09-سبتمبر-2020

كتاب "وثائق المؤتمر العربي الأول 1913: كتاب المؤتمر والمراسلات الدبلوماسية الفرنسية المتعلقة به"

قُبيل التقديم

على شاكلة العديد من دراسات المؤرخ اللبناني القدير وجيه كوثراني، والتي تعتبر دراسات مفتوحة البحث، فيها يتّضح حذر المؤرخ الحذق إذ يقول في مقدّمة هذا الكتاب "لا أجد أفضل من أن أضيف إلى مقدّمتي... سؤالين نتاج تكون "ذاكرة جديدة" راكمت أربعين عامًا من صور وأفكار وأمكنة وحوادث وثورات، كان من شأنها أن تُوجب إعادة النظر في المواقف والرؤى؛ أن تؤكدها أو تعدلها أو تنقدها".

يطرح وجيه كوثراني في كتاب "المؤتمر العربي الأول 1913" نقاط الانعطاف الأساسية التي أثرت على دخول العالم العربي في ما يمكن أن نسميه الدولة الوطنية/القومية

لذا فإن كان حديث الأستاذ هنا عن "ذاكرة جديدة" هي "ذاكرة لاحقة" متقدمة في الزمان استدعته التقديم الجديد في الطبعة الثانية من الكتاب، فأودّ عندها وضع إضافة بسيطة لهذا الكتاب تُمهّد لجراحة في "ذاكرة قديمة" أي الحديث عن "ذاكرة سابقة" في الزمان، بحيث كان تاريخ عقد المؤتمر هو 18 من حزيران/يونيو، وإضافتي تكمن في أنّه قبل أسبوع من إقامة المؤتمر، في 11 حزيران/يونيو حصلت عملية اغتيال الصدر الأعظم، العسكري القفقاسي العراقي، "الاتحادي"، محمود شوكت باشا.

اقرأ/ي أيضًا: مبضع "الذاكرة والتاريخ" في القرن العشرين الطويل: معالم النقد عند وجيه كوثراني

قاد هذا الضابط أحد أهم أذرع عملية الانقلاب على السلطان السابق، عبد الحميد الثاني، ومع عملية اغتياله الغامضة -التي حقق فيها المؤرخ العراقي سيّار الجميل- يمكن أن نعتبر أن الاتحاديين قد دخلوا في "مرحلة التوحّش"، نتاج هزائم عسكرية وانقلابات سياسية في عقر الحكومة العثمانية، لا يتّسع المجال لها هنا، غير مقام طرح الحديث عن أهمية فحص مرحلة ما قبل المؤتمر العربي الأول في المجال "العثماني التركي".

كُنْهُ الكتاب

يأتي كتاب "وثائق المؤتمر العربي الأول 1913: كتاب المؤتمر والمراسلات الدبلوماسية الفرنسية المتعلقة به" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ط2، 2019) بتقديم ودراسة وجيه كوثراني، ضمن مقدمة جديدة وأقسام ثلاثة؛ شرّحت المقدمة ملف المؤتمر في ذاكرته الجديدة وتأريخه، وحاولت أقسامه تكشيف 1) ظروف نشأة الحركة العربية عمومًا في المساق "العثماني العربي"، 2) والسياق الفرنسي وعلاقته في المؤتمر، وأخيرًا لب الدراسة، 3) كتاب المؤتمر ومراسلات مختلفة في خِضمّه.

يطرح كوثراني في هذا الكتاب موضوعًا متعلقًا بإحدى نقاط الانعطاف الأساسية التي أثرت على دخول العالم العربي في ما يمكن أن نسميه الدولة الوطنية/القومية، وعلى وجه الخصوص يتمحور الكلام حول الجغرافية السورية، بما هي مُعرّفةٌ تحت نطاق "سوريا الطبيعية" والتي تضمّ سوريا الحالية ومحيطها العام، ويمسّ الحديث شيئًا من الحالة العراقية والمصرية.

