01-فبراير-2023
كتاب الجماعات الإسلامية المسلّحة

كتاب الجماعات الإسلامية المسلّحة

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ضمن سلسلة ترجمان، كتاب الجماعات الإسلامية المُسلّحة: الخصائص السوسيولوجية والأسباب والنتائج، وهو تأليف ستيفن فيرتيغانز وبمساهمات من دونشا مارون وفيليب ساتن، وترجمة مازن مرسول محمد، ومراجعة باسم سرحان. يقع الكتاب في 416 صفحة، ويشتمل على ببليوغرافية وفهرس عام.

يقدّم الكتاب إطارًا اجتماعيًا لفهم صعود الجماعات المسلحة الحديثة وطبيعتها. ويتبع المؤلف فيه مقاربة منهجية للظاهرة، ويحلّل حالات من جميع أنحاء العالم، ويُجري مقارنات للظاهرة بالديانات الأخرى، أسبابها وعواقبها. ويتناول أيضًا بالبحث مفاهيم ونظريات اجتماعية مرتبطة بالانغلاق الاجتماعي والحركات الاجتماعية والقومية والمخاطر والخوف و"نزع الحضارة"، وذلك ضمن ثلاثة محاور رئيسة: خصائص الجماعات المسلحة، والأسباب المتعددة الطبقات وعواقب التشدّد، ولا سيما ردات الفعل الغربية في إطار "الحرب على الإرهاب". إضافة إلى ذلك، فإنه يستكشف العلاقات المتبادلة بين السلوك الديني والسلوك العلماني، "الإرهاب" و"مكافحة الإرهاب" والدعم الشعبي والمعارضة، من خلال فحص أمثلة من الجماعات والمجتمعات المسلمة، بينما يتحدى النزعة الشعبية في تركيزها على تنظيم "القاعدة" والشرق الأوسط.

يقدّم كتاب الجماعات الإسلامية المُسلّحة إطارًا اجتماعيًا لفهم صعود الجماعات المسلحة الحديثة وطبيعتها. ويتبع المؤلف فيه مقاربة منهجية للظاهرة، ويحلّل حالات من جميع أنحاء العالم

القاعدة وما بعدها

يمكن النظر إلى التطور المعاصر لمختلف المجموعات المسلّحة عمومًا، وإلى العنف بشكل خاص، باعتبارها نتيجة طَيفٍ من العمليات الاجتماعية والمؤسسات والنشاطات التي تسترشد بعقائديين ومناضلين تاريخيين. وتشمل هذه العمليات التحديث والعلمنة، والعلاقات البينية مع الأحداث التاريخية، والسياقات المحلية والوطنية والدولية. فالعديد من الإرهابيين ليست لديهم تجارب شخصية مع العوامل التي تُحسَب على نطاق واسع أسبابًا للإرهاب "الإسلامي"، أي الفقر المطلق والنسبي أو غسل الأدمغة. وبدلًا من ذلك، يوفر التفاعل بين الأفراد، ووكلاء أو أوصياء التنشئة الاجتماعية، والخطاب الإسلامي المتشدّد، والعلاقات والنشاطات الاجتماعية المحلية والعالمية، طرقًا متنوعة لولوج الأفراد إلى التشدّد والإرهاب. ووسط هذه الأطر، تساعد عمليات التنشئة الاجتماعية على تحويل الهويات، وتساهم في توليد التطرف المفضي في نهاية المطاف إلى العنف السياسي. لذلك لا يوجد مسار واحد يعقب غسل الأدمغة أو الحرمان الاقتصادي. وتُضفى المشروعية على الرسائل المتشدّدة، من خلال الأحداث والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، والثقافية والسياسية المحلية والعالمية، التي يواجهها الأفراد شخصيًّا أو ينقلها إليهم من يتولون تنشئتهم. ويحدث هذا بالنسبة إلى بعض الناس، من خلال معايشة القضايا والتجارب المحلية. وبالمقارنة، بالنسبة إلى العديد من الأمميين، تكتسب مجموعة متنوعة من القضايا المحلية والدولية أهميةً، بما في ذلك انتشار الفساد، والاعتداءات الأميركية على العراق، والنضالات الوطنية في الشيشان وكشمير والأراضي الفلسطينية.

