20-أغسطس-2019

الديمقراطية والتحول الديمقراطي (ألترا صوت)

يندر أن يجد المرء كتابًا يجمع بين مناقشة دقيقة لمسائل إشكاليّة، وعرض واسع لأدبيات الحقل، مساءلة جادة لأفكار قارئه المسبقة، وهو ما قدمه غيورغ سورنسن في كتابه "الديمقراطية والتحول الديمقراطي" الصادر عام 2008 بلغته الأم، والمترجم في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" 2015، يقع الكتاب في ستة فصول، موزعة على 310 صفحات، إضافة إلى الفهارس والخاتمة.

يطرح سورنسن مفهوم "الجمود" كمرحلة أثناء التحوّل الديمقراطي، حيث تَعْلَقُ بلدان في "المنطقة الرمادية" أي بين التسلطية والديمقراطية الهشة

يرى الكاتب أن الطريقة التي تقدّمت بها الديمقراطية في السنوات الأخيرة تدعونا إلى التساؤل عمّا إذا كان التقدّم الديمقراطي سيستمر، وعمّا إذا كانت النتائج الايجابية الكامنة للديمقراطية وشيكة التحقّق. فقد كان من المتوقع أن تؤدي الديمقراطية إلى تنمية اقتصادية سريعة، وتشكيل علاقات دولية تتسم بالتعاون السلمي، والتفاهم المتبادل، وهو ما يدرسه المؤلف ويقيّم واقع هذه التوقعات ومستقبلها.

المفهوم وشروطه

يفتتح المؤلف بحثه بتعريف الديمقراطية، موضحًا أن مفهوم الديمقراطية له تعريفات عدة يصعب حسم السجال حولها؛ لأنَّه خاضع للتغيير المستمر بحكم ديناميكيته، مُظهرًا التمايز التاريخي بين الديمقراطية والليبرالية من خلال كتابات المنظرين الأوائل، معرّجًا على النقاش القديم الجديد حول اللامساواة الاجتماعية الاقتصادية التي من شأنها أن تمنع المواطنين من الحصول على حقوق سياسية متساوية كما يرى روسو وجون.س.مل، وهو ما أكّده ماركس بقوله إن تحقيق الحرية والديمقراطية يُوجب رفض الرأسمالية الليبرالية.

اقرأ/ي أيضًا: الجيش.. من السياسة إلى الثكنة

 ثم ينتقل إلى الشروط المُسبقة للديمقراطية من خلال الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، محاولًا تحديد العلاقات فيما بينهم، وهي الشروط التي تهيئ المسرح لإنتاج خيارات الأطراف السياسية الفاعلة (الديمقراطية أو الإبقاء على النظام التسلطي) فالخيار الديمقراطي لا يفلح غالبًا إلا عندما يعاني النظام التسلطي من الهزيمة في حرب، أو يتفتت نتيجة الانقسام الداخلي، أو عندما تنتصر القوى الشعبية المؤيدة للديمقراطية "المُتمخضة عن نضال أفراد وجماعات تحارب من أجلها"، موضحًا ذلك من خلال نموذج: إسبانيا والبرتغال وأوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية. ليقدم فيما بعد الكيفية التي تؤدي إلى استكمال المسار الديمقراطي بناءً على التفاعلات السياسية الداخلية.