لذلك فإن الكتاب يرتبط بأطروحتين سبق التعريف بإحداهما في مقال سابق "السلطة والمجتمع: تفكيك الذاكرة ورصد التاريخ السوري"، والثانية -سنأتي على ذكرها في موضعه- هي "الاتجاهات الاجتماعية - السياسية في جبل لبنان والمشرق العربي"؛ بحيث يوسّع فكر توجه أصحاب المؤتمر العربي الأول من الكتاب الأول، وفي الكتاب الثاني يخوض في التوجّهات المختلفة في بيئة المؤتمر العامّة بشكل أوسع.

يعني أنّه يطرح خزعة بحثية تتعلق بإحدى نقاط الانعطاف في مسألة العروبة، إعادةُ تأريخٍ لمرحلتها وتصفيتها من الذاكرة المؤدلِجة فيما يتعلق بالمؤتمر، بحيث كان محور الأدلجة هو تصوير أحداث المؤتمر وحيثياته في آلة القومنة في المراحل اللاحقة، دونما إعمال فحص أكثر جدّية لتلك التفاصيل.

العثمانيون من دولة الجباية إلى مركزية الدولة

يطرح كوثراني في القسم الأول من الكتاب مقدمات نشوء الحراك العربي بمختلف أنواعه منذ أن وُلدت بوادره في "الدولة السلطانية" ونظام "الدولة-الدعوة" المستقاة ممّا يسمى بـ"الفقه السياسي في الإسلام" كمدونات ابن خلدون ومثيليه، تلك الدولة التي وظيفتها انحصرت بشكل أساسي بجباية الضرائب وإقامة العدل، إلى الدولة التي تروم مركزة الأطراف على شاكلة "الدولة الوطنية/القومية= الحديثة" لا على هيئة "الدولة الإمبراطورية".

يطرح كتاب "المؤتمر العربي الأول 1913" مقدمات نشوء الحراك العربي في "الدولة السلطانية" بأشكاله المختلفة بالانفصال أو بالمطالبة باللامركزية

هنا تتحول الدولة من رأب "إمبراطورية عثمانية" بهيئة "السلطنة" إلى محاولة تشكيل "أمّة عثمانية" بهيئة "المملكة الدستورية"، من تلك البوادر التي شكّلت نوع من تحول مسألة الانفصال سواء أكان ماديًا؛ "الانفصال عن الدولة: الاتجاه نحو تكوين مركزية جديدة"، أم معنويًا "المطالبة باللامركزية" وهنا حالة المؤتمر العربي الأول. ثمّة نطاقين للانفصال الماديّ، على طبيعة القرون الكلاسيكية، في الدولة؛ "الخروج الصريح" و"تقلّص ظل الدولة عن الأطراف".

اقرأ/ي أيضًا: كتاب "إشكالية الدولة والطائفة والمنهج": ترميمُ الذاكرةِ في دولةِ المؤرخين

تنقّلت حالتا محمد علي باشا والدعوة الوهابية بين ذينك النطاقين، كمحاولة افتكاك قوة المركز عن الطرف، من أجل السعي لتكوين "دولة - لدعوة" ضمن نوع العصبية المناسب لها في كل من الحالتين، بينما فسّر الانفصال المعنوي "المطالبة باللامركزية" حالتي "العثماني العراقي والسوري"، وشكّلت مسألة محاولة الخروج العلوي (محمد علي باشا) التي بينهما كوثراني هيئة "العثماني المصري"، هنا يستدل المؤلف بذكاء على إحدى ماهيات اختصاص المؤتمر بالحالة السورية واقترابه نحو العراقية دون المصرية.

شكيب أرسلان وتفجير أفق البحث التاريخي

يرسم لنا ولادة فكرة القومية العربية وبذرة الدولة الحديثة من خلال أحد توجهات المجتمعات العربية في الرحم العثماني المتفكك إلى عصبيات محلية وتنازع إداري وأطماع أوروبية، والأصعب هو إقحام الذاكرة في الكتابة القومية للتاريخ بحيث يتم العزف على السمفونية الكلاسيكية القائلة بأن "ثمّة مجتمع عربي يروم النجاة من الاستبداد وهكذا رتّب لنفسه للخروج من هذه الإدارة".