وللعوامل المتنوعة أهمية كبيرة في محاولات هزيمة الإرهاب. وأصبح من الواضح على نحوٍ متزايد أن الحرب العسكرية التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية ضد الإرهاب أثبتت فشلها. وبعبارة أخرى، توفر الحربُ الشرعيةَ للخطاب الذي خططت لهزيمته، وفي الوقت نفسه تُضعف المفاهيم والمبادئ الغربية التي يُفترض أن تدافع عنها. إن التعرض للسلوك الغربي كما يعتقد كثيرون، وبخاصة في الغرب، لا يؤدي بالضرورة إلى القبول به أو تقليده على نطاق واسع. وعلى العكس من ذلك، يمكن أن يساهم هذا التعرض في تطرف العقائد المضادة. وعند دراسة مجموعة واسعة من القضايا التي تقف خلف الإغراء الذي يشكله التشدّد وتشمل القمع، والتمييز العنصري، والفساد، والسلوك اللاأخلاقي، والاستبعاد السياسي والاقتصادي، يتضح أن "الحرب على الفقر" تنجح جزئيًّا فحسب في تفسير أسباب التشدّد.

الانغلاق الاجتماعي والتكفير

يوفر مفهوم الانغلاق الاجتماعي عند ماكس فيبر بصيرة تنفذ إلى العمليات التاريخية والمعاصرة التي تقف خلف استبعاد التشدّد، ووضع قوانين انغلاق استيلائية متشدّدة. وفي أعقاب تشكيل الدول الوطنية المسلمة المستقلة بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية وانسحاب الاستعمار الغربي، طُرحت مجموعة متنوعة من المواقف الأيديولوجية والبنى والمستويات من العلمنة، تيسيرًا لعملية التحديث. وقد نفِّذت عمليات العقلنة، للمساعدة في تطوير الدولة القومية القائمة على العلاقات الترابطية والمعايير الفردية. ومع ذلك، فقد جرى التنازل على نحو متزايد عن قوانين الاستبعاد العلمانية، حين سعت الحكومات لاستعمال الدين لمصالحها في إطار الحقول الثقافية والاجتماعية. وكانت النتيجة غير المقصودة لهذا التنازل إعادةَ إنعاش النفوذ الإسلامي في تحديه للخطاب السياسي العلماني، وتأسيسَ قواعد مختلفة للانغلاق ذات طابع مطلق وأكثر معارضةً للدول القومية. وتبقّى العديد من المشكلات لدى تلك الدول والمجتمعات، بينما فشل الوعي القومي مرارًا في جذب التأييد الواسع النطاق. وبدلًا من ذلك، حصل لدى المجتمعات المسلمة، والجاليات المسلمة في الغرب، نمو للوعي الجمعي وهوية المصالح المشتركة. وقد استعملت الجماعات والمؤسسات الدينية الواعية ذاتيًّا التقاليد، والعلاقات المجتمعية، والمشاعر والأنماط السلوكية المشتركة، لاستمالة الجماعات الاجتماعية والاقتصادية. وقد ساهم التعليم في تعزيز الصدقية والوعي القومي والإسلامي على حدٍّ سواء. ويمكن أن تتقاطع مصادر التماهي هذه مع الاقتصاد لتدمج الوعي السياسي والثقافي؛ وهو ما يضعف العقلنة الرسمية. وإذا أشارت تجارب الناس إلى فشل الحكومات في الإيفاء بالوعود، وظهرت تناقضات في الصدقية، تضعف عندئذ قوانين الانغلاق المهيمنة وتصبح عرضة للتحدي.

اليوم، هناك عدد أكبر من المسلمين على استعداد لتبنّي "تصورات عالمية"، تشكِّل أساسًا لقوانين استبعادية تتحدى قوانين الدولة القومية والزعماء الدينيين السنّة المنتسبين إليها. فهؤلاء يساهمون في تعزيز فكرة "الآخر" [الآخروية] بين من ينتمون إلى أديان مختلفة. ويعترض هؤلاء المسلمون المتشددون على احتكار الانغلاق، طبقًا لمعايير الدولة القومية العلمانية. وعلى الرغم من حصول ضعف في صلابة العلمانية، يطالب المتشددون بتبنّي قيم مناقضة جوهريًّا لقيم الدولة العلمانية وبتطبيق طرائق ضبط وتنظيم مختلفة. وقد جرى عكس مسار التطور المتوقَع للانغلاق من المعيار الاجتماعي إلى الفرداني. وتحولت القواعد من الاعتمادية الفردانية إلى الطائفة الدينية. وبالنسبة إلى أصحاب التوجه العابر للقوميات المنتسبين إلى تنظيم القاعدة، يجري استبعاد غير المسلمين والمسلمين الذين لا يتشاركون المعتقدات والالتزامات نفسها، وأحيانًا كثيرة يُعزلون أو يُنبذون دينيًّا تمهيدًا لمعاقبتهم بأقصى شكل من الانغلاق، وهو الموت.