التأرجح الديمقراطي

يطرح سورنسن مفهوم "الجمود" كمرحلة أثناء التحوّل الديمقراطي، حيث تَعْلَقُ بلدان في "المنطقة الرمادية" أي بين التسلطية والديمقراطية الهشة، ويعود السبب لكون البلدان المتحولة هي أصلًا ضعيفة ويسيطر عليها قطاع النخبة، وبالتالي تفشل الدولة في أداة وظائفها، مما يدفع الناس للجوء إلى كيانات أخرى لإشباع حاجاتها. وتعتبر حالات من أفريقيا مثالًا على الحالة الأولى، بينما تمثّل البرازيل (1964) نموذجًا صارخًا للثانية، متفرعًا عنهما الحكم الشخصي الذي يعزّز ولاءه مع النخبة واتباعهم من خلال الاشتراك في تقاسم غنائم السلطة، وفي حال كانت البلدان تملك مواردَ معدنية أو نفطًا تكون للحاكم فرص أفضل في تجاهل المجتمع، وهي تمثل مشكلة كبرى في الشرق الأوسط برأيه، مستشهدًا بمقال المفكر العربي برهان غليون عام 2004 في قوله "نظرًا إلى أن الموارد الوفيرة التي وُهبت للأنظمة العربية، ولتحررها من جميع احتمالات الضغط الشعبي، صار بمقدورها أن تتجاهل الرأي العام، وألا تقلق بشأن تحسين حكمها أو السعي وراء الدعم الشعبي". ولعلنا نجدُ في الكتاب المرجعي لنزيه الأيوبي "تضخيم الدولة العربية" الصادر في تسعينيات القرن المنصرم ما يوافق هذا الطرح حين أسهب في شرح الحدود الجديدة لدولة الحديثة في الخليج العربي وأنها ما زالت قادرة على تأمين ولاء شعبها من خلال هبات حكامها المستمدة من النفط، ولكن ما تتعرض له المملكة العربية السعودية في أيامنا من ضغطٍ لعرض أسهم شركة أرامكو، واستنزاف على عدة جبهات (التورط في حروب خاسرة، تكديس السلاح، دعم الثورات المضادة، استجداء اللوبيات في الغرب، الصراعات الداخلية في الأسرة المالكة) ينذر بخطر جفاف الهبات للمجتمع، ويضع الولاء على محك قاس. ويشير الكاتب إلى أن هناك حالات يشكل فيها العامل الخارجي حافزًا قويًا لتطور التجربة الديمقراطية إلى ديمقراطية كاملة، أي مساعدتها في الخروج من المنطقة الرمادية، مثل المجر وبولندا وإسبانيا.

عن القوى الدولية والديمقراطية

يبحث سورنسن في تفاصيل التدخلات الخارجية، مؤكدًا أن الأطراف الأجنبية الفاعلة إذا تولت زمام الأمور وهيمنت عليها تمامًا، فستعاني الديمقراطية نفسها من الهيمنة، ولكن إذا ساعدت الجهات الخارجية في إعداد لانتخابات حرة ونزيهة، وإن هي مَكَّنَت الشعب تمكينًا ناجحًا في المجتمع المدني بتوفير التعليم والمعلومات وغيرها من وسائل المشاركة الفعالة، صار بمقدورها عندئٍذ المساعدة في ترويج الديمقراطية. وفي ذات الوقت تستطيع القوى الخارجية إعاقة التحول الديمقراطي، ففي أثناء الحرب الباردة كانت القوى العظمى تبحث عن حلفاء، غير آبهة ما إذا كانوا ديمقراطيين أم لا، ودعمت (وما زالت) أنظمة غير ديمقراطية في أمريكا اللاتينية، والشرق الأوسط؛ وبالفعل، فليس هناك مصلحة لها في تحول تلك البلدان إلى الديمقراطية ما دامت تحقق لها مصالحها. وتبقى الديمقراطية سيرورة صعبة برأي سورنسن، "فالديمقراطية لا يمكن تلقينها، بل يمكن تعليمها"، ويجب ترك المهمات الرئيسة للفواعل الداخلية وهي:

1- قادة سياسيون ملتزمون بتعزيز الديمقراطية.

2- بيروقراطية حكومية مستقلة سياسيًا تعتمد مبدأ الاستحقاق.