يستخدم كوثراني أداة من تاريخ العينيات والتأريخ المصغّر للأحداث المهملة كذا والشخصيات العديدة، ضمن حقل البحث في مدرسة الحوليات، من أجل اكتشاف وإعادة طرح الكتابة التاريخية بعيدًا عن الأطر القديمة التي غالبًا ما يتمّ رسم نتيجتها ومن ثم السير في البحث، مع أن الأصح هو العكس، التحرّك من معطيات، والكشف عن المستور منها، للوصول إلى تأريخ أجدر.

من ذلك ما بيّنه في ختام القسم الأول، بحيث كان لشكيب أرسلان دورًا يستحق البحث في المجالات الأربع، "العثماني التركي" و"العثماني العربي" و"الجمهوري التركي"، كذا وفي "الإطار العربي" الذي تلا تأسيس الجمهورية التركية، يعني أنّه وغيره من الشخصيات تفتح أفق مختلف تمامًا عن المدوّن في جعبة التأريخ الكلاسيكي العربي كذا والتركي.

استخبار مفاعيل الشرق وتكشيف قواه

في القسم الثاني يستعرض كوثراني الوثائق الفرنسية الدبلوماسية المتعلقة بالمؤتمر، وبالتأكيد من أجل اطلاعٍ أعمّ للدبلوماسية الفرنسية ضمن نطاق الجو الأوسع، وليس فقط للمؤتمر يمكن مراجعة "بلاد الشام في مطلع القرن العشرين: تشريح المكان والتاريخ". هنا يكشف توغّل أوروبا وفهم ماهية ذلك في الوثائق الفرنسية من ناحية، كذا وسعي فرنسا لعمليات ما أسماها كوثراني بـ"التتجير" و"الرسملة" كذا ويضاف لها تكشيف التوجهّات المختلفة للمجتمع ومنها لأعضاء المؤتمر، المؤيد والمعارض، ودرجات المعارضة، وطبائع وإمكانية الاتفاق مع أفراده.

وضع وجيه كوثراني سياق المؤتمر والمراسلات العربية بكافّة أشكالها والمراسلات الدبلوماسية في سياق انهيار النظام العثماني وتمدد السيطرة الأوروبية الاقتصادية

هذا التغول الأوروبي، الفرنسي بالخصوص ضمن نطاق الدراسة، والذي هو عبارة عن مقاولات استعمارية وشركات باحثة عن مصالحها الاقتصادية، لا تتصور في عقلية المؤتمرين على هذه الشاكلة بحقيقة أمرها، هنا ينعى كوثراني ليس فقط على أعلام المؤتمر في عدم تفريقهم بين أوروبا التنوير في القرن الثامن عشر وتلك الاستعمارية التوجّه في القرن التالي بشكل أبرز؛ بل وعدم تسليط التأريخ القومي على مثل هذه الحالات.

اقرأ/ي أيضًا: حزب الله ومسألة الدولة المدنية وولاية الفقيه والطائفية السياسية

هنا ينقل على وجه الخصوص خلط عبد الحميد الزهراوي بين السبب والنتيجة، السبب أوروبا الأنوار كقاعدة أسّست قوتها، والنتيجة أوروبا الكولونيالية، وكذا ما كان لدى عبد الغني العريسي من نظرة انتقائية، أو قل لم ير من أوروبا غير نبزات "علماء سياستها بشأن القومية على أسس كاللغة والمطمح السياسي والتاريخ لكل من ألمانيا وفرنسا وإيطاليا على التوالي" كنظرات أيديولوجية تجاه فرنسا وأوروبا، ومن ناحية أخرى نظرات "معادية للمؤتمرين المسلمين ولاحقة بالمخططات الفرنسية" مثل "ندرة مطران".

يشير كوثراني إلى حقيقة أنّ تلك النظرات في المؤتمر هي عبارة عن "صيغ تبرير واضحة من أجل طلب مساعدة أوروبا"، والتي -برأيي- لا تختلف عن شاكلة "التبرير السابق" لعلماء الدين في الدولة السلطانية التي تبرر للحاكم وتنشئ له سياسة التغلب والاستيلاء وتشرّع ملكه السائر في الاستبداد.

