28-يوليو-2021

الباحث الاقتصادي الكوري ها ـ جوون تشانج (Getty)

لكتب الاقتصاد سمعة رديئة بين كثير من القراء، فهي: "معقدة وجافة ولا أثر فيها للتشويق". وقد ترسخت هذه السمعة على يد أكاديميين متجهمين يؤلفون كتبًا لغير المختصين، وكأنهم يكتبون تقريرًا تقنيًا لصندوق النقد الدولي: مصطلحات عويصة وجداول بيانات متاهية، وأسلوب ناشف، واهتمام بكل التفاصيل إلا أكثرها أهمية: إمتاع القارئ.

لقد كنا نحن وكوريا الجنوبية في مصاف واحد، فكيف حدث أن حققت هي المعجزة، فيما لا نزال نحن نراوح مكاننا؟

ولكن لحسن الحظ ليس هذا هو واقع الحال بدقة، إذ ثمة مؤلفون كثر يجعلون من قراءة الكتب الاقتصادية تجربة مثيرة. وإذا ما أردنا استخدام المعيار الشائع (وغير الدقيق بالطبع)، فإن قراءة بعضها يعادل، في المتعة والتشويق، قراءة رواية جميلة.

اقرأ/ي أيضًا: كتاب "الدولة العثمانية في عصر الإصلاحات".. هندسة سوسيولوجيا العسكر

ها ـ جوون تشانج باحث اقتصادي من كوريا الجنوبية، حققت كتبه في السنوات القليلة الماضية رواجًا واسعًا، ليس لأفكارها الذكية ومعلوماتها الثمينة وحسب، بل كذلك بسبب أسلوب صياغتها المميز، فهنا يتم تمديد المعلومة الاقتصادية الجافة، في محلول لذيذ من الحكايا والذكريات والتجارب الشخصية، مع استعارة بعض تقنيات السرد الأدبي، لنقف في المحصلة أمام قصة متماسكة سلسة، تثير الأفكار والمشاعر معًا.

في كتابه "السامريون الأشرار: الدول الغنية والسياسات الفقيرة وتهديد العالم النامي" (الكتب خان، 2015/ ترجمة أحمد شافعي)، يروي تشانج كيف أن الدول الغنية ركلت السلم خلفها بعد أن صعدت إلى القمة، وكيف أنها تستميت في إقناع الدول النامية، باتباع وصفات للنمو تناقض تمامًا تلك التي أوصلتها هي نفسها إلى السيادة العالمية.  

لا يزال خبراء الصندوق والبنك الدولي يتغنون بـ "المعجزة الآسيوية التي حققتها نصائحهم"، ويؤكد شانج أن الطريق الذي اتبعته كوريا الجنوبية، مثلًا، هو عكس طريق الخبراء تمامًا، إذ استخدمت مزيجًا من الحمائية والانفتاح المحسوب، وكان للدولة فيها النصيب الأكبر من المشاريع والصناعات، إضافة إلى القيادة والتوجيه.. الشيء الذي يلقي بظلال كثيفة على مصداقية منظري المنظمات الدولية.

يسرد المؤلف، بدايةً، قصة حياته والتي تتوازى مع قصة النهضة المعجزة في بلاده. ولد في العام 1963 في بيت صغير متقشف، بارد جدًا وليس فيه حمام، وعندما اشترى والده، بعد سنوات، تلفزيونًا أبيض وأسود فقد صار بيتهم مقصدًا للجيران والأقارب، أما الثلاجة فكانت اختراعًا عجائبيًا حيّر الكثيرين. لم يكن هذا حال أسرة تشانج فقط، بل حال كوريا الجنوبية برمتها. بلد متخلف فقير للغاية بلا مشاريع حقيقية ولا فرص عمل، مع تعليم متواضع ذي إمكانيات محدودة. وكانت "سامسونغ" مجرد شركة صغيرة لتصدير السمك والخضروات والفاكهة. وخلال بضعة عقود تغير كل ذلك، فبينما كان تشانج عاكفًا على تأليف كتابه هذا، كان دخل الفرد الكوري الجنوبي قد تضاعف 14 مرة، وكانت كوريا الجنوبية قد صارت واحدة من أغنى بلاد العالم. أما "سامسونغ" فصارت واحدًا من كبار مصدري العالم في مجال الهواتف المحمولة وأشباه الموصلات والحواسب الآلية.

