25-أغسطس-2021

الفيلسوف الفرنسي لوك فيري

ربما يكون هذا أبسط كتاب فلسفة تصادفه. على أي حال هذه هي رغبة المؤلف: أن يعرض لتاريخ الفلسفة بأسلوب غاية في التبسيط، مع وعد أكيد أن لا يكون هذا التبسيط مخلًا أو ساذجًا. وثمة هدف آخر: أن تظهر الفلسفة هنا على حقيقتها الأصلية، أن تعود إلى جذورها الأولى وسنوات زهوها المجيدة، عندما كانت حاضرة في الحياة اليومية للبشر، مرافقة لهواجسهم وشواغلهم ومجيبة عن أسئلتهم.. باختصار أن تعود كما كانت ذات يوم: ابنة الحياة. من هنا اختار الفيلسوف الفرنسي لوك فيري عنوان كتابه هذا: "تعلم الحياة، سأروي لك تاريخ الفلسفة"، (مشروع كلمة 2016، ترجمة د. سعيد الولي).

تساعدنا الفلسفة على الخلاص من الخوف العظيم المشل الذي يرافق نوعنا البشري منذ أن وعى ذاته، الخوف من الموت

ولد لوك فيري في العام 1951، ودرس في ألمانيا وفرنسا. وبعد تخرجه في منتصف السبعينيات أصبح مدرسًا، ليتنقل بين مواد دراسية مختلفة في جامعات فرنسية عديدة. وإلى جانب التدريس شغل عددًا من الوظائف، بينها رئاسة المجلس الوطني للبرامج في وزارة التعليم بفرنسا، قبل أن يعين سنة 2002 وزيرًا للتربية.

اقرأ/ي أيضًا: عن العلاقة بين الفلسفة والشعر

من أبرز مؤلفاته: "الفلسفة السياسية"، "فكر 1968"، "النظام الإيكولوجي الجديد"، "أجمل قصة في تاريخ الفلسفة"، "تعلم الحياة"، "الإنسان المؤلّه"، "مفارقات السعادة"، "مولد الإستطيقا". حصل على جائزة "ميديسيس" عام 1992.

لمَ الفلسفة؟ يجيب فيري مباشرة: إنها تساعدنا على الخلاص. الخلاص مما؟! بلا مواربة: الخلاص من الخوف العظيم المشل الذي يرافق نوعنا البشري منذ أن وعى ذاته، الخوف من الموت.

منذ أن خرج الإنسان من دائرة السكينة الروحية التي كان ينعم بها مع باقي الحيوانات، منذ أن أدرك انفصاله عن الطبيعة، وتحديدًا منذ أن أدرك أنه محدود في الزمان وأن مصيره المحتوم هو الموت.. نشأ ما يسميه إريك فروم "الصدع الوجودي"، وعنه نشأت كل الأسئلة المقلقة وكل الشواغل الوجودية الكبرى، ومن أجل هذا بالضبط حضرت الفلسفة. هذا هو ميدانها الأساس، وهذا هو عملها.

ولكن أليس هذا هو شأن الدين؟ أجل إن الفلسفات والأديان تتقاسم الاختصاص نفسه، مع وجود فارق جوهري في طرق المعالجة. الأديان تحضّرنا للخلاص بواسطة قوى عليا، فوقية، مفارقة.. أما الفلسفة فتفعل ذلك بالاعتماد على أنفسنا فحسب.

يقول فيري: من غير المعقول أن يقتصر عمل الفلسفة على القول لنا كيف نصل إلى الخلاص، هكذا مباشرة وفقط. لا بد لها أولًا أن تشرح لنا هذا العالم القائم الذي نحيا فيه، وبما أننا لا نحيا وحيدين بل مع بشر آخرين مثلنا، فلا بد لها أيضًا أن تخبرنا أشياء أساسية عن كيفية إدارتنا لهذا العيش المشترك، كيف نحيا معًا بسلام ونحقق حدًا مرضيًا من العدالة، وبهذا فهي تمهد لنا الطريق إلى المقصد النهائي: الخلاص.

إذًا فالفلسفة، كل فلسفة، تتوزع على دوائر أساسية ثلاثة: الأولى دائرة النظرية (فهم العالم ومعرفة أفضل الوسائل المتاحة لذلك)، والثانية دائرة علم الأخلاق (كيف نحيا معًا متعطشين إلى تحقيق العدالة)، والثالثة دائرة الحكمة (العثور على معنى للحياة وعلى إجابة تدحض خوفنا من الموت).

مستخدمًا هذا التوزيع الثلاثي، يشرع المؤلف في استعراض أبرز الفلسفات منذ عهد اليونان حتى لحظتنا الراهنة: الرواقية، المسيحية، الفلسفة الحديثة (ديكارت، روسو، كانط)، ما بعد الحداثة (نموذج نيتشه)، الفلسفة المعاصرة.

وفي سياق الدراسة المكثفة لكل من هذه المدارس، يؤكد فيري على ما يراه "حقيقة منسية"، ذلك أن الفلسفة، وعكس ما يشاع، لا تكتفي بطرح الأسئلة، بل أنها وعبر تاريخها الطويل قدمت الكثير الكثير من الأجوبة الخلاقة والمثمرة. ويشرح الالتباس التاريخي الذي نقل الفلسفة من الشارع، حيث كانت تمشي بين الناس، إلى دائرة الأكاديمية المغلقة والمتجهمة.

الفلسفة، وعكس ما يشاع، لا تكتفي بطرح الأسئلة، بل أنها وعبر تاريخها الطويل قدمت الكثير الكثير من الأجوبة الخلاقة والمثمرة

بأسلوب ذكي، شيق وممتع، يقودنا لوك فيري بكل سلاسة في دروب وعرة وبين أفكار كثيفة ومتشابكة، ولكنه يطمئننا على الدوام أن كل الثمار هي في متناول أيدينا وإن بدت بعيدة، وأن لا شيء في الفلسفة مستغلق أمام أفهامنا.. كل الأفكار، مهما بدت معقدة، قابلة للشرح والاستيعاب والحفظ.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا لا يجب أن تموت الفلسفة؟

ولأن المؤلف مدرس أصلًا ولأن كتابه معد أساسًا ليكون جزءًا من منهج دراسي، فإننا نصادف الكثير من التكرار والتذكير وإعادة التذكير والتلخيص.. وهو لا يغادر فقرة حتى يطمئن إلى أنها صارت مفهومة تمامًا، ولا يغادر فصلًا حتى يوجز أهم أفكاره وطروحاته.. وكذلك هو يكثر من ذكر الأمثلة والاستعانة بنماذج من الحياة اليومية. ولكن المفارقة أن هذا الجو المدرسي لا يفسد الكتاب، بل يعطيه طابعًا مرحًا، ويبرز تلك الروح المتعاطفة والحانية لمدرس يرغب في جعلنا نحب مادته، وفي الوقت نفسه يشفق علينا من ثقلها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الفلسفة والتاريخ: العروي يتأمَّل نفسه

الفلسفة والأدب.. سردية حب معلن