آفاق تحليل مضمون وثائق المؤتمر

شكّل القسم الثالث من الكتاب مجموعة هائلة من الوثائق المتعلقة بأفكار المؤتمر العربي الأول 1913 بحيث لو اعتبرنا كتاب المؤتمر وملحقاته وثيقة واحدة متعددة الأقسام، وأضفناها إلى نحو 59 من الرسائل المرسلة من كافّة أقطار العالم كردود أفعال على المؤتمر، فإننا أمام ما نحوه 60 وثيقة فيها كمّ هائل من تحليل المحتوى، أي أنّه كنز للتاريخ الاجتماعي والذهنيات.

وضع كوثراني سياق المؤتمر والمراسلات العربية بكافّة أشكالها والمراسلات الدبلوماسية في دراسته هذه، ضمن سياق انهيار النظام العثماني وتمدد السيطرة الأوروبية الاقتصادية، بشكل رئيس، وشَرَح الأفكار العامة المشتملة على اعتبار المؤتمرين وجود ما يمكن أن يسمّى بالوطن العثماني الجامع، وتبنّي فكرة الإصلاح بتطبيق اللامركزية في الإدارات المحلية، وبالتأكيد اعتبار ذلك ضمن سوريا الطبيعية.

انتقد كتاب "المؤتمر العربي الأول 1913" الكتابة القومية التي أهملت الكشف عن التاريخ المجتمعي واعتبرت أن هذا المؤتمر هو البذرة القومية، وعمّمت آراؤه على النطاق العربي بشكل لا يحتمل طاقته

فوق ذلك فتح المجال أمام دراسات تأريخ اجتماعية وفي الاجتماع السياسي أكثر تخصصًا، من خلال مراجعة عميقة لعدد من متون تلك المراسلات العربية التي وصلت للمؤتمر، والتي عرضها على سبيل التمثيل لا الحصر، يعني أن كوثراني انتقد بشكل واضح الكتابة القومية التي أهملت الكشف عن التاريخ المجتمعي واعتبرت أن هذا المؤتمر هو البذرة القومية، وعمّمت آراؤه على النطاق العربي بشكل لا يحتمل طاقته كما وقامت بعزله عن سياقيه العثماني والعربي مختلف التوجهات.

اقرأ/ي أيضًا: كتاب "بلاد الشام في مطلع القرن العشرين".. تشريح المكان والتاريخ

غِنى وتنوع تلك المراسلات يكمن في أنّها كانت من مختلف بقاع العالم ومن مختلف الطبقات الاجتماعية، هي من عدد هائل من الطلبة العرب في عاصمة الدولة العثمانية، هي من المشتغلين بكافة الأعمال والمهن في سوريا الطبيعية كذا وفي المهجر، من مثقفين وساسة وإداريين ورتب دينية وهيئات سياسية وروابط ثقافية وجمعيات عربية مختلفة.

فَحْصُ متون تلك المراسلات على قلّتها، وهنا أقول على قلّتها لأن تقديم "التاريخ من أسفل" والكشف عن أبستيم الخطاب من قاعدة المجتمع تجاه تلك الأحداث ليس بالأمر السهل، مقابل الوضوح البائن في أبستيم الطبقة المثقفة الذي انتقد كوثراني من يحصر البحث فيه، بحيث نحصل منه على معلومات تغاير الترسيم العام في "تاريخ الذاكرة العربية" ويصل بنا إلى تأريخ تلك الحقبة بأدوات بحثية إلى نتائج أكثر دقّة. 

الجالية والهجرات

أحد أخطر تلك المواضيع التي يسدل الكتاب فيها نظرته هي الهجرات العربية والجاليات السورية عن "سوريا كوطن عثماني"، نجد أحد المرسلين والمهتمين بأحداث المؤتمر، وهو متغرب عن "وطنه العثماني" منذ عشرين عامًا، يطلب أن يحسبوه مشاركًا في المؤتمر، وغيرها الكثير من التفاصيل شديدة الطرافة في تلك المراسلات حول لفت الانتباه لموضوع الهجرة الحسّاس في فترة الانهيار العثماني.