يذكرنا الكتاب بطفولتنا وبحال بلادنا في تلك الأزمنة، لقد كنا نحن وكوريا الجنوبية في مصاف واحد، فكيف حدث أن حققت هي المعجزة، فيما لا نزال نحن نراوح مكاننا، بل ونغذ الخطى إلى القاع؟!

يستبعد تشانج بسرعة كل الأسباب التي تستند إلى أفكار عنصرية وشبه عنصرية، كما يقلل كثيرًا من أهمية الحديث عن ثقافات داعمة للنهوض وأخرى معيقة. فليس هناك شعب نشيط بالفطرة وآخر كسول، شعب ذكي ومؤهل للابتكار وآخر ساذج وغير مبدع. وفي السياق يورد المؤلف هذه الحكاية: في وقت ما من مطلع القرن العشرين دعت حكومة بلد نام خبير إدارة أسترالي ليزور معاملها. وبعد جولة واسعة ومدققة، قال الخبير لموظفي الحكومة إنه كان مندهشًا لضعف رواتب عمالهم ولكن دهشته زالت بعد أن رأى المستوى المتدني لإنتاجية هؤلاء العمال. «لقد رأيت رجالكم وهم يعملون فشعرت أنكم جنس شديد الرضا شديد السلاسة واللين لا يقيم للوقت وزنًا». لقد كان الرجل مهذبًا في ملاحظته، وما قصده حقًا هو أن «رجالكم كسالى مستهترون ويهدرون الوقت»، أما موظفو ذلك البلد فقد أبدوا أسفهم، إذ «لا سبيل الى تغيير عادات التراث الوطني». تخيلوا: لقد كان هذا البلد هو اليابان! فمن يجرؤ اليوم على نعت اليابانيين بأنهم لا يقيمون للوقت وزنًا؟ على العكس صار من المسلم به عند كثيرين أن الثقافة الوطنية هي كلمة السر في النهضة اليابانية.

كذلك كان حال الألمان، فقد اتهموا يومًا بأنهم بليدون يفتقدون سرعة الفهم، وأن لديهم عادات وسلوكيات موروثة لا تحفز التقدم، حتى أن بعض الرحالة البريطانيين في مستهل القرن التاسع عشر وصفوا الألمان بأنهم غير أمناء: «يستغلونك ما استطاعوا استغلالك وفي أهون الأشياء.. والاحتيال في كل مكان». ثم بعد أن غدت ألمانيا قوة صناعية كبرى، تحوّل الحديث فورًا إلى التغني بثقافة الألمان القائمة على الاستقامة والانضباط والمثابرة! وقد تكرر الأمر نفسه مع الصينيين والهنود والكوريين، ومع ذلك يصر الكثيرون اليوم على أن الثقافة العربية الإسلامية هي العائق أمام الدول العربية للحاق بركب التقدم!

يرى تشانج أن في كل ثقافة عناصر داعمة للنهضة والنمو وأخرى معيقة، والثقافة في النهاية ليست قدرًا محتومًا أو جوهرًا عصيًا على التغيير. إن مشروعًا نهضويًا عقلانيًا بإمكانه إجراء تغييرات كبيرة في الثقافة من خلال إيقاظ العناصر الداعمة وتسييدها. وبدلًا من أن تظل إمكانية التنمية رهينة للثقافة، فإن الثقافة يمكن أن تتغير في سياق التنمية.

في كتابه "السامريون الأشرار" يروي تشانج كيف أن الدول الغنية ركلت السلم خلفها بعد أن صعدت إلى القمة

يتوقف المؤلف عند سياسات الدول الغنية المهددة للعالم النامي، وينتقد بشدة وصفات خبراء المنظمات الدولية، كما ينتقد السياسات النيوليبرالية المدمرة، مذكرًا بالعصر الذهبي لليبرالية.

اقرأ/ي أيضًا: "يوميات عارف العارف".. الدولة الأردنية في بداياتها

تخرج تشانج من جامعة سيؤول الوطنية قسم الاقتصاد، ثم درس في جامعة كامبريدج بإنكلترا وحصل على الدكتوراه في عام 1991. وهو زميل مركز الأبحاث الاقتصادية والسياسية في واشنطن. تم اختياره كواحد من أكثر الشخصيات المؤثرة في العالم سنة 2014.

 

اقرأ/ي أيضًا:

كتاب "المسلمون والحداثة": من الفضول الجغرافي حتى الجغرافيا المُستعمرة

كتاب "هل انتهى القرن الأمريكي؟".. ريادة أمريكا عوضًا عن هيمنتها