اليوم، هناك عدد أكبر من المسلمين على استعداد لتبنّي "تصورات عالمية"، تشكِّل أساسًا لقوانين استبعادية تتحدى قوانين الدولة القومية والزعماء الدينيين السنّة المنتسبين إليها

تحدي مجتمع المخاطرة

هناك استراتيجيا وقائية دائمة تقوم على تجنُّب مواجهة هذه الحقيقة المجهولة لكن القاهرة من التطرف والإرهاب "الإسلامي". ومما يدعو إلى السخرية أنه بمواجهة سيف ديموقليس المتدلي فوق رؤوس السكان الغربيين، تحوَل الأفراد المهددون، والدول والمؤسسات والشركات الخاصة، إلى استراتيجيات وتقنيات إدارة المخاطر، كأفضل استجابة لتهدئة هذا الشك الجذري الطارئ. ومع ذلك، فهذه ليست المخاطرة التي سجنت الأفراد في شبكة من التضامن كما في عز مجتمع الرفاه، والدفاع عن الحرية الفردية من خلال الضمان الاجتماعي. وعلى العكس من ذلك، إنها استراتيجيا شكلتها الليبرالية الجديدة، وهي تقوم على فردانية الاحتراس والوقاية؛ حيث تجبر السلطات المعرضين للخطر على تقبُّل المخاطرة الماثلة أمامهم. وهكذا، على جميع المستهدَفين، من شركات تجارية وسلطات حكومية وأفراد، أن "يصمدوا"، ويسعوا للحصول على تأمين حيثما استطاعوا، وأن يقيّموا باستمرار فرص الهجوم ويعيدوا تقييمها، وكذلك نطاق "مرونتهم" في التعامل معه. وتنشر المؤسسات المختلفة والسلطات الخاصة المخاطرة، بصفتها موردًا لرسم ملامح/ صورة التدفقات البشرية المشبوهة عبر حدودها، فتقوم بمحاصرة وتحييد الأشخاص الذين تبدو عليهم أكثر السمات إزعاجًا بحسب نموذج المخاطرة المعتمَد. وفي حين أن الوقاية من المخاطرة وتوزيعها غطيا على التصدعات في تناقضات الرأسمالية، وقدّما رؤية تقدمية لـ "التحرر من الخوف"، فإن تزامن فردانية المخاطرة وعولمتها يمثل عكس تلك الرؤية؛ فالرأسمالية نظام يعيش من التوليد الدائم للخوف وعليه.

لذلك، فإن تفسير الحكومات والسلطات الغربية لظاهرة الجماعات الإسلامية المسلّحة بواسطة المخاطرة مثيرٌ للاهتمام على وجه التحديد؛ بسبب ما تمثِّله المخاطرة على نطاق أوسع. كما يُظهر أولريش بيك أن التفكير في المخاطرة اليوم يلغي المعرفة، ويفنّد إمكان فهم أو إدراك أعمال أو استراتيجيا الجماعات المتشددة الأجنبية أو المحلية. وبمعنى ما، يكشف التوازي الغريب عن نفسه بين إعادة التسمية الجديدة "الحرب الطويلة الأمد" والنهايات المفتوحة لطبيعة المخاطر غير المحدودة كما هي مفهومة اليوم. وتتشبث النخب السياسية بفكرة الحرية مقابل الاستبداد، وتصف هذه الجماعات المتشددة المعارِضة بأنها جماعات شريرة ومنحطة وضالة، وعصية على الفهم. ومن ثم، من خلال نشر مثل هذا الخطاب الأخلاقي، تُعدّ هذه الجماعات جوهريًّا ضمن "الآخر".

ونتيجة لذلك، فإن التكوين الاجتماعي لهذه الجماعات، والإرث التاريخي، والسياسة، والعنصرية والإمبريالية التي تتحابك حول تطورها، تُكبت وتُخفى عن المشهد. وفي الوقت نفسه، بعد أن توسَم هذه الجماعات إلى الأبد بصفة "الآخر"، يصبح خطاب المخاطرة وسيلة مركزية لتأخير المشكلة: فإن كان من غير الممكن تغيير سلوك هذه الجماعات أو تحولها عن نهجها تصبح المخاطرة [الخطر[ التي تمثلها قابلة للتقليل أو التجنب فحسب ويستحيل إخمادها أو القضاء عليها. ويتعمّق الفصل السادس في بعض هذه القضايا عند بحث التفاعلات بين الأعمال الإرهابية، والتهديدات المصاحبة لها، والعمليات السياسية، والثقافية، والاجتماعية والاقتصادية من جهة، والوعي الفردي من جهة أخرى.