07-يوليو-2020

إلين مختفي

"عند حلول الليل، التحقتُ رفقة بعض الزملاء بالمتظاهرين الذين كانوا من الطلبة والشباب وحتّى من الأطفال، كنّا منتشرين في الشوارع الرئيسية لوسط المدينة بالقرب من البريد المركزي. تمّ رشّنا بالماء وبالغاز المسيل للدموع واندفعت نحونا شاحنات عسكريّة، أُخذنا على حين غرّة ولم يكن لدينا حتّى مناديل لنغطي بها وجوهنا، صرخنا وركضنا. كنتُ أسمع البعض يصرخ على إيقاع القرع على هياكل السيارات المركونة على جنبات الطرق: "يحيا بن بلّة" "بن بلّة رئيس" "تسقط الدكتاتورية". تكرّر نفس الشيء خلال خمس أو ست ليال أخرى، إلى أن تفرّق النّاس. لقد كنّا بضع مئات في الليالي الأولى وبضعة آلاف في أواخرها. كانت الاحتجاجات ضعيفة ودون أثر، وقد كنّا عاجزين" (ص 88).

كتاب "الجزائر عاصمة الثورة" ذكريات أكثر من ثمانين سنة في ثمانية فصول للمناضلة الأمريكيّة إلين مختفي

هكذا استعادت المناضلة الأمريكيّة إلين مختفي (1928) مشاركتها في المظاهرات المندّدة بانقلاب وزير الدّفاع هواري بومدين (1932-1978) على رئيسه أحمد بن بلّة (1916-2012) في التاسع عشر من حزيران/يونيو 1965، في كتابها "الجزائر، عاصمة الثورة. من فانون إلى الفهود السوداء" الذي صدرت ترجمته إلى اللغة الفرنسيّة عن دار البرزخ منذ سنة، والذي قدّمته الدار في طبعة العام الماضي من صالون الجزائر الدولي للكتاب في جوّ من الأحداث السياسية المتلاحقة. عادت إذًا الين مختفي إلى الجزائر حاملة ذاكرتها كاملة بعد أربع وأربعين سنة، ظلتّ خلالها ممنوعة من الدّخول إليها.

"كانت الحياة مغامرة حقيقيّة"

تنتظم ذكريات أكثر من ثمانين سنة في ثمانية فصول، تبدؤها إلين من إبحارها عبر المحيط إلى باريس سنة 1951، المدينة الشاحبة والرماديّة التي ما زالت آنذاك تعيش آثار الحرب والصدمة، حيث ستعملُ مترجمة وفيها ستنحاز آراءها السياسية إلى اليسار، ضدّ الاستعمار وضدّ العنصريّة، يقودها خيارها هذا إلى السفر في أوروبا وإلى بعض العواصم الأفريقية المحرّرة، حيث ستلتقي جزائريين يمتازون بالصمت والإصرار وذلك الجزء الغامض في شخصيّتهم، من بين هؤلاء فرانتز فانون ممثّل الحكومة الجزائريّة المؤقتة في أفريقيا، الذي ستلتقيه عدّة مرّات وتقدّم لنا فيه شهادة إنسانيّة بالغة التأثير.

اقرأ/ي أيضًا: "بشرة سوداء.. أقنعة بيضاء" لفرانز فانون: عن كتاب لا يزال مظلومًا

عملت إلين خلال حرب التحرير في مكتب الجزائر بنيويورك الذي كان يضمّ بضعة أشخاص متطوّعين يتسببون في مضايقات كبيرة للبعثة الفرنسيّة في الأمم المتحدّة التي كانت تضم قرابة المائة موظّف. ستتنقّل إلين بعد الاستقلال بين أعمال كثيرة في إدارات مختلفة، مقدّمة شهادة مركّزة عن بناء الدّولة الجزائرية عقب الاستقلال.

تتوقّف إلين طويلًا عند الفهود السوداء (حركة تحررية يساريّة، واحدة من المحطات المهمة في كفاح السود الأمريكيين) التي كانت الجزائر ملاذًا لبعض زعمائها وخاصّة إلريدج كليفر (1935-1998)، وعن قربها الشديد منهم، وكيف صنعت معهم أمريكا الصغيرة في الجزائر العاصمة، كما تسرد قصص اختطاف الطائرتين الأمريكيتين اللتين حطّتا في مطار الجزائر ومصير المختطفين والأموال الكبيرة التي بادلها هؤلاء بالرهائن.

لم يشفع لإلين نضالها في نيويورك لأجل القضيّة الجزائرية قبل الاستقلال ولا السنوات الإثنا عشرة التي قضتها في الجزائر بعده، ولا حتّى زواجها من مناضل جزائري، لتحقيق رغبتها في الحصول على الجنسية الجزائرية، بل ستعيد السلطات الجزائريّة إلين إلى باريس على متن نفس الطائرة التي أقلّتها إلى الجزائر، سينام بعدها اسمها طويلًا على قائمة الممنوعين من الدخول إلى الجزائر، وبعد عشرين سنة من الحياة في باريس ستعود إلين إلى نيويورك، إلى نقطة البدء.