مما يتضح من كافّة المراسلات أن هنالك هجرات جماعية وفردية، لغايات مختلفة يمكن ملاحظتها من صياغة وأسلوب الرسائل، كذا وعنونتها، والمدن المرسلة منها، وأعداد المرسلين بحيث قد يكون أشخاص خمس في رسالة واحدة تربطهم "آصرة العائلة أو المهنة"، ولذلك مدلوله، وقد يرتفع لعشرين بحسب ظروف كل مرسل وحالهم، ولا يمكن إغفال البحث في "أسباب الاعتذار" عن حضور المؤتمر لهؤلاء الذي استخدموا التلغراف في الإرسال، فأسباب الاعتذار يمكن أن تعطينها لوحدها دراسة خاصّة شيّقة، وما بال "الطلبة العرب" في إسطنبول المطالبين بالإصلاح؟

السياسة العثمانية الحرجة

الشيء الذي يهم التركيز عليه، هو ومع وجود تلك القومية الطورانية الشوفينية، إلا أنّه لم يتّضح من خطابات أعضاء المؤتمر حدّيّةً ما تجاه الحكومة العثمانية، خلا مقاطعة الولوج في المناصب الحكومية، وحتى هذه النقطة اختلفوا على تدبيج تفاصيلها في قرار المؤتمر؛ لفائدة بعض المناصب في تحقيق أهدافه، إلا أنّهم اتفقوا بعد ذلك على ضرورة شديدة لإظهار الحكومة بوادر إصلاح جادّة، مع يأسهم الواضح قبالة ذلك.

سعت الحكومة العثمانية إلى تشجيع أهل سوريا على التخوين والطعن بالقائمين على المؤتمر العربي الأول دون منحهم فرصة للحوار المباشر معهم

ماذا يعني هذا؟ بالتأكيد نقطتين بحثيّتين؛ الأولى هي مدى التجاهل الخطير الذي سعت الحكومة العثمانية فيه لعدم إعطاء معنى لمثل هذا المؤتمر، بل والعكس السعي لجمع المؤيّدين لمحاربة شخصيات المؤتمر، مما يعني أن الاتحاديين، وليس فقط من انقلبوا على سياسة السلطان السابق بحجّة استبداده، بل قد ارتكبوا ذات استبداده؛ مما دعا أصوات أحد المؤتمرين العرب لبيان أن الاتحاديين ليسوا سوى تلاميذ عبد الحميد الثاني "تربيته وعبيده وذليليه"، بحيث كان الخطر في إهمال الحكومة "وجود" الحس الوطني لدى المؤتمرين العرب وصدّه.

اقرأ/ي أيضًا: كتاب "مختارات سياسية من مجلّة المنار لرشيد رضا".. أفكار مبكرة في الإصلاح

النقطة الثانية وهي أنّه لا يزال ثمّة أصوات عربية تعتبرُ بما يمكن أن يسمّى وقتها "الوطن العثماني"، وعدم استثمار الحكومة هذا الأمر قبالة التنافس الأوروبي بحكمة، بل والسعي نحو تأزيم الصراع، بل وتقزيم وظيفة الدولة لتبنّي حلف ألماني في الأيديولوجية الرسمية لها، سيجعل العديد من التوجّهات العربية تتفيأ الظلال المخالفة لهوى الحكومة، تعزيز نفوذ بريطانيا وفرنسا بقصد أو بغير قصد.

قضية أخرى اتضحت من تفاصيل المؤتمر في هذا السياق وهي، بحسب الإفادات الظاهرة في المؤتمر، هو سعي الحكومة العثمانية، ليس فقط في عدم التصرّف بحكمة، بل والتحرك بـ"طيش وفتنة" وتهييج "المؤيّدين" من أهل سوريا وتشجيعهم على التقدّم بخطوات مضادة للمؤتمر كـ"التخوين والطعن" بالقائمين دونما فرصة للحوار المباشر معهم، فيما بعد يُعدم الزهراوي وغيره وتُقلب الطاولة.