3- مجتمع مدني حيوي قادر على فرض ضوابط على الحكومة.                                         

نتائج الديمقراطية

محليًا يستعرض الكاتب عدة بلدان من مختلف القارات بحثًا عن المقايضة المزعومة بين التنمية الاقتصادية وتحسين الرفاه وعلاقتها بالديمقراطية، دارسًا الأنظمة التسلطية والديمقراطية والديمقراطيات الوليدة؛ متوصلًا إلى رفض نظرية المقايضة العامة، على أن الديمقراطية والتنمية الاقتصادية لا تسيران تلقائيًا جنبًا إلى جنب، ولا يعزز أحدهما الآخر تعزيزًا متبادلًا، لكن يتوجب التوضيح أنه في الديمقراطيات الجديدة يكون العامل السياسي مهمًا في العملية الاقتصادية من حيث القدرة على تنظيم حكم سياسي مستقر، وتعتمد هذه القدرة على المؤسسات السياسية، وخصوصًا نظام أحزاب سياسية لا يتسم بانقسامه الشديد ولا باستقطابه، مستندًا إلى الحالات التي قام بدراستها هاغرد وكوفمان في قولهما: "شكلت أنظمة الأحزاب المنقسمة والمستقطِبة معوقات كبرى في وجه التنفيذ المستديم للإصلاح". فالديمقراطية لدي غيورغ سورنسن تتيح فرصًا سانحة، أو إطارًا سياسيًا، يمنح الجماعات التي تناضل من أجل التنمية وحقوق الإنسان فرصًا أفضل من ذي قبل لتنظيم مطالبها والتعبير عنها "فالديمقراطية قادرة على منح الفرص لكنها لا تضمن النجاح".

تحدث عزمي بشارة في كتابه المهم "في المسألة العربية" أن الاستثناء عربي وليس إسلامي، ولا يتعارض الإسلام مع الديمقراطية، وإنما تتعارض مع أنماط تدين محدّدة

دوليًا يوضح أستاذ السياسات الدولية سورنسن رأيَ الفيلسوف الألماني المؤسس إيمانويل كانط في أطروحته التي تقول: "إنَّ الديمقراطية قوة مهمة للسلام العالمي" دارسًا إمكانية اتساع الاتحاد السلمي بين الديمقراطيات ليشمل البلدان التي ما زالت في المراحل المبكرة من سيرورة التحول الديمقراطي، مُستنتجًا أن سيرورة التحول الديمقراطي تزيد من احتمالات اتحاد سلمي أكبر لكنها لا تضمن التحقق.

اقرأ/ي أيضًا: خيوط العُنف اللامرئية.. مُقاربة سلافوي جيجك

واشتبك سورنسن مع الرأي المضادة لرؤية كانط من الواقعيين الجدد وعلى رأسهم جون ميرشايمر الذي يدعى فوضوية النظام الدولي، وأن الديمقراطيات عرضة لخوض الحروب مثلها مثل الأنظمة الأخرى، ويميل الكاتب في النهاية إلى صعوبة رفض الطرح العام بوجود علاقة بين الديمقراطية الراسخة والسلام.

استنتاجات المؤلف

طرح الباحث في خاتمته مجموعة من الآراء حول مستقبل الديمقراطية والتحول الديمقراطي، منها:

أولًا: "أنه لا يوجد إلا خصم أيديولوجي رئيس واحد لفكرة الديمقراطية السياسية وهو الإسلام"، لكن غيورغ سورنسن وقع في تناقض فاضح حين عبر عن هذا الموقف بالجزم، بينما عبّر في ذات الصفحة عن عدم وجود مثل هذا التعارض مستدلًّا بحالتي أندونيسيا وتركيا. من جانب آخر، فإن اعتبار الإسلام أيديولوجيا وليس دينًا خطأ فادح، فثمة فرق شاسع بين الأديان والأيديولوجيات، ليس هنا متسع لتوضيح الفوارق بينهما. وقد تحدث عزمي بشارة في كتابه المهم "في المسألة العربية" أن الاستثناء عربي وليس إسلامي، ولا يتعارض الإسلام مع الديمقراطية، وإنما تتعارض مع أنماط تدين محدّدة. وكما يقول ليان تيوريل في كتابه "محددات التحول الديمقراطي": "إنَّ ما يقال عن عوائق دينية أمام التحول الديمقراطي؛ جاء التاريخ ليدحضه في لحظة زمنية لاحقة".