لم يشفع لإلين مختفي نضالها في نيويورك لأجل القضيّة الجزائرية قبل الاستقلال لتحقيق رغبتها في الحصول على الجنسية الجزائرية

لا نشعر بدورة التاريخ هذه عندما نقرأ الكتاب على أنّه سيرة ذاتية فحسب، بل يترسّخ أيضًا هذا الانطباع عندما نتناول الكتاب كشهادة حول تاريخ الجزائر المستقلّة، إن القارئ يشعر بأنّ التاريخ يعيد نفسه أو لم يتحرّك قط خلال سبعة وخمسين سنة من الاستقلال، فنفس الأشخاص ما زالوا يعيدون طرح نفس الأسئلة ويتخبّطون في نفس المشاكل. فقد أُسندَ لإلين مثلًا، غداة الاستقلال، مهمّة لا قِبلَ لها بها عندما كُلّفت من طرف الرئاسة بترتيبات استقبال الملك الحسن الثاني، أوّل زيارة رئاسية للجزائر عقب استقلالها، فلم تجد إلين من حل إلاّ مراجعة الجرائد والأفلام، وتخيّل برنامج، تمّ تنفيذه دون أخطاء، "لم يكن الارتجال ميزة شخصيّة بل وطنيّة، زعيمه أحمد بن بلّة الذي كان أسيره وضحيّته في آن".

اقرأ/ي أيضًا: تمثال الأمير عبد القادر.. ماذا بقي من الرمز؟

الوصول إلى الفن

عندما تفكّكتْ مجموعة الفهود السوداء، سافرت إلين إلى الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1971 لحشد الدّعم والمعونات لشبكة تواصل الشعوب الثائرة التي أطلقها إلريدج كليفر، أثناء السفر طرحت إلين على نفسها أسئلة كثيرة، أهمها وأعمقها: "أيّ شخص كنته حقًا؟"، ليس غريبًا أن يبدأ النص في التباطؤ من هذا السؤال، إلى أن نكتشف في آخر الكتاب أنّ أستاذ إلين في المرحلة الثانوية قد تمنّى لها مستقبلًا في الفنون التشكيلية، لكنّ الطفلة التي كان يُشار إليها في المدرسة "باليهودية الصغيرة" أو بـ"قاتلة المسيح"، التي سافرت إلى الجنوب صغيرة مع والديها ورأت العنصريّة تجاه السود والمكسيكيين، اختارت الترجمة وتعلّم اللغة الإسبانية والنضال فيما بعد مع كلّ القضايا العادلة، لتعود بعد عمر في باريس إلى صناعة وبيع الحلي ثمّ تعلّم الرسم، والانتهاء فنّانة تشكيلية، تقيم معارض وتتظاهر كلّما أمكنها دعمًا لأقدم القضايا، قضيّة فلسطين المحتلّة وقضايا أخرى، "أبحث عن الجزائريين في هذه المظاهرات، شبابًا وشيوخًا، فهم أناس يحملون روح الماضي، أستغرق وأتذكّر، أسترجعُ شبابي".  

حبّ من النظرة الأولى

كان أمرًا يفوق كلّ توقّعاتها جنونًا، عندما استقبلت زهرة وزير عدل الرئيس بن بلّة، مكلَّفًا بمهمّة من نوع خاص، وهي أن يرى ما إذا كانت زهرة موافقة على أن تكون زوجة للرئيس بن بلّة. كانت زهرة سلامي، احدى زميلتين مقرّبتين جدًا من إلين في وزارة الاتصال، "امرأة فاتنة، يقودها حدسها، مليئة بالحياة... جميلة مثل وردة، كانت لها طرق فريدة وآسرة في الحديث".

إلين مختفي: "حكايتي مع الجزائر لن تنتهي أبدًا، لقد اجتاحت واحتلت كياني طوال كلّ هذه السنوات"

اقتادها بعد أيّام جنود من الأمن العسكري معصّبة العينين إلى مكان مجهول حيث الإقامة الجبرية للرئيس السابق، وما إن رأت الرّجل الذي كانت معارضة له عندما كان رئيسًا والذي يكبرها بثلاثين سنة حتّى أحبّتهُ. لقد كان "حبًّا من النظرة الأولى" كما حكت لصديقتيها، زهرة التي رفضت تقرّب وزير الدفاع هواري بومدين تزوجت من بن بلّة الرئيس السابق.

اقرأ/ي أيضًا: هل سيكتب تاريخ الجزائر من جديد؟

لم تكن هذه قصّة الحبّ الوحيدة في كتاب مليء بالأسماء والأحداث، بل كانت هناك قصة كلافر ومليكة الجزائرية، وجوزي وفرانتز فانون وقصّة حبّها وزواجها هي بالمناضل والكاتب مختار مختفي. أمّا حكاية الحبّ الكبيرة فهي حكايتها مع الجزائر، تكتبُ إلين في الصفحة 245 "حكايتي مع الجزائر لن تنتهي أبدًا، لقد اجتاحت واحتلت كياني طوال كلّ هذه السنوات. لقد كنتُ من بين الحالمين الذين قصدوا الجزائر لبناء عالم جديد. آمنت بالشعب الجزائري، آمنت بقلبه وبروحه، أثناء الحرب وخلال إعادة بناء بلد عُذّبَ حتى الاستشهاد".

 

اقرأ/ي أيضًا:

حسين آيت أحمد.. رحيل آخر الثوار المعارضين