ومع ذلك لا يمكن إغفال جدّية المؤتمرين في التواصل مع الحكومة العثمانية، بحيث لاقوا استقبالًا بشوشًا من السفير العثماني في فرنسا، وزير الخارجية السابق، رفعت باشا، بالطبع هذا هو الوجه الآخر من السياسة العثمانية في مواجهة المؤتمر، والتي حاولت منع المؤتمر ليس فقط من الانعقاد في باريس، ولكن من عدم قيامه أساسًا. إلى هذا الحدّ سأترك للقارئ الباحث تحديد ماهية العلاقة بين نخب المؤتمر التي وسمت نفسها بـ"العثمانية"، وبين حكومته التي تتحرك بهذا الطرح المريب.

محرّمات المؤتمر أم محدداته؟

كان هنالك نقطة لافتة للانتباه أشار لها وجيه كوثراني وهي مواقف مقاطعة المشاركين أو المحاورين والخطباء المخولين من قبل رئيس المؤتمر عبد الحميد الزهراوي أو من قبل أحد رؤساء الجلسات، تلك المقاطعة كانت بدرجة أساسية تجري، ليس فقط حين الخروج عن إطار الجلسة بالعموم أو عن هدف من أهداف المؤتمر فقط، ولكن لدواعٍ أخرى.

على الرغم من جدّية المؤتمرين في المؤتمر العربي الأول في التواصل مع الحكومة العثمانية، إلا أن هذه الحكومة حاولت منع المؤتمر من الانعقاد

أهمّ هذه الدواعي هي عند ولوج أحد المشاركين إلى مناقشة "السياسة الخارجية" يتم رفض هذا النقاش وتأتي الموافقة بالإجماع أو بالجمهرة، ولهذا داعيه، كون المؤتمر معقودًا في باريس، ولهذا محاذير واضحة قد تعيق أهداف المؤتمر وسياسته المرادة من ناحية، ومن ناحية أخرى يشير كوثراني إلى نقطة أخرى بنقده المستمرّ للتدوين القومي لأحداث المؤتمر، وهي الماهية الغامضة التي دخل فيها المؤتمر في سياق الظروف الدولية المربكة المهملة من ذاك التدوين المؤدلِج.

اقرأ/ي أيضًا: انتفاضة لبنان.. والطريق نحو التأسيس لتاريخ "لبناني" نظيف

داعٍ آخر أو لنقل محظور يعطينا إشارة عن مدى وجود التنوع والخلاف في ماهية البنية النهضوية في المنطقة العربية، وهي حصر توجيه المؤتمر للإصلاح ضمن القطر السوري الطبيعي، حيث أثناء ورود "طلب بالمناقشة" من قبل (دكتور في الحقوق، مصريّ، سيد أفندي كامل) رُفض ذلك باحترام من قبل رئيس المؤتمر؛ والطريف أنّه في هذه الآن تذكّر تحية "الإخوة المصريين" واعتبر أن "مصر عربية عثمانية"، ورغم ذلك أكّد على أنّ "مصر لها إدارة خاصّة لا ينفذ فيها رأي العثمانيين"؛ هكذا لدينا إشارات مهمّة فما هو "العثماني" في هذه الحال المتناقضة هنا؟

ومع ذلك فقد رأينا نصيبًا لأهل العراق في المشاركة، وليس فقط بـ"الحضور الزخم" الذي كان متنوعًا من الأقطار كافّة، لا بل بمشاركة (توفيق أفندي السويدي) بكلمة فيها دلالات على مشاركة العراقي همومه مع السوري (ولايات حلب ودمشق وبيروت، ومتصرفية لبنان، ونواحي فلسطين الوسيعة)، يمكن فهم العوامل المشتركة في ذلك مع كيل الثقل نحو المسألة السورية بالتأكيد.

لعلّكم لاحظتم أن العنوان مستلهم من كتاب "هويات فائضة ومواطنة منقوصة" الواصف لمثل هذا السياق لذات مؤرخنا ها هنا، والذي سيكون له موضع آخر من التفصيل.

 

اقرأ/ي أيضًا:

كتاب التاريخ اللبناني.. بيت بطوائف كثيرة

"مدينة على المتوسط": أنثروبولوجيا طرابلس.. أدب خالد زيادة