ثانيًا: تمثل العولمة تحديًا صارخًا للديمقراطية، وخصوصًا في المناطق المتقدمة والصناعية في العالم، فقد رأى فروبرت بوتنام أن الولايات المتحدة الأمريكية تشهد تضعضعًا في "رأس المال الاجتماعي" أي سمات التنظيم الاجتماعي كالثقة، والمعايير، والشبكات التي يمكن أن تُحَسِّنَ فعالية المجتمع. والمؤشر الرئيس لقياس رأس المال الاجتماعي هو معدل العضوية في الجمعيات التطوعية، وجمعيات الكورال (الترتيل الكنسي)، وبحسب بوتنام فمن شأن الانخفاض في الرأس المال الاجتماعي أن يقوض حيوية الديمقراطية في الديمقراطيات الراسخة والثرية.

 ليان تيوريل: "إنَّ ما يقال عن عوائق دينية أمام التحول الديمقراطي؛ جاء التاريخ ليدحضه في لحظة زمنية لاحقة"

اقرأ/ي أيضًا: في راهنية مشروع عزمي بشارة عربيًا

أما التحدي الآخر فهو أن قدرة الحكومات الوطنية على التحكم بمجريات الأمور داخل إطار حدودها آخذة في التناقص، لأن التطورات الاقتصادية وغيرها تقررها عوامل خارجية لا سيطرة لهم عليها، لذلك يعجز القادة الوطنيون عن إدارة الشؤون الوطنية.

ملاحظات عامة

  1. يشكل الكتاب لمحة عامة عن الديمقراطية والتحول الديمقراطي وآفاقهما، لذلك يمكن اعتباره مدخلًا جيدًا لأي قارئ يبحث عن معرفة في تلك القضايا، وفي ذات الوقت فهو بحث أكاديمي غنيٌّ بالمعلومات الإحصائية، بالإضافة إلى عرض سلسلة واسعة من المفاهيم المُستخدمة في حقلنا هذا، وشمولية في استعراض الجدل والنقاش الدائر حول كل فصل من فصوله.
  2. ناقش الفصل السادس علاقة الديمقراطية بزيادة التعاون الدولي وانتشار السلام، لكنّ عنوانه بالعربية "النتائج الداخلية للديمقراطية" يناقض محتواه، وتبيّن أنّه خطأ من المترجمة، فعنوان الفصل في الأصل: "International Consequences of Democracy".
  3. للكتاب سياق زمني يجب على القارئ أن يضعه في حسبانه ليتسنى له فهم السيناريوهات التشاؤمية التي طرحها الكاتب، فمثلًا جاءت إضافة الفصل الثالث والرابع في طبعته الأخيرة والتي هي بين يدينا، بعد أكثر من عقد ونصف على حالة الركود الديمقراطي في العالم جراء الموجة الثالثة من التحول الديمقراطي في أوروبا الشرقية وبعض الدول في أمريكيا اللاتينية، وبقيت تتأرجح تلك البلدان بين التسلطية المحضة وتعسر ولادتها الديمقراطية الكاملة، أما الفصل الرابع فقد جاء بعد أربع سنوات على الغزو الأمريكي للعراق وهو برأيي ما أجبر الكاتب على دراسة الترويج الديمقراطي من الخارج، وسبب ظهور عبارة تشاؤمية قاسية في نهاية أحد الفصول: "مما يؤسف له هو وجود خطر وشيك من أن يجد المحللون أنفسهم قريبًا بصدد مناقشة التفسخ الديمقراطي بدلًا من الترسيخ الديمقراطي".

يقول سورنسن: "هل تستحق الديمقراطية حقًا تجشم كل هذا العناء؟" وهو أحد الأسئلة التي يطرحها الكاتب علينا، ولا نعود بعدها كما كنّا من قبل!

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل صُنع العدو يجعلك تقتل بضمير مرتاح؟

زيجمونت باومان.. نقد صلب لـ"الحب السائل"