارئ "ثلاث سنوات ونصف مع ناظم حكمت" إزاء وقائع مثيرة، إنّما حكايات ومواقف طريفة وحميمية حدثت في الوقت الذي كانت فيه المنطقة تغلي على خلفية المعارك بين السوفييت والنازيين الذين رأى حكمت أنّهم في حال انتصروا فسوف: "تعود الإنسانية وما اكتسبته حتّى اليوم من تقدّم، ألف سنة إلى الوراء (...) لكنّ الألمان سيهزمون لأنّ هذه حتميّة تاريخيّة" يقول صاحب "الحياة جميلة يا رفيقي".

يُفسِّر المؤلّف لقرّاء كتابه وصفه لناظم حكمت بـ "ماكينة شعر ضخمة" من خلال استعادته للطريقة التي يكتب عبرها الشِّعر، أو الطريقة التي كان يركّب فيها ما يريد كتابته في مخيّلته، إذ يذكر على سبيل المثال أنّه في منتصف ليلة من ليالي السجن الطويلة، أفاق حكمت خائفًا وطلب منه قلمه ليبدأ بالكتابة على الحائط: "فوق الموجة الأكثر وحدة/ علبة معلّبات فارغة".

"ينبغي أن يفهم الناس الشِّعر، ويصبح شعرًا لهم" يقول ناظم حكمت مُخاطبًا صديقه أورهان كمال

لكنّ التصرّف الأكثر إثارة للدهشة بحسب أورهان كمال هو دورانه في ممرّات السجن التي يقطعها جيئة وذهابًا مُتمتمًا وهامسًا بكلمات غير مفهومة ستكون بعدية وقت قصير قصيدة لن يتردّد في قراءتها لأشخاص من طبقات مختلفة في السجن، وحذف كلّ ما بدا غير مفهومًا لهم: "ينبغي أن يفهم الناس الشِّعر، ويصبح شعرًا لهم" يقول مُخاطبًا صديقه كمال.

اقرأ/ي أيضًا: نغوغي وا ثيونغو في "الكتّاب في السياسة".. الثقافة في المجتمع

الشِّعر عند حكمت، وفقًا لما يرويه الكاتب، وسيلة اتّصال بكلّ ما هو مُحيط به، وممارسة بعيدة كلّ البعد عن الوحدة التي كان كارهًا لها بشدّة: "أنت لا تستطيع تخيّل كرهي للوحدة... لا أستطيع كتابة سطر واحد، أجنّ"، خصوصًا وأنّه يرى في الناس معيارًا للغة الشِّعر الذي يجب على كتبته تجنّب الكلمات التي يستهجنها الناس في حديثهم اليوميّ، خصوصًا تلك التي ظهرت بفعل الخطابات التي دعت إلى تحديثه من خلال عملية تغيير للشكل التي تُكتب فيها القصيدة، ولكنّ تغيير الشكل وحده بالنسبة إلى حكمت لا يُمكن أن يأتي بجديد لأنّ المسألة في المضمون أكثر من الشكل.

 

اقرأ/ي أيضًا:

النجاة بالكتابة.. هكذا فعل ناظم حكمت وأنتونيو غرامشي في العزل القسري

أدباء جرّدوا من جنسياتهم